صيف 1952

كان التحالف غير المُقدس بين نخبة الإقطاع-بورجوازية والمُحتل البريطاني وسلالة الباشا والتيار الديني المتشدد يزداد يومًا وراء يوم، وكان الغضب يتراكم لدى كل من هم خارج هذا التحالف بدفعٍ من الفشل الذريع في تطوير علاقات الإنتاج والاستمرار في النمط الهجين، وكذا الإخفاق الكبير في قمع احتجاجات المصريين للمطالبة بالديمقراطية والجلاء وهي احتجاجات تبدت ملامحها الاجتماعية في عام 1946 عندما تأسست “اللجنة الوطنية للطلبة والعمال”. كان تأسيس تلك اللجنة -رغم نجاح “إسماعيل صدقي” في القضاء عليها لاحقًا “كهيكل تنظيمي”- بمثابةِ تدشينٍ “لحالة” ثورية جديدة امتزج فيها فِكر الثورة الثقافي الجديد مع فِعلها الحركي الشاب فَأبرزا شيخوخة النمط الاقتصادي وإخفاقاته الكبرى خصوصًا بعدما انتهت الحرب الكونية الثانية التي زادت بسببها ثروات التحالف غير المقدس “كميًا” فقط دون أن تسهم هذه الزيادة في تراكم رأسمالي يؤدى إلى تطوير علاقات الانتاج، بل الذي حدث في الواقع أن تلك الزيادة قد رسخت من تخلف علاقات الإنتاج ما دفع إلي تمظهر الصراع الطبقي بوضوح. ولعل ذِكْر تعبير “الطلبة والعمال” في اسم اللجنة كان بالغ الدلالة -رغم بساطته- على أن القضية الديمقراطية والقضية الوطنية والقضية الاجتماعية هي قضايا مترابطة متماسكة ولا يمكن الفصل بينها فوضعت “الطلبة والعمال” -كطليعةٍ متحالفة- على طرف نقيضٍ مما عداهما وإن لم تأخذ بالاعتبار الدور الفلاحي الذي لو أُدرج في سياقها بشكلٍ قاعدي، لَكان لها شأن آخر ولَمَا تم ضربها على النحو الذي حدث. فعلى سبيل المثال، كانت انتفاضة الفلاحين في بهوت بالدقهلية قبل يوليو 1952 بقليل ضد ممارسات أسرة “البدراوي عاشور” باشا الإقطاعية قد تواكبت زمنيًا مع إضراباتٍ للعمال في مناطق متعددة من البلاد، إلا أن تنسيقًا بين الفلاحين والعمال والطلبة لم يكن حاضرًا ما أفقد “الحالة” الغاضبة زخمًا مُستحَقًا لقيادة حراك جماهيري جاد لو كانت قد اتحدت هيكليًا في “تنظيمٍ” واحد يجمعها، لكن على الرغم من ذلك ظلت “الحالة” تلك قائمة بالوجدان.

كان الوضع في صيف 1952 يتلخص في وصفٍ واحد هو “الوَهَن الشديد”، وَهَن هيكلي شديد بالبِنَى الفوقية والتحتية للتحالف غير المقدس انعكس في عجزه ومن ثم فشله في السلطة وفي إدارة الصراع الطبقي، ووَهَن تنظيمي شديد بترتيباتٍ تَوَحُد القوى المنتجة والغاضبة -في آن واحد- آلَ إلى فشلها في تطوير الصراع الطبقي لصالحها على نحو يفضي إلى تغييرٍ كميٍ ينتهي بتغييرٍ نوعيٍ مُنَظَمٍ، وكان ذلك “الوَهَن” ثنائي الأطراف هو ما دعا طرفًا ثالثًا يمتلك قوة التغيير للدخول على خط الصراع.

كانت التركيبة الاجتماعية لضباط يوليو 1952 -كَكِيان هيكلي- فضفاضة وغير متجانسة فكريًا إلى حدٍ ما. فقد ضمت جزءا كبيرا من أبناء البروليتاريا بمفهومها الواسع الذين التحقوا بالكلية الحربية بعد توقيع معاهدة 1936، وجزء أقل من أبناء النخبة الإقطاع-بورجوازية جمعهم معًا تمردهم على النظام الذي كان قائمًا لأسباب متعددة، لكن نسقًا فكريًا واحدًا لم يجمع بينهم في تصورٍ لما ينبغي عليهم أن يطرحوه من فلسفة للحُكم جديدة حين تمكنوا من السلطة. ولعل ما حدث بالأربع سنوات الأولى التي تلت يوليو 1952 من أحداث يعضد ما ذهبت إليه من تحليل، فقد يكون من المفهوم في سياق السيولة الصاخبة -لا المُتَقَبَل من الناحية المبدئية- أن تتم الإطاحة بدستور 1923 وحل الأحزاب السياسية لكن ما لم يكن مفهومًا ولا مُتَقَبَلًا هو أن يتم إعدام اثنين من القيادات العمالية وحل النقابات ورفض دستور 1954 الذي وضعته هيئة شكلها ضباط يوليو بأنفسهم وتحصين قراراتهم من رقابة مجلس الدولة عليها.

