في حوار متعمق في أزمة مصر الاقتصادية تحدث الخبير الاقتصادي الدكتور عبدالخالق فاروق لـ”مصر 360″ بصورة مستفيضة حول كيفية خروج مصر من هذا المأزق. مقترحا “روشتة إنقاذ” للاقتصاد المصري. وتناول “فاروق” تاريخية الأزمة الاقتصادية في مصر وجذورها والحلول التي يمكن أن تصب في صالح الدولة تنمويا. فيما لم ينس الربط بين أزمة مصر السياسية وبين التأزم الاقتصادي.
وإلى نص الحوار.
كيف ترى آلية رفع سعر الفائدة كحل في مواجهة الأزمة الاقتصادية وموقف العملة المحلية الضعيف؟
من المفترض أن البنك المركزي لأي دولة له ثلاث وظائف أساسية: الأولى هي مكافحة التضخم والحفاظ على مستويات مستقرة للأسعار تتناسب مع معدلات الأجور ومستويات المعيشة. والوظيفة الثانية للبنك المركزي هي إدارة السيولة في المجتمع وتوفير التمويل اللازم لمشروعات التنمية وبرامجها. سواء التي يقوم بها القطاع العام أو الخاص. أما الوظيفة الثالثة والأساسية فهي الحفاظ على توازن سعر الصرف للعملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية. سواء الدولار أو غيره من العملات.
وفي الوظائف الثلاث يتم استخدام أدوات مختلفة منها “سعر الفائدة وسعر الخصم”. لكن بكل أسف فشل البنك المركزي المصري في تحقيق الثلاث وظائف في السنوات التي أعقبت ثورة 25 يناير. سواء في أيام طارق عامر أو هشام رامز. لأنهما أدارا بعقلية رجل مصرفي مرتبط بسياسات الدولة. لا بعقلية محافظ البنك المركزي التنموي والاقتصادي.
ورفع سعر الفائدة مؤخرا ما هو إلا محاولة لاكتساب جزء من السيولة المتاحة للأفراد والجماعات للتحفيز أو تقليل التضخم. وهذه السياسة يتم اتباعها منذ 2015 حينما وصل سعر الفائدة على الودائع وشهادات الادخار نحو 20%. والآن يتم تكرار التجربة ذاتها.
في كل الأحوال “سعر الفائدة” أكثر في مجال الاستثمار خاصة إذا كان هناك استثمارات تنموية. وما يجري حاليا استثمارات حكومية في العقارات والمباني والقصور الرئاسية وغيرها. وكل ذلك لم ينتفع به الشعب في أي شيء.
غالبا ما يتساءل المصريون: هل نحن بلد فقير حقا لكي نحصل على كل هذه القروض؟
مصر ليست دولة فقيرة لكن يجري إفقارها وفق سياسات ستؤدي حتما إلى الإفلاس. فالدولة ستعجز عن سد هذه الديون المحلية أو الخارجية. فاليوم نتحدث عن دين خارجي بقيمة خمسة ونصف تريليون جنيه.
وأصبح الدين الخارجي والداخلي حاليا يستهلكان أكثر من 55 إلى 60% من مصروفات الموازنة العامة للدولة. وأصبحت الأموال يتم صرفها على العاصمة الإدارية الجديدة تحت بند الاستثمار. والتي تكون أحد المظاهر الكاشفة لطبيعة التحيزات الاجتماعية والسياسية. والتي ليس لها علاقة بالتنمية ولا بالتخطيط.
ما أوجه الحقيقة في التناقض القائم منذ 60 عاما.. خصوصا منذ بداية تطبيق سياسة الانفتاح عام 1974؟
في الحقيقية الوضع الاقتصادي المتأزم في مصر منذ أكثر من خمسين عاما، حيث إننا بصدد مجموعة تناقضات. أبرزها:
أولا: أن الاختلالات الهيكلية العميقة في الاقتصاد المصري انعكست سلبيا على خلق ظواهر من قبيل تفاقم العجز في موازنة الدولة عاما بعد آخر. فضلا عن اتساع الفجوة المستمر في ميزان المدفوعات. خصوصا في الميزان التجاري “صادرات وواردات”. وهاتان الظاهرتان تعودان لتؤديا إلى تآكل دوري في الاحتياطي النقدي بالبنك المركزي من ناحية. وإلى التدهور المستمر والمنتظم في سعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية وتحديدا الدولار من ناحية أخرى.
