بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر، راهن محمد حسنين هيكل، على زكريا محي الدين أولًا، فلما خرج من دائرة الترشيح الجدية لخلافة عبد الناصر، عاد فراهن على أنور السادات، ولم تكن الوقائع تشير إلى أنه سيكون الرجل الأول، أو الرجل القوي في النظام الجديد، كسب هيكل الرهان، ولكنه كاد يخسر نفسه، فوجئ بالرجل الذي راهن عليه، ودعمه، وانحاز إليه في مواجهة خصومه، يطيح به في أقرب فرصة، عند أول خلاف حقيقي.
كان هيكل هو الذي اقترح اسم السادات ليتولى الرئاسة بالنيابة، حتى تجري عملية اختيار مرشح الرئاسة والإجراءات المتعلقة بذلك، وكانت تلك خطوة كبيرة في الطريق إلى تثبيت اسمه ليخلف عبد الناصر، وكان هو الذي وضع منهج الحركة في تلك الساعة التي ملأها الحزن على غياب عبد الناصر وحدده في «خطوة واحدة في الوقت الواحد»، أراد أن يعزل تحديد اسم الرئيس القادم عما عداه من أسماء تشغل المواقع الأخرى، حتى لا يقيد الرئيس، قبل أن يُنتخب بأية اتفاقات تفرضها موازين القوى التي رأى أنها في أيدي خصومه، بدرجة قد تمنحهم أن يفرضوا شروطهم في لحظة اختيار الرئيس .
ثم كان هيكل هو الذي رشح للرئيس الجديد صبيحة الاستفتاء اسم الدكتور محمود فوزي لرئاسة الوزراء، أي للموقع التنفيذي الثاني في النظام، حتى لا يقع الموقع الكبير في أيدي خصومه، ثم كان واحدا من أهم الذين وقفوا مع السادات على طول الخط منذ بدأت بوادر الصراع بينه وبين من أطلق هيكل عليهم «مراكز القوى»، وكان هيكل هو حلقة الوصل بين السادات وبين الفريق محمد أحمد صادق رئيس الأركان (المختلف مع وزير الحربية الفريق أول محمد فوزي) لحظة حسم المواقف قبيل مايو سنة 1971.
والأهم من كل ذلك، شارك هيكل في صناعة شرعية السادات في أكتوبر/تشرين الأول سنة 1970 باعتباره الرجل الذي اختاره عبد الناصر نائبا وحيدًا للرئيس في وقت كان يتعرض فيه عبد الناصر إلى مؤامرات شتى تستهدف حياته، كأنه هو الذي اختاره ليخلفه، وشارك هيكل من جديد في تمتين عرى هذه الشرعية حين واجه السادات رجال عبد الناصر وزج بهم في السجن، وكان هو الذي نصح السادات في ذروة الصراع على السلطة في مايو سنة 1971 بتبني شعار الديمقراطية والحريات ليعيد تأسيس شرعيته من جديد.
من اللحظة الأولى كان السادات وهيكل على تواصل واتصال وتوافق على العديد من التوجهات والرؤى، وتبدى ذلك في يوم تشييع جنازة عبد الناصر، أول أكتوبر سنة 1970، كان السادات واقفا في مجلس قيادة الثورة في الجزيرة يتقبل عزاء الوفود، وأحس أعراض أزمة قلبية في الوقت الذي اقترب منه رئيس الوفد الأمريكي «اليوت ريتشاردسون» وزير التجارة الأمريكي (وقد أوفده الرئيس «نيكسون» نائبا عنه للمشاركة في الجنازة وتقديم العزاء)، وحين قال له «ريتشاردسون» إنه يتمنى أن تتاح له فرصة لمقابلته، قال له وهو يتمدد على سرير طوارئ جيء به إليه على عجل: «قابل هيكل وتحدث معه».
اتصل «دونالد بيرجس» القائم بأعمال المصالح الأمريكية بـهيكل الذي كان على علاقة وثيقة معه، وأبلغه أن السادات وجه ريتشاردسون إلى مقابلته والحديث معه، ومساء نفس يوم الجنازة، وسرادق العزاء منصوب، توجه ريتشاردسون في الساعة السابعة مساء إلى مبنى الأهرام لموعده مع هيكل بصحبة الوفد الذي يرافقه.
