رغم كون مصر واحدة من أكثر دول العالم جفافًا، وهي الأعلى اعتمادًا على مصدر أوحد للمياه يتمثل في نهر النيل، والذي يوفر أكثر من 93% من احتياجاتها المائية، بحسب الوثائق الحكومية المصرية، تظهر آخر ورقة بحثية صادرة عن “مبادرة الإصلاح العربي” في هذا الشأن، أن الحديث عن الأزمة المائية في مصر يتسم بغلبة التركيز على اتفاقيات المياه مع بعض دول حوض النيل، وصحة أخبار انتهاء إثيوبيا من ملء وتشغيل سد النهضة من عدمه. فيما يغيب الحديث الحقيقي عن الأهم في هذا الملف. وهو مدى التأثير المحتمل لتشغيل السد على نصيب الفرد في مصر سنويًا من المياه الآن وفي المستقبل القريب والبعيد.

ويتركز اهتمام الدولة والخبراء -على حد سواء- على مسألة بناء السد وقدرته على تخزين المياه. وتظهر الصور الفضائية الحديثة، التي التقطت يوم 24 مايو 2022، استمرار تدفق المياه من خلال إحدى فتحات التصريف. يقول عباس شراقي أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية، في منشور عبر حسابه الشخصي بـ”فيسبوك”: “أتمنى أن نصل إلى اتفاق قبل الأول من يوليو موعد التخزين الثالث، حتى وإن كان قليلًا، لأنه سيترك أثرًا معنويًا سلبًا على المواطن المصري رغم عدم تأثره مائيًا”.

وجملة “رغم عدم تأثر المواطن المصري مائيًا” هذه التي يصدرها خطابنا العام هي ما تختلف معه ورقة “مبادرة الإصلاح العربي” البحثية. ذلك من باب أن أزمة سد النهضة على حداثتها هي أحد العوامل التي قد تساهم في تكريس وزيادة ندرة المياه في مصر. وأنها إلى جانب باقي التغيرات المناخية المتسارعة ستؤثر بلا شك على نصيب الفرد من المياه في مصر.

للاطلاع على الورقة البحثية كاملةً.. اضغط هنا

اتفاقيات مياه النيل

في ورقة “مبادرة الإصلاح العربي” يعرض الباحث شريف محي الدين المتخصص في الدراسات اﻷمنية وعلم الاجتماع السياسي لتاريخ الاتفاقات الدولية التي تستند عليها مصر في التأكيد على حقها في حصة المياه من حوض النيل. وهي تمتد لقرابة 100 عام. إذ شكلت المعاهدة الإنجليزية-المصرية في عام 1929 إحدى أولى هذه الاتفاقات. ثم جاءت بعدها الاتفاقية المصرية-السودانية في العام 1959. أي بعد ثلاثة أعوام من استقلال السودان عن الحكم الإنجليزي-المصري المشترك. وفيها تمت زيادة الحصة السنوية المضمونة لمصر من المياه إلى 55.5 مليار متر مكعب. وكذا زيادة حصة السودان إلى 18.5 مليار متر مكعب. وهو ما تعترض عليه إثيوبيا حاليًا، وتحاجج بكون هذه الاتفاقيات غير ملزمة لها. ذلك كونها تمت في حقبة استعمارية كما في حالة اتفاقية 1929، أو لم تشملها كطرف كما في حالة اتفاقية 1959.

مصر عانت فقر المياه قبل السد بسنوات

يقول الباحث إن الحديث عن الفقر المائي والتهديدات التي تحيط بمسألة الاستدامة المائية في مصر هو حديث قديم متجدد. فمصر كانت قد دخلت مرحلة الفقر المائي قبل شروع إثيوبيا في بناء سد النهضة بسنوات.

وفي 2007، بلغ نصيب الفرد من المياه في مصر 740 متر مكعب سنويًا. ويبلغ حد الفقر المائي العالمي ألف متر مكعب للفرد سنويًا. ومن المقدّر أن يبلغ نصيب الفرد من المياه في مصر متوسط مقداره 566 متر مكعب سنويًا بحلول عام 2025. وفقا لوزارة الري والموارد المائية المصرية.

