في أعقاب انحدار تنظيم الدولة “داعش” وخسارته الأراضي التي استولى عليها في سوريا والعراق، وجد التحالف الدولي أزمة أخرى مرتبطة ببقاء هؤلاء المقاتلين لما يربو على ثلاثة أعوام. وهي الأطفال الناتجين عن زواج أعضاء التنظيم القادمين من كافة أنحاء العالم، الذين قتلوا أو فروا تاركين خلفهم مئات النساء والأطفال، وقد أنكرتهم دولهم الأصلية.

ركز تقرير حديث في مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية على هذه الأزمة، من حيث ينتهي المطاف بهؤلاء النساء والأطفال المنتمين لداعش في معسكرات للاحتجاز في الصحراء الواقعة شمالي شرق سوريا، في مخيمي “الهول” و”روج”. وذكر أنهم باقون هناك كقنابل موقوتة قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة.

تفتح مأساة أطفال التنظيم تلك دائرة جديدة من الإرهاب المبني على المعاناة والاغتراب. وقد أشارت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) إلى وجود قرابة 60 ألف شخص، حوالي 80% منهم بين النساء والأطفال. وبينما في مخيم الهول فقط هناك 50% من السكان أعمارهم أقل من 12 عامًا -يقدرون بحوالي 30 ألف طفل- فإن مخيم الروج يضم 55% من سكانه من الأطفال، حسبما ذكرت مؤسسة Save The Children.

يقول التقرير أن السكان في المخيمين يعانون من الفوضى المطلقة وانعدام الأمن. وهم يواجهون سلسلة من المآسي. بما في ذلك العنف والجوع والأمراض وانعدام التعليم. بينما تركهم الغرب في رعاية قوات سوريا الديمقراطية -المدعومة من الولايات المتحدة- والتي لا تملك القدرة على التعامل مع احتياجات هؤلاء. خاصة وأن معظمهم مصابين بصدمات نفسية معترف بها ومنطقية. خاصة بعد ما رأوه ومروا به. وهذا التعامل مع الاعتقال الجماعي التعسفي لا سيما للنساء والأطفال يتعارض مع القوانين الدولية التي من المفترض أنها معنية بحماية حقوق الأطفال.

اقرأ أيضًا: ذبح واغتصاب.. مأساة “الإيزيديين” مع “داعش”

الهول.. مخيم الجحيم

بُني مخيم “الهول”، وهو أحد أكبر المخيمات السورية، عام 1991. وقد تم إنشاؤه من أجل اللاجئين العراقيين الفارين من حرب الخليج الأولى، التي أعقبت الغزو العراقي للكويت. والمخيم الأصغر “روج” أسس في 2014 وكان لنفس السبب ولكن تلك المرة هروبا من داعش، وتم توسيع كلا المعسكرين عام 2019، ليكفي المزيد من الفارين خاصة بعد احتلال القوات السورية الديمقراطية بقيادة الأكراد آخر معاقل داعش في سوريا، مدينة الباغوز.

لم يتم توفير أي أوراق ثبوتية لمعظم السكان المحتجزين في المخيمين من الأطفال والنساء، ولا يعرف ما الدور الذي لعبوه أثناء وجودهم تحت أمره التنظيم الإرهابي. وما الظروف التي جعلتهم تحت رحمة هؤلاء الشياطين، ومعظم هؤاء الأطفال تحت الـ 12 عام.

في الواقع، قلة من هؤلاء الأطفال يعرف تاريخهم، ورغم أن كل طفل من هؤلاء وصم بأنه ينتمي للإرهاب بسبب انضمام والديه للتنظيم. ورغم أن القليل منهم لديه شهادات ميلاد أصدرها التنظيم خلال فترة وجوده في السلطة، إلا أن تلك الأوراق لم يتم الإعتراف بها في بقية أنحاء العالم، وتختلف القصص المتداولة حول أمهاتهم . ولكن هناك حالات يمكن القياس عليها، حيث أن الرحلة التي خاضتها الأمهات تتشابه في معظم الأحيان.

هناك مثلا “شميمة بيجوم” التي تعيش في مخيم “الهول” والمولودة لأبوين بنغاليين عاشا في المملكة المتحدة. والتي انضمت لداعش وهي بعد طفلة في الـ 15 من عمرها، بعدما تم استقطابها عبر الإنترنت، وسافرت مع ثلاثة من أصدقاءها حتى وصلت إلى الأراضي السورية. وهناك، تزوجت مقاتل في التنظيم، وأنجبت طفلين وهي بعد في الـ 18 من عمرها والطفلين توفيا، ولها طفل ثالث توفي لاحقا بسبب الالتهاب الرئوي نظرا لانعدام الدعم الصحي.

في عام 2019 تم اسقاط الجنسية البريطانية عن شميمة من قبل حكومتها، تحت دعوى أنها تشكل تهديدا للأمن القومي، كونها متعاطفة مع الإرهابيين. وتم منعها من العودة بشكل دائم إلى وطنها، وهي الآن عديمة الجنسية، دون أن تنظر الحكومة البريطانية لحداثة سنها، وأنه تم تجنيدها وهي بعد طفلة. للمفارقة، فإن نفس القانون الذي أسقط عنها الجنسية يعترف أنها كانت ضحية اغتصاب قانوني بمجرد انتقالها إلى سوريا. وكانت تعيش تحت سيطرة داعش، ولكن لم يتم الاهتمام بقضيتها، كونها من الأقليات الدينية والعرقية في بريطانيا. مما سهل تجريدها من الجنسية.

