مضى ما يزيد عن شهر منذ أعلن رئيس الجمهورية رغبته بالدعوة لحوار وطني، وتكليفه الأكاديمية الوطنية للتدريب لإدارته. ومضى أكثر من أسبوعين منذ بدأت الأكاديمية بدعوة المؤسسات والأفراد لتقديم رؤاهم حول طريقة إدارة الحوار. وهو ما تفاعل معه الجميع بجدية، سواء المقربون من النظام ومؤيديه، أو من معارضيه، بعد قطيعة معهم امتدت لسنوات.

وقد شهد الشهر الماضي ما يمكن تسميته “عصفًا ذهنيًا” بين كل المهتمين بالشأن العام. سواء المؤطرون داخل أحزاب وكيانات، أو المستقلون ممن تعج بهم الساحة السياسية في مصر. خاصة في جانبها المعارض. وتنوعت المواقف والأفكار حول أولويات العمل الوطني في اللحظة الحالية، وتمحور أغلبها حول “الإصلاح السياسي” باعتباره القضية الأكثر إلحاحًا، بعد فترة من الجفاف السياسي عانى منها المناخ العام.

وأتصور أن دستور 2014 قد يكون أساسًا صلبًا يمكن أن يتم من خلاله صياغة رؤى المشاركين حول “الإصلاح السياسي”، باعتبار أن الدستور يحظى بقبول أغلب المهتمين بالشأن العام في مصر. كما كانت اللجنة التي وضعت الدستور تملك تأييدا واسعا من المجتمع ككل، حيث يمكن اعتبارها آخر هيئة ضمت ممثلين عن الشعب المصري بكامله.

وقد حوى الدستور عددًا كبيرًا من المواد التي تنتصر لحقوق المواطن في مواجهة “أي نظام حاكم”. أغلب هذه المواد لم يترجم حتى الآن إلى تشريعات، وبعضها تم الالتفاف عليه بتشريعات مقيدة لما بالدستور من رحابة وسعة صدر. كما كانت هناك مواد لم يتم تفعيلها بالكلية، ونالت تجاهلا تاما من النظام. حتى إنه تم تجاهل حذفها أو تعديلها في التعديل الدستوري عام 2019، فصارت في طور النسيان، يتذكرها البعض أحيانًا ويغفلها الجميع غالبًا، سواء بقصد أو عن غير قصد.

أعتقد أن ثلاثة مواد من دستور 2014 وتعديلاته في 2019، ربما تحمل حلولًا للأزمة السياسية الحالية، وبدلًا من أن نحاول اختراع العجلة في مناقشاتنا حول شكل “الإصلاح السياسي” المنتظر، فإن تفعيل تلك المواد وإصدار تشريعاتها المكملة وقراراتها التنفيذية قد يكون أساسًا لعملية الإصلاح القادمة.

حملت المادة رقم “241” من الدستور، تكليفًا واضحًا للبرلمان في دور انعقاده الأول، بإصدار قانون للعدالة الانتقالية، يكفل كشف الحقيقة، والمحاسبة، واقتراح أطر المصالحة الوطنية، وتعويض الضحايا. وذلك وفقًا للمعايير الدولية. وقد نالت المادة من الهجوم خلال السنوات التالية لإقرار الدستور ما لم يناله غيرها، للدرجة التي توقع الجميع أن تكون ضمن تعديلات دستور 2019، وهو ما لم يتم. ما يعني أن الدولة المصرية ترغب في الإبقاء على المادة بالدستور. وهو ما يفتح الباب الآن أمام مناقشة الدولة في جلسات الحوار القادمة، لتحديد موقف واضح منها، إما بتعديلها أو إلغائها وهو ما لا نتمناه، أو أن تشمل مخرجات الحوار دعوة الدولة لتفعيل المادة وإدارة حوارًا مستقلًا مع السياسيين ومنظمات المجتمع المدني حول وضع تصور لما يمكن أن يكون عليه شكل قانون “العدالة الانتقالية”.

ربما كانت المادة محط تخوف الكثيرين خلال الفترة التي واجهت الدولة فيها تحديات الإرهاب، ولكن بعد أن تخطت الدولة عقبة الإرهاب، واستقر نظام الحكم، وأعلن بوضوح عن نيته في تأسيس جمهورية جديدة على أسس الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن من واجبنا قبل طي صفحة الجمهورية القديمة، أن يتم ذلك وفق آلية كفلها الدستور لتسوية الماضي قبل المضي نحو المستقبل.