ثانيا: أن السياسات والإجراءات التي تم اتباعها على مدى عقود خمسة ماضية ابتعدت عن إيجاد حلول لجوهر الخلل في الهيكل الاقتصادي المصري. خاصة في قطاعات الإنتاج السلعي كالزراعة والصناعة والكهرباء والطاقة. واهتمت أكثر بمعالجة الظواهر والأعراض. ومن هنا انخفضت قدرتنا على إنتاج غذائنا. من 75% في مطلع السبعينيات إلى ما دون الـ50% في المتوسط من معظم مصادرنا الغذائية. وإن تفاوتت من مصدر إلى آخر “قمح-زيوت-لحوم-أعلاف”. فأصبحنا حاليا نستورد 65% تقريبا من غذائنا. وكذلك جرت تحولات عميقة في قطاع الصناعة فأصبحنا نستورد نحو 70% من مستلزمات التشغيل الصناعي. وهي كلها عوامل أثرت سلبيا على قدرتنا للاحتفاظ باحتياطي نقدي مناسب. وكذلك على سعر متوازن لتبادل الجنيه المصري مع العملات الأجنبية. وبالتالي على معدلات التضخم وارتفاع الأسعار محليا.
هذه السياسة الاقتصادية والمالية المصرية أدت طوال العقود الماضية إلى تفاقم مرض عضال في صلب الموازنة. وهو زيادة المخصصات المدرجة في الموازنة لسداد فوائد الدين. فاقتطعت بالتالي كميات مالية كان ينبغي أن توجه إلى قطاعات الخدمات الأساسية للشعب.
وكيف كانت التغيرات الاجتماعية مؤثرة سلبيا في بنية الاقتصاد؟
بالطبع. فقد توازت مع هذه السياسات المالية والاقتصادية تغيرات عميقة في بنية المجتمع. إذ تم خلق طبقات بدا أن مصالحها تكاد تتناقض مع المصالح الوطنية والقدرة على تطوير قطاعات الإنتاج والتنمية الداخلية والذاتية وبناء اقتصاد وطني قائم على التوازن. مثالا طبقة المستوردين أو الوكلاء التجاريين المسجلين في السجلات الرسمية المصرية. فلم يكن عددهم في عام 1994 يزيد على 40 ألفا. وحاليا أصبحوا في ارتفاع مستمر من جميع الأصناف والأحجام. وكان معظمهم منفذا وبابا لموجة عاتية من الواردات غير الضرورية وتغذية النزوع الاستهلاكي لدى فئات اجتماعية عديدة. ما زاد اتساع الفجوة في الميزان التجاري المصري “صادرات وواردات”. إضافةً إلى ذلك فقد سهّل تحالف رجال المال والأعمال ورجال الحكم والإدارة طوال الثلاثين عاما -حكم مبارك- نشوء قوى احتكارية هائلة داخل بنية الاقتصاد المصري. فتحكمت في السوق المصرية وحققت أرباحا هائلة دون سقف. كما أسهمت في خلق أزمات في “الخبز-السكر-الدواجن-اللحوم-الأسماك-الحديد” وغيرها. بهدف تحريك الأسواق بما يناسب مصالحها ويعظم أرباحها.