كانت تلك أول الإشارات على الطريق، وكان أمام السادات أن يوجه الموفد الأمريكي الذي يعد أول مسئول رسمي رفيع المستوى يزور مصر بعد قطع العلاقات بين القاهرة وواشنطن في أعقاب عدوان يونيو/حزيران 1967 إلى اللقاء مع وزير الخارجية محمود رياض، وقد كان ملف العلاقات المصرية الأمريكية واحدا من أهم الملفات التي بين يديه، وفي عهدته، ولكن السادات تصرف بطريقة غريزية، أو لنقل بقرون استشعار سياسية جعلته يختار هيكل بالذات لتكون المقابلة الأولى لمسئول أمريكي في لحظة لم تستقر فيها الأمور عند قمة السلطة، وهو اختيار، وإن لم يأت عبر تفكير أو عن قرار مسبق، إلا أنه يعبر في تلك اللحظة عن أن نقطة التقاء يمكن أن تجمع بين السادات وهيكل، والمؤكد أنه كان يتابع مقالات هيكل عن تحييد أمريكا والتي جرت عليه الكثير من المشاكل وقتها.
تصرف السادات -وإن جاء بالغريزة وليس بالتفكير والتخطيط المسبق- كان إشارة إلى اطمئنان السادات إلى أن هيكل يعبر عن رؤى أقرب إلى ما يراه هو من طريقة التعامل مع الدولة العظمى في العالم، وهي أيضا إشارة إلى بدء طريق التوحد بينهما في المقاصد، وربما في المصير وسط غابات من الشكوك والظنون التي تحيط بطريقة تفكير وخطط الآخرين المتنفذين في محيط قمة السلطة.
شهر العسل الذي بدأ مع اختيار جماعة مراكز القوى للسادات خلفا لعبد الناصر مع الرئيس الجديد لم يستمر أكثر من ثلاثة أشهر، بدأت بعدها محركات الصراع تدور حتى وصلت إلى ذروتها وتكسرت تروسها ساعة الحسم في 12 مايو/أيار سنة 1971، ومنذ البداية كان هيكل منحازا للسادات ربما ليس باختياره الحر، خاصة وأنه كان يشعر أنه في معركة مكتومة تستهدف قلمه وحريته قبل أن تستهدف شخصه وأفكاره وانحيازاته، وقد استخدم الصحافة، ومقالته الشهيرة «بصراحة» في هذه المعركة بضراوة.
من اللحظة الأولى لرئاسة السادات بدا للعيان أن هيكل سوف يكون في قلب معركة ترتيب الأوضاع وصراع النفوذ عند قمة السلطة، كان السادات في حاجة إليه، وكان هو بدوره في حاجة إلى السادات، فالتقت مصالحهما وألفت بينهما مخاوفهما، وكان هيكل بكل ما يحمله من رؤى وأفكار ومشاعر تجاه مجموعة الحكم مؤهلا لأن تتطابق مقاصده –على حد تعبيره– مع أنور السادات بصورة لم يكن ممكنا أن تحدث مع أي من الآخرين، والتقت طرقهما عند نقطة تقاطع رئيسية عنوانها التخلص من الأوصياء.
كان أول ما أثار جماعة الحكم من هيكل الدور الذي لعبه في إسناد رئاسة الوزراء إلى الدكتور محمود فوزي، كان علي صبري يريده لنفسه، وكان السادات يسر إلى شعراوي وسامي بعدم ارتياحه الشخصي للتعامل مع علي صبري، وكان يتهمه أمامهما بأنه له مطامع شخصية، وأنه ذو نزعة فردية ديكتاتورية ضد روح العائلة الواحدة، عائلة ثورة يوليو وعائلة جمال عبد الناصر.
ورفعا للحرج لم يمانع السادات في تعيين علي صبري نائبا للرئيس لمجرد التكريم، ودون سلطات مثل حسين الشافعي. وهكذا حقق السادات ما يريد بالنسبة لعلي صبري وتخلص شعراوي وسامي شرف من المنافس الأقوى على موقع رئاسة الوزارة كما أنهما تخلصا من الحرج في مواجهته. وبقي الموقع يبحث عن رجله. وفكر السادات في أن يجمع إلى جانب رئاسته للجمهورية رئاسته للوزارة كما كان يفعل عبد الناصر.
كان عود السادات ما يزال طريا، ولم يكن قد تجمعت بعد في يده سلطات ينفذ بها ما يريد. وقرر أن يلعب على الجميع، وبالجميع في وقت واحد، وبعد ضغط وجدل شديد اقتنع أن يرشح شخصا آخر كرئيس للوزراء، وراح يشاور هيكل وكان عرضه للموقف –كما يقول هيكل– على الوجه التالي: هم يطرحون عليَّ اسم الدكتور لبيب شقير. وعلي صبري أمامي كل ساعة يظهر رغبته واستعداده والحاج حسين (يقصد حسين الشافعي) يعرض نفسه وأنا أريد أن أسمع رأيك؟
وكان رأي هيكل أن أصلح مرشح لرئاسة الوزارة في هذا الظرف هو الدكتور محمود فوزي، وكان هيكل هو رسوله إليه، وبدون معارضة وافق شعراوي وسامي شرف على ترشيح الدكتور فوزي لرئاسة الوزارة. وبدون تدخل وربما بدون علم الدكتور فوزي جرى تشكيل الوزارة الأولى في عهد السادات، يقول شعراوي جمعة: أذكر أن تشكيل الوزارة كان يجري بالاتفاق بيننا وبين السادات مباشرة وبعد الانتهاء من التشكيل ذهبنا وعرضنا الأمر على الدكتور فوزي، وتشكلت الوزارة بهذه الطريقة.