أسباب ندرة المياه في مصر

وهنا، يحدد الباحث 3 عوامل رئيسية وأسباب جذرية وراء ندرة المياه في مصر. ومن ثم تفاقم الفقر المائي الحاد فيها. ومنها النمو السكاني المتزايد. وهو من أخطر الظواهر التي تؤثر على كافة القضايا تقريبًا. بما فيها السياسات المائية. ففي دولة مثل مصر -وهي الأكبر من حيث عدد السكان في العالم العربي كله وتحتل المرتبة الثالثة من حيث عدد السكان في القارة الإفريقية بعد إثيوبيا ونيجيريا- فإن استمرار النمو السكاني المطرد يساهم في تفاقم الأزمة المائية.

كذلك وبالرغم من أن تأثيرات تشغيل وملء سد النهضة لا تزال غير محددة ومعروفة بدقة، فإن توجه إثيوبيا الأحادي في تشغيله وعدم تقديم ضمانات كافية لدولتي المصب تراعي احتياجات شعوبهم المائية هو أمر يزيد من القلق والمخاوف حول تأثيرات تشغيل السد.

ويشير الباحث أيضًا إلى التغيرات المناخية، فيقول إن هناك حاجة لمزيد من الدراسات في هذا الصدد، لاستشفاف مدى تأثر الموارد المائية المختلفة في مصر بالتغيرات المناخية. ومن ثم موائمة وإعادة تصميم السياسات المائية وفقا لهذه المتغيرات.

فمقارنة بنصيب الفرد من المياه الذي كان يبلغ 1893 متر مكعب سنويا في عام 1959، فإن الزيادة السكانية المهولة والمتضاعفة التي تشهدها مصر تؤثر أبلغ الأثر على الأمن المائي. والمفارقة أنه حتى ولو استبعدنا من الناحية النظرية أي تأثير سلبي لأعمال بناء وتشغيل سد النهضة الإثيوبي على نصيب الفرد من المياه، فإن مصر ستظل في مرحلة الفقر المائي الحاد.

للاطلاع على الورقة البحثية كاملةً.. اضغط هنا

أرشيفية
أرشيفية

اقرأ أيضًا: مصر والفقر المائي| حكايات مما وراء السد (5)

أخطاء الاستراتيجية المصرية في إدارة المياه

ومما سبق ينطلق الباحث للحديث عن اهتمام مصر التشريعي بالسياسات المائية، وفي القلب منها نهر النيل، بوضع أول تشريع خاص بحماية نهر النيل والمجاري المائية من التلوث. وهو القانون رقم 48 لسنة 1982. لكنه يلفت في هذا القانون إلى غياب البعد الاستراتيجي والمتمثل في صياغة سياسات مائية وإشراك المجتمع فيها.

ويقول إن الخطوة جاءت متأخرة في وضع استراتيجية لتنمية وإدارة الموارد المائية. وقد ظهرت في نهاية عام 2016 لضمان تغطية كافة متطلبات الزراعة والصناعة والشرب والملاحة.

ويضيف أنه بقراءة متعمقة لاستراتيجية تنمية وإدارة الموارد المائية حتى عام 2050، يتبين أن هناك فجوة كبيرة بين الموارد المائية المتاحة 59.25 مليار والاحتياجات المائية لمصر 110 مليار (تبلغ الضعف تقريبًا).

ويشير إلى أنه رغم اختصاص وزارة الري بوضع السياسات المائية في مصر. إلا أنه هناك العديد من الأجهزة والوزارات الحكومية والتي تعتبر من أصحاب المصالح الرئيسيين عند الحديث عن السياسات المائية. ويبلغ عدد الوزارات التي قد تتداخل صلاحياتها ومصالحها ونطاق اختصاصاتها فيما يتعلق بمسألة المياه في مصر عدد 10 وزارات. وهو الأمر الذي يستدعي الحاجة إلى مزيد من الجهد للتنسيق وضمان عدم تعارض الاختصاصات، على حد قول الباحث.