وقد صاحب كل هذا انتشار جماعات الفساد المقنن والمنظم في معظم قطاعات المجتمع والدولة المصرية. بدءًا من الدروس الخصوصية في النظام التعليمي إلى جماعات مصالح في انهيار المنظومة الصحية وصناعات الدواء. مرورا بتحالف رجال المال والأعمال مع رجال الحكم والإدارة. فانتشرت ظواهر جديدة في الإدارة الحكومية مثل “الصناديق والحسابات الخاصة”. والتي احتوت على عشرات المليار من الجنيهات سنويا. وهي ظاهرة غير مسبوقة في النظم المالية المتحضرة. فحرمت الخزانة والموازنة من كميات مالية كبيرة وضاعت فرص توظيف أكثر كفاءة للموارد والإمكانيات.
وهكذا بين سوء وضعف الكفاءة في إدارة الاقتصاد من ناحية. وسيطرة جماعات المصالح والفساد من ناحية ثانية وهيمنة “البورصجية” على عملية رسم وصنع السياسات الاقتصادية من ناحية ثالثة. ضاعت فرص التنمية الحقيقية وتم استبعاد خبراء التخطيط والتنمية من المشهد العام ومن دوائر رسم السياسات العامة.
ما الفرص الباقية لإعادة بناء الاقتصاد الوطني والاستفادة من القدرات والإمكانيات الكامنة فيه؟
قليلة هي الكتابات التي تناولت ظاهرة الفائض الاقتصادي ووسائل استنزافه أو الاستفادة منه. وقد برز في حقبة الخمسينيات ثلاثة من أهم الخبراء الاقتصاديين الذين أسسوا لمفاهيم الفائض الاقتصادي بصورته العلمية الحديثة. وهم الكاتبان الأمريكيان “بول أ. باران” و”بول م. سوزي” في كتابهما الرائع “رأس المال الاحتكاري”. وهو عن وسائل استنزاف الفائض الاقتصادي في النظام الأمريكي وفي النظام الرأسمالي عموما.
بينما أسس المفكر الاقتصادي الفرنسي “شارل بيتلهايم” في محاضراته التي جمعها وترجمها الدكتور إسماعيل صبري عبد الله في كتاب بعنوان “قضايا التخطيط والتنمية”. وصدرت عن دار المعارف عام 1965.
في هذه المحاضرات قدم “بيتلهايم” مفاهيم جديدة عن “الفائض الاقتصادي الفعلي” و”الفائض الاقتصادي الاحتمالي” و”الفائض الاقتصادي الكامن”. هذا في الوقت الذي كان الكتاب والمفكرون الاقتصاديون في الشرق والغرب قد استغرقوا في شرح عمليات النهب الاستعماري واستنزاف الفائض الاقتصادي للشعوب النامية عبر وسائل التجارة غير المتكافئة من ناحية. أو تحركات رؤوس الأموال من ناحية ثانية. وكذلك عبر مصيدة الديون والإقراض من ناحية ثالثة.
ورغم أن خبراء معهد التخطيط القومي في مصر قد قاموا بدراسات جادة حول صور وأحجام الفائض الاقتصادي المستنزف في بعض قطاعات الاقتصاد المصري -كالقطاعين الزراعي والصناعي- فقد ظلت هذه الدراسات ذات طبيعة جزئية وقطاعية. ولم تضمها رؤية ومنهجية قائمة على المعايير الكلية لمفاهيم الفائض الاقتصادي وعلاقتها بالنهب والفساد.
سنوات من الفرص الضائعة
على أي حال فإن ما نود تأكيده هنا أن الاقتصاد المصري والمجتمع المصري قد ضاعت منهما فرصة حقيقية للتنمية والتحديث بعد عام 1974. خاصة بعد أن لاحت في الأفق موارد جديدة لم تكن معروفة بهذا المقدار في العقود السابقة.
ويكفي أن نشير إلى أن التدفقات المالية والنقدية التي اندفعت كالسيل في شرايين الاقتصاد المصري منذ عام 1974 حتى فبراير عام 2011 قد زادت على 850 مليار دولار. سواء كان ذلك في صورة تحويلات للعاملين المصريين في الخارج -160 مليار دولار- أو إيرادات البترول والغاز -6 مليار دولار. أو دخل رسوم المرور في قناة السويس -60 مليار دولار- أو دخل السياحة المسجلة فقط -60 مليار دولار- بالإضافة بالطبع إلى المساعدات والقروض العربية والأمريكية والأوروبية واليابانية وغيرها. والتي مثلت إضافة هائلة تم تبديد معظمها في مسارب وقنوات غير تنموية.