في أول مقال له بعد تصفية ما أسماهم «مراكز القوى» والذي افتتح به حملة دعائية ضد المجموعة التي هزمت في مايو/أيار سنة 1971 قال هيكل: «والغريب أنني كنت آخر واحد يحق له أن يفاجأ، ذلك أنني تعرضت، منذ 28 سبتمبر الماضي، وحتى 15 مايو الأخير، إلى تجربة عنيفة، أرد نفسي عن الكلام في تفاصيلها الآن، كانت المحاولة معي، تستهدف إلى خنق صوتي، وإلى تشويه ما أقول، وإلى حصاري، ثم أسري بعد ذلك، أو ما هو أشد من الأسر».
كان يقصد بدون أن يفصح ما جرى له عند نشر مقالين أحدثا دويا هائلا في جنبات السلطة الحاكمة وقتها، كان المقال الأول بعنوان: «عبد الناصر ليس أسطورة»، وكان المقال الثاني بعنوان: «تحية إلى الرجال»، والذي يقرأ المقالين اليوم في غير الظروف وبعيدا عن الأهداف التي كتبت فيها مجموعة الأفكار الرئيسية ربما لا يجد فيهما بسهولة ما يمكن إدانة هيكل به.
بالرجوع إلى يوميات الصراع عند القمة نجد أنه كان يوظف قلمه ويشحذ فكره لمناصرة السادات في مواجهة خصومه، كان المقال الأول يبدو عن عبد الناصر، ولكنه في حقيقته عن خلفاء عبد الناصر الذين يتصورون أنهم ورثته وحملة شموعه ومباخره يحاولون أن يحولوه إلى صنم يعبد، وأسطورة ليس لها ظل على الأرض.
لم تكن جماعة الاتحاد الاشتراكي ومجموعة الوزراء المتنفذين في الحكومة في حاجة إلى كثير ذكاء لإدراك حقيقة الأهداف من وراء مقالة هيكل وقرروا أن يوقفوه عند حده، ووضع المقال ضمن مناقشات أول اجتماع للجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي الحاكم عقب «الأربعين».
وجرت محاكمة سياسية لهيكل أمام اجتماع اللجنة التنفيذية العليا، وخرج هيكل، وقد ملأه الشعور بأنه مستهدف وزادت تخوفاته وتوسعت دائرة شكوكه في النوايا المبيتة ضده.
مرة أخرى وفي 13 مارس/آذار 1971 كتب هيكل المقال الشهير (تحية إلى الرجال) الذي عدد فيه صعوبات وتضحيات الحرب مع إسرائيل وذكر فيه المخاطر التي يمكن أن يواجهها المقاتل المصري أثناء عبور السويس، وحدثت ردود فعل غاضبة في صفوف التنظيم السياسي وأخرى عنيفة داخل صفوف القوات المسلحة عقب نشر المقال، ولكي يمتص الفريق أول محمد فوزي مشاعر غضب العسكريين قال في أحد اجتماعاته مع كبار القادة العسكريين: «سيبوا لي هيكل، أنا ها اتصرف معه»، ونقل الفريق محمد صادق ما دار في هذه الجلسة إلى هيكل بطريقة استفزته وجعلته يتوجس من نوايا الفريق فوزي ضده، فحملها هيكل في نفسه، وبقيت عالقة في ذهنه طويلا.
بعد التخلص من أعداء السادات وهيكل، صور هيكل ما جرى في مايو/أيار سنة 1971 على أنه صراع على السلطة، بين طرفين: أحدهما ديمقراطي طيب، والآخر سلطوي دموي، كان السادات يريد أن يقول للناس أنه أمر بالقبض على كل قيادات الدولة الناصرية لأنهم أرادوا منعه من لقاء وزير الخارجية الأمريكي وليم روجر، ونصحه هيكل حسب اعترافه بتصوير الأمر على أنه صراع بين الديمقراطية والديكتاتورية، ثم كان هو الذي راح يصور الطرف المهزوم، وقد غيبوا وراء أسوار السجون، بأنهم مجرد مشعوذين، كل همهم هو الحرص على تحضير روح عبد الناصر ليأخذوا منه الأوامر حتى بعد رحيله.