ومن المهم جدًا -في إطار تَتَبُع تطور البورجوازية المصرية- الإشارة إلى أهم وأخطر ما قام به ضباط يوليو في تلك السنوات الأربع وهو فرض قانون الإصلاح الزراعي بعد شهرين من اعتلائهم سُدة الحكم. وأستَدِلُ على ما ذهبتُ إليه من تحليلٍ بشأن التداخل الاجتماعي بين الإقطاع مع البورجوازية الذي أنتج النخبة الهجين التي أطلقت عليها “الإقطاع-بورجوازية”، بأن هذا القانون قدر ما أضر بمصالح الإقطاعيين من ناحيةِ مَقصودِهِ ومُبتغَاه، فهو قد أصاب مصالح البورجوازيين أيضًا في ترجمة مادية لخسائر تحملوها باعتبار أنهم في واقع الأمر هم أفراد لنخبةٍ واحدةٍ ذات مصالح مشتركة ومتداخلة لا متنافرة ومتضاربة كما كان الحال في أوروبا حين أطاح البورجوازيون بالإقطاعيين. كان حجم الأراضي التي خضعت لهذا القانون قد بلغ نحو 700 ألف فدان يملكها نحو 1800 شخص إلا أنهم قاموا ببيع نصف تلك الأراضي استغلالًا لنص في القانون الذي لَم يُطَبِقَ إلا على نصفها الآخر إلى أن أُلغي هذا النص في العام التالي.

يرى بعض مناهضي دولة يوليو أن نزع ملكية تلك الأراضي وتوزيعها على الفلاحين لم يكن أمرًا حتميًا بل وقد كان له أثر تدميري على الزراعة المصرية وهو شأن فني أترك التعليق عليه للمتخصصين لكني سأتناول فقط الجانب الاجتماعي فيما يتعلق بإعاقة مسألة تملك الأراضي لغير الأقطاع-بورجوازيين وهو شأن يتنافى مع عدالة التوزيع المرتبطة بمقدار الجهد المبذول في الإنتاج، وذلك في إشارة سريعة بالاقتباس عن الدكتور “عاصم الدسوقي” حين قال: “ولقد بلغت ضآلة أجور العمل الزراعي حدًا استحال معه انتقال عمال الزراعة إلى مصاف المُلاك، إذ كانت قيمة الفدان في عام 1945م مثلا تعادل عمل 3333 يومًا، أي: عمل عشر سنوات متصلة بفرض أن العامل يعمل طوال السنة ويدخر كل أجره ولا ينفق منه شيئًا. أما المستأجر الصغير، فقد كان عليه أن يدخر حوالي 2350 جنيهًا إذا أراد أن يمتلك خمسة أفدنة، باعتبار أن ثمن الفدان الواحد 470 جنيهًا (في عام 1947م)، وكان هذا في حكم المستحيل، لارتفاع قيمة إيجارات الأرض التي كان يستأجرها من ناحية، وثقل الديون العقارية من ناحية أخرى”*. ثم أعود لأقتبس عن الدكتور “عبد الباسط عبد المعطي” نقلًا عن الدكتور “محمد دويدار” ما يتعلق بالوضع الاجتماعي من اقتصاديات للإنتاج الزراعي وأثر فوائضه في التوظيف بالصناعة في ذلك الوقت: “أن الفائض الزراعي الذي ينتج أساسا عن طريق تأجير الأرض يترك صغار الفلاحين المنتجين غير قادرين على تحسين الإنتاج الزراعي، ويتركهم والأجراء الزراعيين غير قادرين على شراء سلع استهلاكية مُصنعة، وهو الأمر الذي لا يُمكن الريف من تقديم سوق للمنتجات الصناعية وبالتالي يحد من إمكانية التوسع الصناعي، ويؤدي -من ناحية أخرى- نمط استخدام الفائض الزراعي بواسطة كبار ملاك الأراضي إلى اقتناء المزيد من الأرض وإقامة المباني والاستهلاك الترفي والمظهري مما يفضي إلى نقص رأس المال المتاح للتوسع الصناعي”**.

لم يكن ما سبق -ولا ما سيأتي- تأريخًا يتناول تفاصيل ملابساتِ أحداثٍ سياسيةٍ بشكل مباشر لكنه اقتصر -وسيقتصر- قدر الاستطاعة التي تتيحها مساحة المقال المحدودة على إيضاح ما يرتبط منها على نحوٍ جوهري ومُجمَلٍ بالعملية الاقتصادية ودورها في تأسيس دولة يوليو وما بعدها، وتأثيرات التكوين الاجتماعي لهذا التأسيس على ما يتعلق منه بتطور البورجوازية المصرية.

للحديث بقية، إن كان في العمر بقية.

*انظر الفصل الخامس، صفحة 259 و260 من كتاب “كبار ملاك الأراضي الزراعية ودورهم في المجتمع المصري 1914-1952” طبعة دار الشروق 2007.

**انظر المقدمة صفحة 59 من كتاب “الطبقات الاجتماعية ومستقبل مصر” طبعة دار ميريت 2002.