بينما تعمل حركة حماس على ترسيخ صورتها الذهنية أمام الجمهور. وتصدير أنها حركة المقاومة الأولى، التي نجحت مرة تلو الأخرى في هزيمة إسرائيل. يسعى الإسرائيليون، في الوقت نفسه، لتغيير “لعبة الإدراك” كما يطلقون عليها. لأن الجماهير لا تكترث بالقدرات العسكرية الفعلية، أو السيادة على الأرض. في حال طغيان الدعاية التي يمكنها تضخيم أو قلب الحقائق.
وسط الحملات العسكرية الإسرائيلية، تسقط الدولة العبرية مرارا في الحفرة التي حفرتها حماس. حيث يدمر كل صاروخ “قسام” يخترق دفاعات القبة الحديدية، ملايين الشيكلات التي تنفقها الحكومة الإسرائيلية من أجل طمأنة مواطنيها، وتصوير جيشها بأنه الأكثر قوة في الشرق الأوسط. لكنه -في الوقت نفسه- يعجز عن التصدي لمقاليع الحجارة والصواريخ البدائية التي يمطرهم الفلسطينيون بها عند كل صدام.
في الوقت الحالي، تخوض حماس وإسرائيل حربًا دعائية. لتحديد “الرواية” التي تصور إنجازات كل جانب على الساحات المحلية والإقليمية، وحتى العالمية. تبذل حماس جهودًا كبيرة لتضخيم صورتها في مواجهة إسرائيل. لأنها تحاصر إسرائيل في خمس ساحات. دائمًا تهدد بإطلاق الصواريخ وتنفيذ العمليات من قطاع غزة، وتقدم نفسها على أنها المدافع عن الأقصى في القدس. وتشارك نشطاء المقاومة في مدن الضفة الغربية وبين المواطنين العرب داخل الحدود الإسرائيلية، وتطلق الصواريخ من لبنان.
من الناحية العملية، تستغل حماس بشكل كبير الغضب الشعبي الفلسطيني التلقائي بدلاً من القيام بعمليات، مثلما حدث خلال محاولات إخلاء حي الشيخ جراح بالقدس. بينما تواجه إسرائيل تحديًا منهجيًا، يتمثل في إحباط -أو على الأقل تعطيل- الحملة الدعائية التي تشنها حماس. وهو ما يبدو في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، والنشاط المكثف للدعاية الصهيونية على مواقع التواصل الاجتماعي.
اقرأ أيضا: حماس والسلطة وإسرائيل.. حسابات المقاومة والسياسة
التصعيد من أجل الدعاية
بعد الانتهاء من عملية “حارس الأسوار” الإسرائيلية في مايو/ أيار 2021، أشار يونان تزوريف، الباحث بمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي. أن التصعيد هو نتاج مخطط لحملة تقودها حركة حماس بالتعاون مع الجهاد الإسلامي الفلسطيني والجبهة الشعبية. يقول: جيل الشباب له دور فيه لكنه لا يقوده. ويجد بشكل أساسي في مبادرة حماس وفي أجواء التصعيد أنها تخلق متنفسا لإطلاق البخار المتراكم منذ فترة طويلة. بعبارة أخرى، لا يجب أن يستنتج من مشاركة جيل الشباب في التصعيد أن هناك إجماعًا بينه وبين المنظمات الإسلامية. فيما يتعلق بالتعامل مع إسرائيل وحل النزاع.
يُضيف: في وقت مبكر من يناير/ كانون الثاني 2022. بدأت حماس في إرساء الأسس للتصعيد في رمضان. وحذرت من الاعتداء الإسرائيلي على المسجد الأقصى أو اقتحامه. وتوسيع حرية العبادة اليهودية، وصعود اليهود إلى الحرم القدسي، وتكرار ترتيب الحرم الإبراهيمي في المسجد. ففي أعقاب مذبحة باروخ جولدشتاين 1994. تم إنشاء نظام جديد بجدول زمني منفصل لصلاة اليهود والمسلمين، وهو في نظر الفلسطينيين منحاز لليهود.
يرى تزوريف إن مزاعم حماس تفتقر إلى أساس واقعي. لكن هدف الحركة كان بث الروح في الجمهور الفلسطيني في الضفة الغربية، والشتات الفلسطيني، وإسرائيل. قبل وأثناء التصعيد في رمضان. كانت سياسة إسرائيل، منذ تشكيل الحكومة الحالية في يونيو/حزيران 2021. هي تجنب أي إجراء مثير للجدل يمكن أن يقوض التحالف.
لذلك، لم تتخذ الحكومة الإسرائيلية أي خطوات لتغيير الوضع الراهن. القائم في القدس الشرقية، وحول الأماكن المقدسة، خلال عملية “حارس الأسوار”. والتي بدأت في القدس وركزت على قطاع غزة. بل يبدو التصعيد الحالي الفصل الثاني في المواجهة نفسها التي اندلعت بعد إلغاء انتخابات المجلس التشريعي من قبل رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس/ أبو مازن.