لم تكن هذه هي القدرة الوحيدة التي جرى تبديدها في مسارب استهلاكية و”فشخرة” استثمارية حكومية. وإنما تعدتها إلى مصادر أخرى للموارد والقدرات جرى إهمالها أو نهبها لصالح فئات محددة من كبار رجال المال والأعمال والشركاء الأجانب. منها مثالا:
قطاع البترول والغاز. جرت فيه عملية تنازل مستمرة ومنتظمة عن بعض الحقوق والمصالح المصرية لصالح الشركاء الأجانب والمستثمرين المصريين والعرب. “نسبة الإتاوات-بند استرداد التكاليف-توزيع حصص الإنتاج-حساب الأصول-نمط التوظيف الاستثماري لأموال هيئة البترول والشركات العامة فيه. وهو ما تناولناه تفصيلا في كتاب “أين البترول والغاز المصري؟” الصادر عن هيئة الكتاب عام 2017. ومن شأن إعادة هيكلة هذا القطاع إداريا وماليا وتشريعيا وتنظيميا أن يوفر للخزانة العامة ما يقارب 20 مليار جنيه إضافية. نسترجع بها للقطاع حيويته وقوته التي بددتها سياسات تشغيل أقل ما توصف به أنها “فاسدة وضارة”.
وفي قطاع الثروة المعدنية الذي ترك نهبا لحفنة مقاولين مصريين وعرب وأجانب مع كبار رجالات الإدارة المحلية في بعض المحافظات. بحيث ضاعت على مصر فرصة حقيقية للتنمية وتوفير فرص عمل إضافية للشباب من خلال تصنيع مكثف لمخرجات المناجم والمحاجر. بما يمكننا من زيادة الإيرادات المحققة منه بأكثر من 20 مليار جنيه أخرى. ولا يحتاج الأمر منا إلا إلى خطة لإعادة هيكلة هذا القطاع وإنشاء وزارة مستقلة له ووضع خطة تصنيع حقيقية فيه.
الموازنة السرية
أما أموال الصناديق والحسابات الخاصة التي تتحرك فيما يمكن أن نطلق عليه “الموازنة السرية” أو “الموازنة الموازية”. والتي تشتمل على عشرات المليارات من الجنيهات سنويا. يقدرها بعض الخبراء بأكثر من 200 مليار جنيه “إيرادا ومصروفا”. تتحرك بعيدا عن أعين صانع السياسة الاقتصادية والمالية في البلاد.
إضافة إلى ذلك الفوائض والمدخرات المالية المتاحة لدى الأفراد والقطاع العائلي. والتي تركت نهبا للسلوك الاستهلاكي بعد أن انسحبت الدولة من التنمية والتخطيط. فاتجهت هذه الفوائض والمدخرات إلى شراء الفيلات والقصور والشاليهات السياحية الفاخرة. فبلغ حجم مشتريات المصريين من هذه الوحدات منذ عام 1980 حتى عام 2011 نحو 415 مليار جنيه. أي ما يعادل 180 مليار دولار بأسعار الصرف السائدة خلال تلك الفترة”. وكان من الممكن تشجيع هذه الأسر والأفراد لاستثمار جزء ولو بسيط من هذه الفوائض في صورة شراء أسهم لشركات صناعية أو زراعية لو توافرت للدولة رغبة وقدرة على التخطيط والتنمية.
يضاف إلى ذلك وقف حالة السَّفَه في الإنفاق الحكومي. خصوصا على مكاتب الوزراء والمسؤولين في الهيئات والمحافظات وشراء السيارات الحكومية وغيرها من مظاهر الإنفاق غير الرشيد. فهذه هي بعض من كثير جدا من أوجه إهدار الموارد وسوء إدارتها.
