تحاول قيادات روسيا جاهدة الهروب من الأعباء النفسية للحرب على أوكرانيا. وقد شحنت ضدها الغرب وأدت إلى توسع الناتو على حدودها. ذلك رغم المكاسب التي حصلت عليها في المقابل. ومنها تأكيد محوريتها في أمن الطاقة والغذاء بالعالم. فضلًا عن بسط سيطرتها على الأراضي الأوكرانية وانتزاع المزيد منها. لكن الحاجة إلى الظهور على منصات دولية مساندة أو محايدة من الأزمة، والتجهيز لمرحلة ما بعد أزمة أوكرانيا التي ستغلق السوق الأوروبي أمام موسكو، يجعل روسيا بأشد حاجة إلى معسكر دبلوماسية الحياد وفي القلب منه سلطنة عمان.

ماذا تعني دبلوماسية الحياد؟

مبدأ الحياد يقع ضمن أحد المفاهيم المعقدة في القانون الدولي العام. وقد ذكر للمرة الأولى في اتفاقيات 18 أكتوبر 1907، التي وقّعت في مؤتمر لاهاي الثاني. وتضمنته نصوصًا تحدد حقوق والتزامات الدول المحايدة. وينص أحد بنود تلك الاتفاقية على أنه لا يحق لدولة محايدة المشاركة المباشرة في نزاع مسلح أو مساعدة أحد الأطراف في النزاع من خلال تزويده بالرجال والسلاح.

ويتمتع مواطنو الدول المحايدة بالحماية من الأعمال الحربية بموجب قانون الحرب المتعارف عليه ضمن بنود القانون الدولي.

وتترجم الدول حيادها بشكل مختلف عن بعضها. فدولة مثل كوستاريكا تفضل أن تبقى منزوعة السلاح. في حين تتمسك سويسرا بـ”الحياد المسلح” لردع العدوان عليها. مع الامتناع عن المشاركات العسكرية الخارجية.

ومع ذلك، فإن هناك دول تمارس نوعًا آخر من الحياد مثل النمسا وأيرلندا والسويد. وهي تشارك في قوات حفظ سلام نشطة تابعة للأمم المتحدة. وأيضًا تشارك في الأنشطة الأمنية المختلفة داخل بلدان الاتحاد الأوروبي.

وتقنن النمسا واليابان حيادهما في دساتيرهما. وإن كانت كل دولة تفعل ذلك بمستويات مختلفة من التفاصيل.

دبلوماسية الحياد والأزمة الأوكرانية

ظهرت ثقافة دبلوماسية الحياد بوضوح خلال الأزمة الأوكرانية. حينما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا يدين الغزو الروسي لأوكرانيا، وامتنعت 35 دولة عن التصويت. حينها اختارت هذه البلدان في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية البقاء محايدة. وذلك لأسباب مختلفة بعضها تاريخي وبعضها الآخر اقتصادي وسياسي.

مارتجي أبينهويس، أستاذ التاريخ في جامعة أوكلاند بنيوزيلندا، يلقى الضوء على مصطلح الحياد. فيؤكد أنه نضج في السياسة الدولية عندما تجنبت القوى العظمى في العالم الانجرار إلى سلسلة من الحروب المكلفة. وهو يقول أنه بالتزام البقاء على الحياد فيما يتعلق بصراعات قارتها، تمكنت دول مثل بريطانيا وهولندا من التركيز على استعمار أجزاء أخرى من العالم.

ونمت ثروة الإمبراطورية الإنجليزية بناءً على إعلانها الانحياز إلى سياسة الحرب الصغيرة قدر الإمكان في أوروبا. مع التوسع في الخارج.

يوضح أستاذ التاريخ أن ثقافة الحياد غالبًا ما تكون متجذرة في تاريخ البلدان التي تفضل هذه السياسة. فنجد دولة مثل الهند التي ترفض الآن الانخرط في الصراع الروسي الأوكراني، اتخذت نفس الموقف خلال عقود ماضية، والحرب الباردة أوضح نموذج على ذلك.

وقد فضلت نيودلهي البقاء بعيدًا مع الانخراط في الجهود الدبلوماسية مع روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة لإنقاذ رعاياها وإبعادهم عن مناطق الصراع. وبسبب هذه السياسة التي عرفها تاريخها تمكنت من بناء أكبر عدد ممكن من الشراكات. كما أصبحت لها علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة وروسيا. والحياد بهذا المنطق دائمًا ما يضمن أقصى قدر من الفوائد بأقل التكاليف، وفق أبينهويس.

الحرب الأوكرانية الروسية
الحرب الأوكرانية الروسية

ما تبحث عنه روسيا في السلطنة

قبل أسبوعين، سافر وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى سلطنة عمان حيث التقى السلطان هيثم بن طارق، هذه الدولة العربية الغنية بالنفط التي تتخذ موقفًا محايدًا من الأزمة الأوكرانية. وعلى ما يبدو فإن موسكو ترغب في الحفاظ على هذا الحياد العُماني مهما تعرض لضغوط غربية للتداخل مع الأزمة.