ظروف معيشية قاسية

ما عاشته “بيغوم” وأطفالها ليس نادرا، فمعظم القصص تتشابه، وبالطبع عيشتهم في المخيمات ليست آمنة أو تحمل قدرا من الراحة. فتلك المعسكرات محمية ويستحيل الخروج منها، ويعاني السكان من الظروف الجوية، مثل الرياح التي تجعل الخيام تطير وتنهار، والأرض مليئة بالأمطار والصرف الصحي الملوث. إضافة إلى أكوام القمامة المتراكمة، والإمدادات الغير أساسية من قبل الجماعات والمنظمات الإنسانية. مثل “أطباء بلا حدود”، التي أفادت أن المخيمات “مليئة بأمراض لم تتم معالجتها”.

انعكاسا على حالة الأمهات، تزداد حياة الأطفال كل يوم سوءا، فبلادهم الأصلية -التي لا يعرفونها سوى بالاسم- ترفض عودتهم. بالذات حين يكون البلد عضوًا ضمن التحالف الدولي ضد داعش. ومن المفارقات في الأمر، قدرة تلك البلاد على نشر موادها العسكرية والاستخباراتية في المنطقة، رغم فشلها في توفير ممر آمن لهؤلاء لأطفال، واستحالة توفير الوثائق الضرورية. وفي الآن ذاته، توفر ما هو أساسي في السجون التي تساعد على احتجاز مواطنيها الشباب إلى أجل غير مسمى، ودون محاكمة عادلة.

مثلا، عملت كندا على إعادة توطين عدد محدود جدا من الأطفال، منهم طفلة يتيمة تبلغ من العمر 5 أعوام، عادت لكندا في أكتوبر/تشرين الأول 2020. وتحمل اسم “أميرة”. لكنها عادت بسبب ضغوط من عمها والأمم المتحدة، بعدما قتل والداها -وهما كنديان- وإخوتها الثلاثة، في غارة. ولكن بقى هناك 46 امرأة وطفل كنديين آخرين يعانون في المعسكرات.

الواقع اليومي بالنسبة لهؤلاء الأطفال قاسي، حيث يتم فصلهم عن أمهاتهم عندما يتجاوزون عتبة العشر سنوات. وينقلون إلى أماكن احتجاز مزدحمة، أو “مراكز إعادة تأهيل”، والتي تفتقر حتى إلى فراش ومظلمة دون آشعة الشمس، ويصعب وصولهم إلى المراحيض لقضاء الحاجة أو الاستحمام. بالإضافة إلى سوء التغذية، حيث يعاني الأولاد المحتجزون في هذه المرافق من الجرب وأمراض جلدية أخرى، وهم أكثر عرضة لمرض السل و COVID-19. فضلاً عن زيادة خطر الإصابة بفيروس الإيدز، بسبب زيادة تعرضهم للعنف الجنسي. كما أنهم يعانون من إصابات حرب لم يتم علاجها، بما في ذلك فقدان أطرافهم.

سجن الصناعة.. المزيد من الهول

يحمل سجن الصناعة أيضا مشهدا ليس بعيدًا مخيم عن الهول. حيث يضم رجالًا يشتبه في صلتهم بداعش، وكذلك الأولاد الذين نُقلوا إلى هناك بعد بلوغهم العاشرة. في يناير/كانون الثاني، شن تنظيم الدولة الإسلامية هجوما على السجن مستخدما شاحنة مفخخة لتفجير أحد جدرانه. تحول الهجوم إلى معركة استمرت عشرة أيام، تطلبت تدخلاً عسكريًا أمريكيًا للسيطرة.

في النهاية، تمكنت حفنة من قادة داعش من الفرار، فيما قُتل العشرات من مقاتلي التنظيم. أيضًا، قُتل ما يقرب من 140 من مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية، ووقع العشرات من الفتيان الصغار في مرمى النيران. ولا يزال الكثير منهم في عداد المفقودين. منذ الهجوم، فرضت قوات سوريا الديمقراطية قيودا على وصول المنظمات الإنسانية لأسباب أمنية، وتعرض العديد من الأولاد لإصابات جسدية وصدمات نفسية.

ما هو الحل؟

يشير التقرير إلى أن الحل الوحيد المجدي والقابل لإنهاء هذا الكابوس هو ضمان إعادة المقيمين الأجانب إلى أوطانهم. وهذا شهد بعض التقدم، حيث أعادت الولايات المتحدة 27 من رعاياها. وقدمت الدعم اللوجستي والأمني ​​لتأمين نقلهم من الحدود العراقية. وكذلك أوزبكستان، التي أعادت 521 شخصًا من المخيمات ودمجهم وإعادة تأهيلهم بمجرد عودتهم إلى الوطن. يبين هذا إلى أي مدى تتطلب العودة إلى الوطن دعم وكالات الأمم المتحدة المتخصصة مثل اليونيسف، التي اعتمدت على خبرتها لتسهيل الاندماج وتقديم الدعم على المدى الطويل.

كذلك، تغيرت مواقف بعض الدول الأوروبية، مثل ألمانيا والدنمارك. من رفض تام لإعادة النساء والأطفال، إلى قبول نسبي. حيث تمت إعادة عدد كبير من النساء والأطفال في العام الماضي، دون أي آثار سيئة. لكن، معظم البلدان الأخرى لا تزال غير راغبة في فعل نفس الأمر، قدمت كندا والنرويج الدعم السياسي والمالي لأجندة الأطفال في الصراع المسلح في الأمم المتحدة.