هل لدينا روشتة لإنقاذ الاقتصاد المصري؟
فورا ودون إبطاء علينا وضع ثلاث خطط متكاملة تنقل كل مرحلة منها نحو الأخرى مباشرة. وهي: الخطط ذات الأجل القصير لإنقاذ سريع للموقف الحرج وتستمر من لحظة تطبيقها لمدة ثلاث سنوات. ثم الخطط متوسطة الأجل من ثلاث إلى سبع سنوات. ثم خطط طويلة الأجل من سبعة إلى 15 عاما.
هذه الخطط تشمل الزراعة والصناعة والتعليم والصحة والبيئة والتشغيل والتوظف وإعادة بناء قطاع الأمن والعدالة. وبناء نظام الأجور والمرتبات وتوجيه النظام المصرفي لخدمة احتياجات وأولويات التنمية الموضوعة.
أولا: الخطط قصيرة الأجل
الأهم هنا هو معالجة الفجوتين التمويلتين الكبيرتين اللتين أسميهما تفاحتي إبليس. فمنهما تبدأ سلسلة طويلة من المصائب. وهما عجز الموازنة والفجوة الكبيرة في الميزان التجاري. فالوضع أشبه بربة منزل دخلها الشهري ألف جنيه تنفق شهريا خمسة آلاف جنيه. فمن أين تأتي بالباقي؟
إما بالاقتراض من الجيران مما يؤدى بعد فترة إلى تدخل الجيران في شؤون بيتها وطريقة تربيتها لأبنائها. أو طلب زوج السيدة الجارة أن نذهب معه لنشاركه في الخناقة التي ينوي القيام بها مع جيرانه. كاستدعائنا في اليمن مثلا. أو ألا نعترض على تصرفاته حتى لو كان يهد البيت والعمارة على من فيها.
هنا ينبغى إما الاستمرار في الاقتراض والسلف أو النظر في مواردنا الذاتية التي أهملناها لفترة طويلة لنصحح الوضع.
من هنا نقوم بالآتي:
نعيد النظر في البنيان الوزاري الراهن. ليس فقط من حيث التجانس الفكري -خصوصا للمجموعة الاقتصادية- وإنما الجلوس معا في ورشة عمل مغلقة لمدة أسبوع على الأقل للاتفاق على التحليل الشامل والتفصيلي للموقف الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. وذلك لتصحيح هذه الاختلالات بحيث يصبح العمل الحكومي عملاً جماعياً بحق وليس عزبا مغلقة لكل وزير أو رئيس مصلحة أو هيئة.
وتشمل هذه الخطوة إعادة دمج وتفكيك وتركيب بعض الوزارات. فالوزارات التى تتولى أجهزة مركزية ليس هناك ضرورة لاستمرارها مثل وزارة التنمية الإدارية ووزارة التعاون الدولي. يمكن دمجهما في وزارة التخطيط وإلغاء وزارة التنمية المحلية وإحلال مجلس تنسيقي للمحافظين بدلا منها يرأسه رئيس الوزراء.
الضرائب والعدالة الاجتماعية
ثانيا يجب أن نعيد النظر فى النظام الضريبي الراهن الذي لا يعكس العدالة الاجتماعية من ناحية. ولا يمكن من تغطية النفقات المتزايدة للدولة. خصوصا في قطاعات التعليم والصحة والإسكان والبيئة.
والنظام الضريبي الصارم والعادل والمراقب من داخله ومن خارجه يمكن أن يوفر لنا وفقا لتقديرات كل خبراء الضرائب في مصر ما بين 150 مليار جنيه إلى 300 مليار جنيه إضافية سنويا خلال السنوات الثلاث القادمة. حيث متوسط الحصيلة الضريبية في مصر 11% إلى 13% من الناتج المحلي. بينما هي في الدول المنضبطة ضريبيا تصل إلى 35% إلى 40% من الناتج المحلي الإجمالي. ويمكن أن نصل إلى الحصيلة بإجراءات تفصيلية ليس هنا المجال لشرحها. ولكن منها فرض الضريبة على أرباح الشركات والدخول المرتفعة للأغنياء بما لا يقل عن 35%. وهي بالمناسبة في أمريكا تصل إلى 42% وكذلك في كثير من الدول الغربية.