كما أنه لا توجد مؤشرات تدل على اتباع أي من أدوات الحوار المجتمعي أو إشراك أطراف المصالح المختلفين، وفي القلب منهم المواطنين، في صياغة الاستراتيجية. وهو ما قد يعد أحد نقاط الضعف. إضافة إلى افتقار الاستراتيجية للاعتماد على أهداف قابلة للقياس، وتركيزها على عرض خريطة استخدامات المياه في مصر. وكذا بعض البيانات الأخرى المتعلقة بالمياه. والتي وإن كان من المهم إتاحتها وعرضها للجمهور كما تم في الاستراتيجية. إلا أنها وحدها غير كافية.

الأزمة ليست في مياه الشرب

يقول الباحث إنه برسم خريطة استخدامات المياه في مصر، يتضح أنه على عكس ما يمكن توقعه من أن تكون مياه الشرب والاستخدام المنزلي، أو المياه التي تستخدمها الصناعة هي من تنال الحصة الأكبر من استخدامات المياه، نجد أنه في الحقيقة تحظى الزراعة وأعمال الري الخاصة بها بنصيب الأسد تحديدًا بـ 80% من استخدامات المياه في مصر.

وبالرغم من أن هذا الرقم هو من وزارة الري المصرية. إلا أنه بتدقيق أكبر، ضمن إصدارات الوزارة نفسها، وتحديدًا استراتيجية الموارد المائية 2050، يتبين أن هناك نسبة لا بأس بها من استخدامات قطاع الصناعة للمياه تأتي أيضًا من شبكة مياه الشرب. وهي نسبة تتراوح ما بين 15-30% من جملة احتياجات قطاع الصناعة، والبالغة حوالي 5.40 مليار متر مكعب (دون الأخذ في الاعتبار مياه التبريد المستخدمة ضمن توليد الكهرباء). وذلك في عام 2015، بحسب الاستراتيجية.

للاطلاع على الورقة البحثية كاملةً.. اضغط هنا

أرشيفية
أرشيفية

من السرية للإتاحة.. ولكن

يقول الباحث إنه لطالما اتسمت إدارة ملف المياه في مصر بالسرية وعدم الإتاحة. وكذلك بالاعتماد على ردود الفعل والاستجابات للأحداث والتطورات، بدلًا من المبادرة، والإعلان عن مشاريع طموحة لا يتم ترجمة العديد منها في أرض الواقع. ناهيك عن الافتقار في الاعتماد على استراتيجيات وخطط واضحة تستشرف المستقبل. وقد تغيرت هذه الأبعاد نسبيًا، بعد ثورة يناير 2011، سواء كنتائج مباشرة لحالة الزخم، أو نتائج غير مباشرة مرتبطة بها.

وهو يرصد مدى هذا التغير وتأثيره، فيشير إلى إعلان مبادئ الخرطوم الموقع في 2015 مع كل من السودان وإثيوبيا. ذلك باعتباره إعلان مبادئ حسن نية للتعامل بخصوص المياه المشتركة في نهر النيل بين البلدان الثلاثة. وقد تضمنت اعترافًا مصريًا بسد النهضة. مع تأكيدات على عدم الإضرار بمصالح شعوب دول المصب ولا شعوب دول المنبع.

ثم يلفت إلى أنه ولأول مرة يتم العمل على استراتيجية متعلقة بإدارة الموارد المائية في البلاد، وإتاحتها للجمهور من قبل وزارة الري والموارد المائية في ديسمبر 2016. وتستهدف الاستراتيجية، بحسب ما هو وارد فيها، زيادة مصادر الموارد المائية من خلال تحلية مياه البحر بمقدار 1.5 مليار متر مكعب حتى عام 2030 واستخدامه في قطاع مياه الشرب. كما تستهدف مضاعفة هذه الكمية عام 2037. إضافة إلى أهمية إتاحة الاستراتيجيات وتفاصيل المشاريع المتعلقة بالمياه للجمهور. وهو ما تم التقدم فيه. لكن تبقى هناك فجوة في إشراك أكبر للمجتمع في صنع السياسات وليس مجرد الوعي بها.

