في منتصف مايو/أيار الجاري فاز حسن شيخ محمود برئاسة الصومال للمرة الثانية بعدما تفوق على سلفه عبد الله فرماجو. أنباء استقبلتها مصر بتفاؤل حذر إذ طالما ربطتها علاقات جيدة بالأول -سواء في موقعه بولايته الأولى أو كسياسي معارض- ومتدهورة مع الأخير الذي فضّل سياسة المحاور وكان مُقربا من الجار الإثيوبي.

محمود الذي كان رئيسا خلال الفترة بين 2012 و2017 حصل على 214 صوتا، مقابل 110 صوتا لخصمه من إجمالي 328 نائبا (رشحّهم مندوبون يمثلون أقوى العشائر في الصومال) في انتخابات مؤجلة من العام الماضي وأدت إلى دخول البلاد في أزمة سياسية لـ15 شهرا تقريبا.

حسن شيخ محمود

وقد جرى التصويت داخل مخزن كبير في مطار معسكر “هالان” شديد الحراسة. وهو يعتبر القاعدة العسكرية الرئيسية لبعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال، وكذلك مركز إقامة البعثات الدبلوماسية ووكالات الإغاثة، بحسب “بي بي سي“. وفي ذلك مؤشر واضح على مدى تدهور الأوضاع الأمنية في الصومال، التي تسيطر فيها جماعة “الشباب” على مساحات شاسعة من الأراضي.

ومحمود سيكون على موعد مع مجموعة من التحديات الداخلية الصعبة التي يتعين عليه مواجهتها وتترأس أجندته السياسية كتحدي الجفاف الذي يواجه بسببه 3.5 مليون شخص خطر المجاعة، وانتزاع السيطرة على جزء كبير من يد “حركة الشباب”، وإدارة العلاقات مع الولايات الفيدرالية. وإن كان متوقعا أن تواصل خطاه السير في طريق الحفاظ على التوازنات الهشة وضمان عدم تدهور الأوضاع وليس تقديم حلول جذرية.

وهو ذاته النهج الذي قد يتبعه في سياسته الخارجية القائمة على تجنب الاصطفاف إلى المحاور الإقليمية بشكل فج مثلما كان الحال مع عبد الله فرماجو الذي ساءت علاقاته مع مصر خلال آخر عامين تحديدا بسبب انحيازه للجانب الإثيوبي. وهو ما يؤكده انفراد رئيس الوزراء محمد حسين روبلي بملف التواصل مع الجانب المصري.

وقبل الحديث عن طبيعة العلاقات المتوقعة مع حسن شيخ محمود في ولايته الثانية، يجب العودة إلى ولايته الأولى ومن ثم تتبع العلاقات في عهد فرماجو، وقياس تلك الآثار على الشأن المصري.

ما بين ولاية محمود الأولى وولاية فرماجو

مع وضع دستور مؤقت للبلاد عام 2012، والذي بموجبه تكونت السلطة التشريعية من مجلسين: مجلس الشعب (وهو المجلس الأدنى) وتم اختيار أعضائه من خلال شيوخ القبائل في الصومال ومجلس الشيوخ (وهو المجلس الأعلى)، انتخب البرلمان حسن شيخ محمود الأكاديمي والناشط السياسي “المعتدل” كرئيس للبلاد.

وخلال فترته الرئاسية الأولى أظهر شيخ محمود حرصه على تمتين علاقاته مع مصر خاصة أنها تزامنت مع وصول عبد الفتاح السيسي إلى رئاسة مصر. وبين 2014 و2015 زار محمود مصر أربع مرات بالتزامن مع التحركات المصرية المتسارعة لبناء علاقات أقوى مع الدول الإفريقية تحت تأثير أزمة سد النهضة. كما جمعته علاقات جيدة مع مجموعة من الأكاديميين والمفكرين المصريين تبدت في استضافته بمراكز أبحاث مصرية حكومية، حين كان خارج السلطة.

ولكن في ذات الوقت كان محمود قريبًا جدًا من إثيوبيا -قبل وصول رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد- حيث تلعب دورًا مهيمنًا في السياسة الصومالية، بحسب ما يقول عمر محمود، الباحث في الشأن الصومالي بمجموعة الأزمات الدولية، لـ”مصر 360“. وكذلك حافظ محمود على أواصر العلاقات المتينة مع الجانب التركي -وكذلك القطري- وفي عهده توسعت المشاريع الاقتصادية التركية وحركة التبادل التجاري.