ثالثا يجب إعادة هيكلة قطاع البترول والغاز الذي كان ولا يزال مرتفعا لفساد غير معهود. ومنها نستطيع توفير ما لايقل عن 20 مليار جنيه سنويا. وبالمناسبة أقول هذا وقد أعددت كتابا كاملا حول الفساد في هذا القطاع وكيفية إعادة بنائه. أي إن لدينا مخططا كاملا وواقعيا لكيفية إعادة هيكلة قطاع البترول والغاز. وهذا يحقق نتائجه خلال سنتين على الأكثر.
كذلك إعادة هيكلة قطاع الثروة المعدنية الذي كان وما يزال نهبا للمقاولين والمحافظين والصناديق الخاصة وجهات أخرى. والاتجاه نحو تصنيع هذه المنتجات. وووفقا لكل خبراء الثروة المعدنية فإنها توفر لنا ما لا يقل عن 20 مليار جنيه سنويا.
وقد يسأل البعض من حَسَني النية: لماذا لا يقوم النظام الحاكم الراهن بتنفيذ ذلك؟
السبب ببساطة هو وجود شبكات مصالح تمنع ذلك وهم جزء من نظام الحكم للأسف.
أقترح أيضا تصفية الصناديق والحسابات الخاصة الموجودة في كل الوزارات والمصالح والمحافظات وتستنزف المواطنين ولا تدخل إلى الخزانة العامة.
أسطول إهدار المال العام
وأيضا إعادة هيكلة الموازنة العامة التي ينفق فيها مبالغ هائلة دون مقتضى. مثلا السيارات الحكومية “لدينا أسطول من السيارات الحكومية يزيد على 250 ألف سيارة ومركبة من جميع الأنواع. ولدينا مبان حكومية 441 ألف مبنى من جميع الأنواع”. ومع ذلك نجد وزراء يبنون مباني جديدة. ومنهم وزراء بمجرد تسلمهم المنصب يقومون بإنفاق مبالغ ضخمة لتجديد مكاتبهم. ومعظمهم يقومون بذلك كأننا بلد يعيش في رفاهية وليس مديونا أو يتسول من دول الخليج والعالم.
كذلك أقترح مراجعة نمط الأولويات المفروضة على الحكومة مثل العاصمة الإدارية الجديدة. التي سوف تمتص جزءا كبيرا من الفوائض المالية المتاحة لدى الأفراد والأغنياء. بدلا من توجيهها وتشجيع الناس على الاستثمار في أسهم الشركات الصناعية.
وبالتالي لا بد من دخول الدولة والقطاع العام في الاستثمار الإنتاجي. وهذا سنعود إليه في الخطط متوسطة الأجل.
وعلينا أن نعرف أنه في عصرَي السادات ومبارك أنشأنا 25 ألف كيلومتر طرقا بصرف النظر عن كفاءة كثير منها والفساد المصاحب لها. ومن هنا فإن اهتمامنا حاليا بإنشاء الطرق وتصوير ذلك للشعب على أنه حدث تاريخي فهذا كلام يفتقر إلى الدقة. وهذا لا يعني أننا لا نحتاج إلى طرق جديدة لكن الأمر لا بد أن يطرح كاملا وفي سياق واضح وليس مقتطعا.