كيف تفوز إسرائيل بـ”لعبة الإدراك”؟
في تحليل حديث نشره معهد الأمن القومي الإسرائيلي. يلفت الباحثان يورام شفايتسر وديفيد سيمان-طوف. إلى أن الحملة المعرفية أو الدعائية تكون فعالة عندما يتم استخدامها بشكل مكثف ومنهجي. حيث تجمع بين الإعلانات العلنية، والإجراءات الهادئة وراء الكواليس، أو خلف لوحة المفاتيح، التي تدفع المجموعات أو المهاجمين المنفردين إلى اتخاذ الإجراءات.
يقولان: بهذه الطريقة نجحت حماس منذ زمن بعيد في بث رسائل في الجمهور الفلسطيني تتناسب مع استراتيجية حماس. كما يتلقى الجمهور الإسرائيلي رسائل حماس، ويصفها بقوة أكبر بكثير من قدراتها الفعلية. فقد أدت الهجمات والاحتجاجات التي وقعت في الشهرين الماضيين -بما في ذلك التي وقعت بوحي من حماس- إلى خسائر فادحة في الأرواح الإسرائيلية. وحظيت بتغطية إعلامية واسعة النطاق ومكثفة، مما خلق شعورا بالقلق بين الجمهور.
تخدم الحملة المعرفية التي تشنها حماس منذ عملية “حارس الأسوار” عدة أغراض استراتيجية. الأول هو تحويل التركيز الحالي للحرب بعيدًا عن قطاع غزة، حيث يمكن أن تتسبب إسرائيل في أضرار جسيمة. من خلال النشاط العسكري المباشر، ونحو ساحات القدس الشرقية وداخل إسرائيل -حيث يكون تدخلها المباشر أقل علانية- والتي يُنظر إليها، من الجانب الإسرائيلي، بشكل أساسي، على أنها مساعدة الآخرين لإحداث احتكاك مع الدولة العبرية. مع الحفاظ على صورتها كمحرض على حوادث العنف.
يضيف الباحثان: هكذا، تثير حماس الفتنة دون أن تضطر لدفع ثمن في غزة. رغم أن إسرائيل في الأشهر الأخيرة رأت حماس “اليد التي تهز المهد”. صوّرت حماس عملية “حارس الأسوار” -التي أطلقت عليها اسم “سيف القدس”- على أنها حدثت من أجل الحفاظ على السيادة الإسلامية على المسجد الأقصى. على الرغم من أن المواجهات حدث بشكل رئيسي بين قطاع غزة والداخل الإسرائيلي. كان الاسم الذي اختارته حماس لإعطاء الصراع بسبب المعنى الديني الواضح للمصطلح. نجحت حماس في غرس سرديتها في جمهورها المتنوع، مما عزز صورتها كمدافع عن الأماكن المقدسة في القدس. مع إخفاء إخفاقاتها العملياتية في الخلفية.
اقرأ أيضا: زيارة حماس للقاهرة: ما تحقق وما لم يتحقق
رسائل حماس لـ “حارس الجدران”
بعد التحقيق في الهجمات الست التي وقعت خلال الشهرين الماضيين، والتي أودت بحياة 19 إسرائيليًا. لاحظ مسئولون في قوات الأمن الإسرائيلية أنه لم يتم العثور على صلة مباشرة بين منفذيها وحركة حماس. يتناسب هذا الاستنتاج مع استراتيجية حماس الدعائية. والقائمة على شن حملة معرفية، خاصة في المجال الرقمي، ولكن دون دليل على أي صلة مباشرة بينها وبين الهجمات.
عملت هذه الاستراتيجية على ترسيخ صورة الحركة كقيادة للمقاومة المسلحة ضد إسرائيل. وكمسئول عن الشعور بالقلق الذي أحدثته الهجمات بين الإسرائيليين. ويرجع ذلك أساسًا إلى تشويه صورة السلطة الفلسطينية -المنافس الرئيسي للحركة- وتصويرها أنها ضعيفة وفاسدة ومتعاونة مع إسرائيل.
لاحظ الباحثان أنه بعد مرور عام على “حارس الجدران”. وبعد سلسلة من العمليات الفلسطينية في الأشهر الأخيرة. أن هناك حملة إدراكية متنامية تقودها حماس، تتضمن عدة رسائل رئيسية. أولها أن حماس هي التي تقف وراء سلسلة العمليات في إسرائيل، وكذلك الانتفاضة في الحرم القدسي، وفي أماكن مختلفة في الضفة الغربية. وإطلاق صاروخ من لبنان في 25 أبريل/ نيسان.
بل، تحملت حماس المسئولية المباشرة عن عملية في إسرائيل رغم أنها لم تكن مسئولة عنها. وأشادت الحركة ومجدت منفذي العمليات، بمن فيهم خصومها المرتبطين بتنظيم داعش. هنا، يرى الباحثان الإسرائيليان أن هذه المسئولية “عبرت عن إحباط حماس العميق بسبب إفشال عشرات الهجمات خلال شهر رمضان. والتي خططت لبعضها”.