ذلك فضلًا عن إصدار قانون لتنظيم المياه والصرف الصحي، في سبتمبر 2021. وهو ما تضمن إجراءات تهدف إلى الحفاظ على المياه وعدم التساهل في إهدارها. بالإضافة إلى إقامة العديد من المشروعات التي تخدم السياسة المائية الجديدة، وتبلغ 30 مشروعًا، تم الانتهاء من 27 منها.

ويقول الباحث إن هذا التوجه في زيادة التشريعات والإعلان عن استراتيجيات للمياه يأتي ضمن توجه أكبر للنظام المصري منذ يوليو 2013، يتمثل في حوكمة لكافة القطاعات والمجالات. بما فيها قطاعات التكنولوجيا والحقوق الرقمية، والتي عانت من تهميش وتأخر تشريعي لعقود سابقة.

توصيات

يختتم الباحث بأن هناك العديد من الآثار الإيجابية لمشاريع المياه التي جرى تطبيقها في مصر خلال العقد الماضي (2011 – 2020). وعلى وجه الخصوص المشاريع المتعلقة بالري والزراعة. إذ تبلغ احتياجات قطاع الزراعة 75% من إجمالي الاحتياجات المائية. ويأتي المشروع القومي لتبطين الترع كأحد أبرز هذه المشاريع.

إلا أنه لا يزال هناك حاجة كبيرة لأن تراعي السياسات المائية كافة الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، ولا تركز فقط على تحقيق أهداف متعلقة بالمفهوم البحت للأمن المائي من تساوي الموارد مع الاحتياجات. فمن الناحية الاقتصادية، ينبغي مراعاة العديد من المعايير المتمثلة في عدم التضحية بالأجيال القادمة وإثقال الميزانية العامة بالديون الداخلية والخارجية. بالإضافة إلى أنه من المهم أن يتم دمج العديد من المعايير والأهداف الاقتصادية من خفض نسب البطالة وتشغيل مزيد من العمالة الاحترافية المصرية في المشروعات المائية ومشاريع الطاقة.

ويضيف الباحث أنه عند الحديث عن قضايا المياه، لا يمكن أن نختزلها بالحديث عن الأمن المائي فقط. فصحيح أنه مهدد في مصر، إلا أن الحديث عن العدالة المائية أيضًا هو جانب شديد الأهمية ضمن قضايا المياه. إذ ليس من المنصف أن يتم تحميل الأطراف الأضعف والأفقر والأكثر هشاشة اجتماعيًا واقتصاديًا ضمن المجتمع المصري أعباء متزايدة أو زيادات مهولة لتسعيرة المياه. في الوقت الذي يمكن اعتماد فكرة الشرائح الاستهلاكية، وفرض ضرائب لقطاعات الصناعة الاستهلاكية أو الرفاهية التي تعتمد على شبكة مياه الشرب.

ويقول إنه مما يدعو للتفاؤل هو التقارب والنشاط الذي تقوم به الدبلوماسية المصرية، ومذكرات التعاون مع دول حوض النيل. وهي تعطي إيحاء بالتفاؤل والتطور بشكل مبدئي. إلا أن الاستدامة عنصر حيوي ينبغي أن يتم التركيز عليه، بحيث لا تتحول كل تلك الجهود إلى مجرد شكليات يتم تفريغها من معناها. تظل أفكار طموحة. لكن ينقصها وجود أهداف ومعايير يمكن قياسها، إضافة إلى جدول زمني واضح للتنفيذ، وكذلك توزيع محدد للمسؤوليات بين أجهزة ووزارات السلطة التنفيذية.