لكن علاقات محمود القوية مع الجانب الإثيوبي ارتبطت آنذاك بنخبة إقليم التيجراي، والتي كانت تتحكم في الكثير من مفاصل الدولة الإثيوبية وتدير شؤون الحكم، قبل قدوم آبي أحمد وشنه حربه الضروس عليها. ويدلل على ذلك مسارعة قيادات التيجراي إلى تهنئة محمود بعودته للحكم مجددا.

شهد عهد حسن شيخ محمود تحسنا طفيفا في الوضع الأمني -وفق “المركز الديمقراطي العربي“- حيث تمكنت القوات الصومالية من طرد حركة الشباب من المدن الرئيسية وعلى رأسها مقديشيو في أواخر 2012 بمعاونة قوات الاتحاد الإفريقي لحفظ السلام والتي زادت من عدد قواتها في 2014. إلا أن تلك الإدارة لم تسلم من مزاعم الفساد التي أقلقت المانحين الدوليين والمحليين.

من جهة أخرى أعلن شيخ محمود أن الانتخابات المباشرة لن تنعقد في موعدها في 2016 بسبب خطر حركة الشباب الصومالية. ولكن مع العام التالي أجريت الانتخابات وانتهت ولايته في عام 2017، بعدما اختار مجلسي الشعب والشيوخ -في اجتماع مشترك في مطار مقديشيو- رئيس الوزراء الأسبق محمد عبد الله فرماجو رئيسا للبلاد.

التدهور “غير المتوقع” مع فرماجو

تفاءلت مصر بقدوم فرماجو إلى الرئاسة كذلك؛ نظرا لخلفيته القبلية. إذ ينتمي لقبيلة المريحان التي تمتعت بعلاقات قديمة وجيدة مع نخبة الحكم المصرية، وفق ما يذكره هاري فرهوفن، الباحث في شؤون القرن الإفريقي لـ”مصر 360“.

وطبقا للمحاصصة القبلية في الصومال فإن القبائل الكبري في البلاد هي التى تتقاسم السلطات التنفيذية والإدارية، وبموجب العرف القبلي فإن قبائل الهوية هي التي لها الحق في تقليد منصب الرئاسة، ويكون رئيس الوزراء من نصيب القبائل الأخرى، مثل المريحان أو المجيرتان أو من قبيلة الاسحاق والداراود. وهو ما خالفه وصول فرماجو.

ورغم التفاؤل الذي ساد وزيارة فرماجو لمصر عقب 5 أشهر فقط من توليه منصبه إلا أنه سرعان ما اختار الانحياز إلى محور ثلاثي مع إثيوبيا وإريتريا قائم على العلاقات الشخصية بين فرماجو وآبي أحمد وأسياس أفورقي.

وخلال تلك الفترة دخل فرماجو في تجاذبات مع الإدارة المصرية منها المطالبة بسحب بعض البعثات التعليمية المصرية من بعض الولايات بحجة عدم التنسيق مع الحكومة المركزية والاكتفاء بالتواصل على المستوى الفيدرالي. وكذلك رفض استقبال مساعدات طبية مصرية قادمة على متن طائرة عسكرية بحجة ضغط الجانب الإثيوبي. ورفض إدانة خطوات إثيوبيا لملء سد النهضة، في جامعة الدول العربية كالدولة الوحيدة -إلى جانب جيبوتي- التي رفضت ذلك.

هذا الاصطفاف أراد فرماجو من خلاله الحصول على دعم قوي للبقاء في الحكم وتجنب إجراء الانتخابات ما أدى إلى مشاحنات وخلافات كبيرة بين الأجهزة المختلفة داخل الصومال وصراع واضح مع رئيس الوزراء محمد حسين روبلي والذي انخرط بمفرده في ملف العلاقات مع مصر وزارها في خضم الأزمة السياسية للوصول إلى تفاهمات.

وكان أحد الملامح المعبرة عن الأزمة بين فرماجو وروبلى حدوث بعض الانشقاقات داخل الجيش الصومالى لدعم طرف على حساب الآخر، حيث استخدم فرماجو الجيش الذي يضم مختلف العشائر الصومالية لمواجهة المعارضة. كما أدت الأزمة إلى زيادة هشاشة الحكومة التى أصبحت على حافة الهاوية بعد أن استهلكها الصراع بين الرئيس ورئيس الوزراء للسيطرة على وكالة المخابرات والأمن الوطنية، بحسب تحليل لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.