كما نصت المادة “242” من الدستور على استمرار العمل بنظام الإدارة المحلية القائم إلى أن يتم تطبيق النظام المنصوص عليه في الدستور بالتدريج خلال خمس سنوات من تاريخ نفاذه. وبالتالي أصبح من الضروري إصدار قانون جديد للإدارة المحلية يتوافق مع الدستور، وهو ما لم يتم حتى الآن.

ويقدم قانون المحليات حلولًا ناجعة لكثير من المشكلات المجتمعية، أهمها مركزية القرار والذي تسبب خلال السنوات الماضية في وقف عجلة إنتاج الكوادر التنفيذية داخل الدولة، وغياب كامل لدور المحليات في المشروعات التي جرى تنفيذها، بعد أن تولت الهيئات المركزية الكبرى تنفيذ المشروعات على مستوى الجمهورية بشكل مباشر، كما نتج عن غياب الكوادر المحلية المنتخبة، شعور عام لدى المواطنين بالتجاهل التام من قبل الدولة، خاصة في المشروعات التي قد تتعارض مع مصالحهم المباشرة، دون أن يتشاركوا في القرار بأي درجة من الدرجات، وهو ما اتضح جليا في أزمة “جزيرة الوراق”، كما ظهر في شكاوى السكان من إنشاء محطة مترو “الزمالك”، كما كان غياب المحليات واضحا في محاولات الدولة لوقف التعديات على الأراضي الزراعية.. وجود المحليات سوف يمنح الدولة قدرات أكبر لمواجهة الخروقات، ويرفع عن كاهلها عبئا يمكن أن يقوم به المواطنون أنفسهم، إذا ما حازوا الصلاحيات المناسبة.

تعتبر انتخابات المحليات أيضا فرصة للكيانات السياسية للانخراط الفعلي في العمل السياسي، بإعداد كوادرها واختبار قوتها، كما أنها فرصة لتنتقل المعارضة من خانة “الحوار” مع النظام، إلى التشارك معه ولو على نطاق ضيق في العمل والرقابة، لتكون المحليات أرضية لبناء وطن التعددية والمشاركة، بديلا عن سياسة “الصوت الواحد”.

كما كان هناك عدد من الاستحقاقات الدستورية غير المفعلة حتى الآن، يمكن أن تشكل حجر زاوية في بناء التوافق الوطني حول المستقبل، منها إنشاء “مفوضية مكافحة التمييز” وإصدار قانون مباشرة الحقوق السياسية، بالإضافة لقانون الأحوال الشخصية.

يمكن أيضا استخدام التعديلات التي أجريت على الدستور في شهر إبريل/نيسان من عام 2019، حيث أقر البرلمان المصري ووافق الشعب عبر الاستفتاء على إضافة المادة 154 مكرر من الدستور والتي تنص على حق رئيس الجمهورية في تعيين نائب له أو أكثر، ويحدد اختصاصاتهم، وله أن يفوضهم في بعض اختصاصاته، وأن يعفيهم من مناصبهم، وأن يقبل استقالتهم.

 

رغم إضافة المادة منذ ثلاث سنوات، إلا أنها لم يتم تفعيلها بعد، باختيار رئيس الجمهورية نوابا له حتى الآن، بالطبع المادة تركت للرئيس الحق في استخدامها من عدمه، إلا أن تمسك المعارضة الآن بضرورة أن يرعى رئيس الجمهورية، الحوار الوطني بنفسه، يطرح أمامنا فكرة تفعيل المادة السابقة، حيث يختار رئيس الجمهورية نائبًا تكون إحدى مهامه، التواصل الدائم والمباشر مع ممثلي المجتمع. وذلك ربما يضمن أن يكون الحوار ألية دائمة لدى الدولة، ويريح الرئيس من عبء تولي جلسات مطولة مع المعارضين من الساسة والمفكرين.

وربما تكتمل الفكرة بإنشاء “مفوضية” مستقلة تتولى إدارة حوارات دائمة حول كل ما يشغل المواطن، وما يهم الوطن، فقد كان الرئيس صادقًا حين أعلن قديما أنه “مش سياسي”، وربما يكون وجود نائب “سياسي” أو أكثر لرئيس الجمهورية، فرصة لإنهاء قطيعة النظام الحالي مع السياسة.