في 14 مايو/أيار سنة 1971، كان هيكل، وحسين الشافعي وحدهما مع السادات، وهو يعد لخطابه الشهير في يوم 15 مايو/أيار، كان الشافعي نائبا للرئيس، ولم يكن لهيكل أي صفة رسمية تتيح له الحضور في مثل هذه الاجتماعات السياسية، كان فقط رئيس مجلس إدارة وتحرير الأهرام.
وبغير صفة –أيضا- حضر اجتماعا في الأيام الأولى بعد 15 مايو/أيار سنة 1971، لمناقشة قلق الاتحاد السوفيتي من الأحداث الأخيرة في مصر، ضم الاجتماع كلا من: الرئيس ونائب الرئيس، ورئيس الوزراء ونائب رئيس الوزراء، ووزير شئون مجلس الأمة، ورئيس تحرير الأهرام.
كان الاجتماع في مكتب الرئيس السادات بقصر القبة، وطرح هيكل فكرة ضم كل من فؤاد مرسي وإسماعيل صبري عبد الله «اليساريين» إلى دائرة الحكم في محاولة للتخفيف من قلق الاتحاد السوفيتي.
لا شيء يبرر حضور هيكل في مثل هذه الاجتماعات التي تضم أعلى سلطة سياسية في البلد، غير اعتباره مُنظِّر المرحلة الجديدة، وصاحب الكلمة العليا فيها، يقترح، ويؤخذ باقتراحه، وبمنتهى السهولة التي تبدو من روايته للقصة.
كان الخلاف العلني الأول بين أنور السادات ومحمد حسنين هيكل بسبب كيسنجر، ثم كان الخلاف حول الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة الأمريكية مع الوضع الناشئ بعد حرب أكتوبر في منطقة الشرق الأوسط، من ناحية، وطريقة وأسلوب السادات في التعامل مع هذه السياسة التي صنعها كيسنجر وخطط لها، من ناحية أخرى، هي القشة التي قصمت ظهر بعير العلاقة بين هيكل والسادات.
وكان آخر مقال منشور في «الأهرام» بتوقيع محمد حسنين هيكل مقالته تحت عنوان: (الظلال.. والبريق)، تحدث فيه هيكل عن «الظلال» التي تسقط على الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، و«البريق» الذي يتوهج حول وزير الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر، وانتهى فيه إلى القول بأن الظلال والبريق معا لا يكفيان لتغيير سياسة الولايات المتحدة المنحازة تاريخيا وواقعيا للكيان الصهيوني في إسرائيل.
كان للسادات رأي آخر، يتلخص في مقولته الشهيرة عن أن أمريكا تمسك بنسبة مائة في المائة من أوراق اللعبة، وأحس هيكل أنه وصل إلى مفترق الطريق بينه وبين السادات، وجاءت مقالة «الظلال والبريق» لتضع كلمة النهاية عند هذا المفترق الإجباري، حيث تباعدت المسافات بينهما، واختلفت الطرق، فمضى كل في طريق.
تحالف هيكل مع السادات في مواجهة خصومهما لم يكن نهاية القصة بينهما، بل مجرد فصل صغير في رواية كبيرة، انتهت فصولها وقد ابتعدت بهما الطرق، وافترقت السبل، ثم انسدت لتلقي بهيكل سجينًا في ملحق مزرعة طرة، وبالسادات صريعًا فوق المنصة بمدينة نصر.
ووفقا لما كتبه هيكل: «تلاقينا واتفقنا واختلفنا كثيرا وظللنا أصدقاء حتى جاءت حرب أكتوبر 1973 وانتهت، ثم تباعدت زوايا الرؤية لأن الرجل وجد بعد حرب أكتوبر أنه يستطيع تأسيس شرعية مختلفة تصدر عن مرجعية مختلفة. وهناك تباعدت الطرق، وكان طبيعيا أن تتباعد».
والسؤال الآن بعد كل هذا: هل كان هيكل هو عرَّاب «ثورة التصحيح» في مايو/أيار سنة 1971 وهو الاسم الذي أطلقه السادات على إطاحة رجال عبد الناصر من الحكم، أم كان هو ضحيتها بعدما لفظه السادات بعد أقل من ثلاث أعوام استخدمه خلالها ثم حين اشتد عوده وصار في غير حاجة إلى هيكل طرده خارج «الأهرام»، وأطلق عليه كتبته يضربون مصداقيته كل يوم في مقتل.