تجليات هذا الصراع ظهرت في تصريحات وزير الخارجية الصومالي السابق محمد عبد الرزاق محمد، والذي أقاله فرماجو في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، حين قال إن إثيوبيا نجحت في الضغط على الحكومة الصومالية حتى لا تسمح بتدريب القوات الصومالية في مصر. وأن مصر لم تحصل على أرض لبناء سفارتها الجديدة في مقديشو، مرة أخرى بسبب الاحتجاج الإثيوبي. واعتبر أن إقالته جاءت نتيجة سياسته المحايدة فيما يتعلق بالحرب الأهلية الإثيوبية.

وبحسب صحيفة “هيران” الصومالية، فإن عبد الرزاق لم يكن أول وزير خارجية تتم إقالته لوقوعه في مرمى نيران رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد. إذ أُقيل سلفه، أحمد عيسى عوض، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، لنشره بيانا حول الحرب الأهلية الإثيوبية وصفها فيه بأنها “صراع داخلي” ما أحرج الحكومة الإثيوبية، التي كانت لا تزال تشير إلى الحرب الأهلية كعملية إنفاذ القانون.

وقد وصل التحالف الشخصي بين فرماجو وآبي أحمد لإشراك الأول قوات صومالية في الحرب الدائرة في التيجراي بحسب ما كشف عنه عبد السلام جوليد نائب مدير المخابرات الصومالية السابق، ثم تقرير أممي أوضح أن تلك القوات تلقت تدريبها في إريتريا أولا.

ما الذي تنتظره مصر في ولاية محمود الثانية؟

مع عودة حسن شيخ محمود إلى منصب الرئاسة تمهلت مصر 4 أيام قبل أن تهنئه في ذات اليوم الذي التقى فيه السفير المصري في الصومال مع رئيس الوزراء حسين روبلي. وهو ما يؤشّر إلى احتمالَين متناقضَين: أولهما تريّث القاهرة في الإقدام على أيّ خطوات ريثما يبادر الرئيس الصومالي إلى تقديم تطمينات كافية إلى جدّيته في تمتين العلاقات بين البلدين؛ وثانيهما الترتيب الجيّد لحزمة من التفاهمات العملية، بعد تراجع حكومة فرماجو مرارا عن تنفيذ التزاماتها مع القاهرة على خلفية ضغوط إثيوبية واضحة.

لكن ستيج يارل هانسن، مؤلف كتاب “الشباب في الصومال” ومدير برنامج العلاقات الدولية في الجامعة النرويجية لعلوم الحياة، يعتقد أن الانتخابات انتصار صغير لمصر، فالرئيس الجديد ينأى بنفسه عن التحالف مع آبي أحمد وأسياس أفورقي.

ويوضح لـ”مصر 360“: “سوف يُسقط محمود التحالف، لقد وضع نفسه بقوة ضده. والجنود الصوماليين الذين يقاتلون من أجل آبي في تيجراي تسببوا بالفعل في موجات من الصدمة للسكان الصوماليين.. لكنه سيبعده عن نفسه بطريقة بطيئة ومهذبة ومن المحتمل أن يتقارب نحو الولايات المتحدة وكينيا”.

موقع “أفريكا إنتلجنس” المعني بالشؤون الأمنية والاستخبارية كان قد عنوّن في تقرير له: “خسارة فرماجو ضربة لتحالف آبي أحمد” معتبرا أن سياسة محمود قائمة على عدم التجاذبات ولن ينخرط في تحالف مماثل. بينما اعتبر في تقرير آخر أن وصول محمود بمثابة انتصار لمحمد بن زايد، رئيس الإمارات، والذي ساءت علاقاته مع فرماجو بشكل بالغ.

ويقول عمر محمود الباحث في مجموعة الأزمات الدولية إن حملة حسن شيخ محمود الانتخابية قامت على فكرة “لا أعداء للصومال في الداخل والخارج”. وأنه يسعى بشكل أساسي إلى نهج سياسة خارجية أكثر توازنا مما كان عليه في عهد فارماجو، والذي كان منقسما إلى حد بعيد.