وقد حمل لافروف بزيارته تلك عدة رسائل داخلية وخارجية؛ أولاها إلى السلطان هيثم بن طارق نفسه من أجل تدعيم علاقات البلدين. وكذا إطلاعه على ما يحدث على الحدود ونتائج استمرار الحرب مع أوكرانيا. وأيضًا التداعيات الجيوسياسية لتوسيع الصراع. لا سيما بعد أن توغل الناتو في أراض جديدة. ما يعني أن هذا هو وقت الحلفاء الرافضين للهيمنة الغربية من كل دول العالم.

أما الرسائل الأخرى التي أرادتها موسكو فكانت لأوروبا من عمان، التي تلعب دومًا دورًا مهمًا في تعزيز الاستقرار والأمن في منطقة الخليج. وقد ساهمت مسقط بمنهجها المتوازن في إنجاح العديد من المبادرات الدبلوماسية الدولية في المنطقة.

وهنا تصب سياسة عمان بشكل غير مباشر في إنجاح مفهوم الأمن الجماعي الروسي الذي تتبناه موسكو تجاه بلدان الخليج العربي، مقابل السياسة الأمريكية شديدة التعقيد في المنطقة. ما يعني تسيد منطق روسيا ورؤيتها ومنهجها في أحلك ظروفها الدولية.

ويُنظر للظهور الدبلوماسي على أحد المسارح السياسية في بلدان الشرق الأوسط وفي دولة مثل عمان، بمثابة هزيمة لادعاءات تراجع دور موسكو في المنطقة. وهي ادعاءات دائمًا ما تشير إليها وسائل الإعلام الدولية في تغطيتها لانعكاسات الأزمة الأوكرانية على النفوذ الروسي في الشرق الأوسط.

كما تبرهن روسيا بهذه التحركات على صلابتها أمام أهداف الغرب الذي يسعى لإجبارها على الانكماش داخل حدودها. ذلك بعد أن جرى تجريسها أخلاقيًا في الخطابات السياسية وعبر الإعلام الغربي، باعتبارها دولة مارقة تدعم الشمولية والديكتاتورية وتتمرد على النظام الدولي ولوائحه وقوانينه. ما يبرر أن تستمر تحت طائلة العقوبات الصارمة التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها عليها.

ما ستجنيه عُمان من روسيا

على الجانب الآخر، هناك جملة من المكاسب تريدها عُمان من توثيق علاقتها بروسيا. إذ يوفر لها الحوار مع الجانب الروسي -في مثل هذا التوقيت المفصلي- تسويق موقفها للعالم المعروف بالحكمة والتوازن. ما يدفع الكثيرون إلى زيارتها ومشاهدتها عن قرب. ذلك إلى جانب الدفع بها لحل الكثير من أزمات المنطقة. وهو ما يضيف لحضورها الكثير من التأثير.

أيضًا، تريد عُمان التزود بالخبرة الروسية واستثماراتها في قطاع الطاقة وإنتاج الهيدروكربونات والاستكشاف الجيولوجي والاتصالات والنقل، مع الإبقاء على مكاسب الاتفاقيات التي وقعتها من قبل مع روسيا، ومنها اتفاقية تجنب الازدواج الضريبي التي توفر حماية متبادلة لمجتمع الأعمال والاستثمارات بين البلدين وتعزيز تنمية السياحة.

وتبحث عُمان كذلك عن تنويع مصادرها من النقد الأجنبي، في ظل تحول العالم إلى سياسات الطاقة النظيفة. وهي سياسات قد تسحب البساط من البلدان الخليجية خلال عقود قليلة مقبلة. فتنهي رفاهيتها التي تستند على احتياطاتها النفطية. ومن ثم فموقعها المتفرد في العالم وأثارها التاريخية يحقق رغبتها في تنويع مصادر الدخل.

كما تريد عمان زيادة المنح التعليمية لأبنائها في روسيا. ذلك حتى تلحق بدول الخليج التي تطور علاقتها مع موسكو. لا سيما في المجالات التجارية والصناديق السيادية ومجالات تكنولوجيا المعلومات والإنتاج الزراعي ومكافحة الإرهاب الدولي.

البقاء على نفس درجة العلاقات

تبقى عُمان من خلال توثيق التعاون، على نفس درجة مستوى العلاقات العربية الروسية التي تشهد تصاعدًا مستمرًا. إذ يمد الاتحاد الروسي العرب بأغلب أسلحته المتطورة وفقًا لرؤيته التي تفضل المصالح المشتركة في مجالات الاقتصاد والأمن. وتنحاز عُمان إلى رؤية العالم العربي الذي يتطلع في معظمه إلى ولادة نظام عالمي جديد تقوم فيه العلاقات الدولية على مبادئ المصالح المشتركة.

وسارعت العديد من البلدان العربية الكبرى خلال السنوات الماضية خطواتها لإبرام اتفاقيات شراكة اقتصادية والإلغاء المتبادل لتأشيرات للمواطنين مع روسيا، لا سيما وأن موسكو طوال تاريخها يجمعها بالعرب احترام متبادل. وهو منهج يميز العلاقات الروسية العربية دائمًا في الاتفاقات المختلفة، على خلاف العلاقات مع الغرب التي يهمين فيها طرف على آخر، ويفرض شروطه للتعاون. ما يُمكن عُمان من تحقيق مصالحها. وفي الوقت نفسه عدم خسارة الأطراف الأخرى في الصراع مع روسيا.