تشويه السلطة وسياسة إسرائيل
تضمنت رسائل حماس كذلك، تأجيج التوترات المحيطة بالحرم القدسي. وإبراز الخلاف الإقليمي والعالمي بشأن السيادة في الحرم، من أجل زيادة الضغط السياسي على إسرائيل. مع ترسيخ صورة حماس ومكانتها كقيادة للنضال الفلسطيني المباشر ضد إسرائيل. وكذلك التدخل في السياسة الداخلية الإسرائيلية، من خلال الضغط المباشر على القائمة العربية الموحدة، للاستقالة من الحكومة.
يضيفان: “كما يتم التعبير عن الانطباع بوجود حماس قوية. يمكنها في نفس الوقت إدارة عدة ميادين من الهجمات ضد إسرائيل، في خطابات وتهديدات كبار مسؤولي حماس. زعم إسماعيل هنية مرارًا أن القدس والمسجد الأقصى في قلب الصراع. بل تفاخر بأن المقاومة التي تقودها حماس هي التي تحدد ميزان القوى حاليًا في المنطقة. هدد زعيم حماس في قطاع غزة يحيى السنوار، بأن استمرار دخول قوات الشرطة الإسرائيلية إلى الحرم القدسي سيشعل فتيل حرب دينية إقليمية. وسخر من إسرائيل قائلاً إنها ضعيفة مثل شبكات العنكبوت، ودعا كل فلسطيني. لحمل بندقية أو سكين أو فأس وتذهب لتقتل يهوديًا”.
وتابعا: “إسرائيل تسقط في الحفرة التي حفرتها لها حماس. القلق وضعف الأمن الشخصي مشاعر مفهومة عقب وقوع الهجمات المميتة. ومع ذلك، فقد دعمت وسائل الإعلام المؤسسية والشبكات الاجتماعية في إسرائيل هذا الجو. من خلال توفير بث مباشر متكرر لمشاهد الدم والقتل والفوضى”.
كيف تتعامل إسرائيل مع دعاية حماس؟
في نهاية تحليلهما، أوصى الباحثان لاعبي السياسة الإسرائيلية. بعدة نقاط “من أجل التعامل بشكل فعال مع سياسة حماس في ساحة المعركة الإدراكية”. أولها أنه يجب على الشخصيات الإعلامية والخبراء والمعلقين الإسرائيليين. ضمان تقديم تعليقات احترافية بناءً على الحقائق “مع استخدام الحكم المهني، والوعي بالحملة المعرفية التي تُشن ضد إسرائيل، عندما ينسبون بشكل قاطع المسؤولية عن الهجمات الإرهابية وأعمال الشغب في إسرائيل إلى حماس. التكرار غير المنضبط لرسائل الخصم دون فهم عميق هو عامل مضاعف للقوة لمرتكبي الإرهاب. الذين يعتمدون على وسائل الإعلام العبرية لترويج وتعزيز رسائلهم”.
أيضا يُظهر الهجوم الإرهابي في مدن إسرائيل، وأعمال الاحتجاج التي وقعت مؤخرًا في القدس. أن إسرائيل بحاجة إلى الاهتمام بالبعد الهجومي للتأثير على الجمهور الفلسطيني والجماهير المستهدفة الأخرى. بالإضافة إلى العمل في البعد الدفاعي، وتعطيل جهود التحريض والدعاية التي تقوم بها حماس في أوساط الجمهور الفلسطيني. وعلى الساحتين الدولية والإقليمية.
وأوضحا: “في مواجهة الحملة التي تشنها حماس، هناك حاجة إلى حملة إسرائيلية هجومية ودفاعية مشتركة. تزامن الجهود المختلفة وتعطيل الإجراءات المعرفية للخصم بشكل واسع ومستمر. هذا العمل المشترك مطلوب بشكل روتيني -وطبعًا في أوقات الأزمات- كما تم التعبير عنه الشهر الماضي من خلال تجنيد جميع قوات الأمن الإسرائيلية (الجيش الإسرائيلي، وجهاز الأمن العام، ووزارة الخارجية، ومديرية المعلومات الوطنية). كجزء من جهود التأثير الوطني، مع تطوير وتوسيع البعد الدفاعي.
أمّا على الصعيد الدولي، حيث يتمتع الفلسطينيون عادةً بالدعم نظرًا لكونهم الجانب الأضعف في الصراع. يشير الباحثان إلى أنه من الضروري زيادة النشاط بشكل أساسي في البعد الرقمي. “يجب على إسرائيل أن تتخذ إجراءات على أساس روتيني لبناء الثقة والمصداقية في حملاتها المعرفية ونقل رسائلها. مع تجنيد المؤثرين في إسرائيل وفي جميع أنحاء العالم، وكذلك عامة الناس في الداخل والخارج”.