ويشير إلى أن نهج التعاون المؤسسي والبرامج التي تستمر إلى ما بعد الحدود الزمنية للإدارة قد يكون نهجًا مفيدًا لمصر لتجنب الاعتماد المفرط على الفرد، بحسب تعبيره. ويمكن أن تلعب برامج القوة الناعمة، مثل الإغاثة الإنسانية أو الدعم التعليمي المستمر، دورًا في ذلك.

ويتوقع مراقبون صوماليون ازدهار العلاقات مع مصر في الفترة المقبلة، انطلاقا من عدّة اعتبارات أبرزها رغبة الرئيس الجديد في الاستفادة من المساعدة المصرية في الملفّ الأمني -سواءً في شكل مساعدات عسكرية أو نقل خبرات في مواجهة الإرهاب- وإمكانية أن تشكّل مصر حليفا “موثوقا ومستداما” للصومال استنادا إلى تراكم صلاتها بنخب صومالية متنوّعة على امتداد العقود الماضية. فضلاً عن الزخم الناتج من حلحلة الأزمة الخليجية، وتحرر القاهرة (ومقديشو بطبيعة الحال) من سلبيات استقطاباتها.

في المقابل، تحظى إثيوبيا، كـ”شريك استراتيجي” للصومال، بقبول نخبوي في الأخير، بحُكم الارتباطات الإقليمية وما طرحته إثيوبيا وإريتريا في الأعوام الأخيرة من أطر للتعاون الإقليمي في القرن الإفريقي، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا.

ويرى المراقبون ضرورة تمتين هذه العلاقات، كونها ستؤدي إلى تحسّن التنمية وتعزيز مبادرات بناء السلام الإقليمي (في القرن الأفريقي والبحر الأحمر)، معتبرين أن الإقليم ليس أمامه خيار سوى “التكامل والتعاون”، لا سيّما أنّ إثيوبيا تحتفظ بنحو أربعة آلاف جندي من “قوات حفظ السلام الأفريقية” في الصومال.

ويعتقد هانسن، الخبير في الشأن الصومالي، أن على مصر تنويع شبكتها محليا وقبول أن الصومال لديها العديد من مراكز القوة من خلال النظام الفيدرالي، “مصر بحاجة إلى نهج واسع حيث يتم تضمين الدول الفيدرالية في الحوار وكذلك الحكومة الوطنية بطريقة لائقة”.

هل من دور في سد النهضة؟

“لست متأكدًا من أن ذلك سيؤثر على سد النهضة كثيرا، لأنني لا أراه (حسين شيخ محمود) مستعدا للقفز إلى قضايا السياسة الخارجية الصعبة في المنطقة. أعتقد أنه سيكون من الصعب على محمود أن يقدم نفسه كوسيط في سد النهضة. إذ لديه عدد من القضايا الملحة في الداخل للتعامل معها، والصومال لديه القليل من القوة للعمل كضامن لأي اتفاق، ولا نفوذ لحث الأطراف على التسوية” يوضح الباحث عمر محمود.

 

ويضيف “قد يكون قادرًا على لعب دور وسيط، لكن يبدو أن هناك الكثير من الممثلين الذين يمكنهم القيام بذلك أيضًا. بهذا المعنى، أعتقد أن انشغاله سيكون في الداخل أكثر من الانخراط في قضايا أوسع مثل هذه”.

بينما يظن أحمد سليمان الباحث في شؤون القرن الإفريقي بمركز “تشاتام هاوس” -في حديثه مع “مصر 360“- أن قدرة شيخ محمود على الانخراط في قضية سد النهضة ستكون في “الحد الأدنى”. ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى هيمنة الأولويات الداخلية في الصومال، والحاجة إلى إعطاء الأولوية لعملية تيسير أكثر قوة ومتجددة للاتحاد الأفريقي تحت رئاسة السنغال.

ويختتم “في نهاية المطاف، يعتمد حل توتر سد النهضة على إيجاد تدابير بناء الثقة التي يمكن أن تزيد الإرادة السياسية تجاه اتفاق في أديس أبابا والقاهرة والخرطوم. وتتشكل هذه الإرادة أو الافتقار إليها، كما كان الحال حتى الآن، من عوامل وضغوط داخلية، فضلا عن العلاقات الإقليمية السائدة”.