نعود إلى كلامك عن الإصلاح الضريبي
يجب تفعيل الضريبة على العقارات. خصوصا أن لدينا ثروة عقارية ضخمة. فلدينا نحو 250 ألف قصر وفيلا وشاليه سياحي تم بناؤها منذ عام 1980. وكذلك الشقق التي تزيد قيمتها على ثلاثة أو أربعة ملايين جنيه. وعليكم أن تعرفوا أن المصريين اشتروا فيلات وقصورا وشاليهات سياحية منذ عام 1980 بنحو 415 مليار جنيه والظاهرة تتزايد. وهذه الضريبة يمكن أن توفر لنا نحو 7 مليارات جنيه إضافية.
كذلك الضريبة على الأرباح الرأسمالية المعمول بها في أمريكا ومعظم الدول الرأسمالية. وذلك لتخفيف حدة الأموال الساخنة التي تتحرك عبر البورصات والصفقات المشبوهة وعمليات غسل الأموال. فهناك من حقق أرباحا في شراء وبيع شركة أسمنت أكثر من 4.5 مليار جنيه ولم يسدد عنها مليما واحدا كضرائب. وكذلك فعل غيره بشراء شركة أسمنت وبيعها إلى شركة “لافارج” الفرنسية وحقق أرباحا 23 مليار جنيه لم يسدد عنها مليما واحدا ضرائب. وذلك لأن قانون الضرائب المصري لا ينص على ضريبة على الأرباح الرأسمالية.
الاستثمارات السياحية والإسكان الفاخر التي جرت على أرض زراعية.. كيف ترى أزمتها؟
هذا ملف خطير. ويجب خلال عام أن ننتهي منه. فهناك أراضي استصلاح جرى تحويلها إلى الإسكان الفاخر “منتجعات سكنية فاخرة وشاليهات سياحية”. خصوصا على طريقي “القاهرة-الإسكندرية” والقاهرة- الإسماعيلية”. والتي قدرتها الجهات المسؤولة “المهندس إبراهيم محلب مساعد رئيس الجمهورية لشؤون المشروعات الكبرى” في يوليو عام 2016 بأكثر من 350 مليار جنيه كفروق تسعير. دون أن يحتسب خسائر الفرصة البديلة المتمثلة في تدمير هذه الأرض نهائيا كأرض صالحة للاستزراع وفقدانها كمصدر هام لرفع نسب اكتفائنا الذاتي من أهم المحاصيل الزراعية.
وبالنسبة لمعالجة الخلل الضخم في الميزان التجاري
هناك حزمة إجراءات وسياسات متكاملة لا بد من اتخاذها. أهمها:
1-ترشيد الواردات وسجل الموردين من الخارج الذين زاد عددهم من 42 ألف مستورد عام 1985 إلى أكثر من 840 ألف مستورد مسجل بصرف النظر عن العدد الفعلي للنشاط.
2-ترشيد الواردات من خلال مراجعة قوائمها وحذف وحظر الكثير منها. وهذا يمكن أن يقلل وارداتنا بنحو 8 مليارات دولار في السنة الأولى على الأقل. وبالتالي تخفيف الضغط على الميزان التجاري وعلى طلب الدولار.
3-ترشيد الواردات باتباع نظام القوائم السلبية. بحيث يحظر على القطاع الخاص استيراد 15 سلعة استراتيجية كاللحوم والقمح والسكر والشاي والزيت وغيرها.
4-ترشيد الواردات عبر التوسع في نظام التجارة بالمقايضة أو بالعملات المحلية المتبادلة. وقد بدأت بعض الدول استخدام هذه الطريقة لتخفيف الأثر السلبي لتقلبات سعر الصرف. خصوصا الدولار. ومن هذه الدول روسيا والهند والبرازيل وفنزويلا وبوليفيا وإيران. فهي فرصة هائلة لتغيير قواعد التجارة الدولية الظالمة والتخفف من الأثر السلبي لاتفاقية التجارة الدولية.
5-ترشيد الواردات بتعظيم قدراتنا الإنتاجية. وهذا هو مفتاح الموقف كله. خصوصا في الزراعة. فضلا عن الاستعانة بخبراء وعلماء زراعيين ابتكروا تقاوي زراعية جديدة مثل الدكتور سعيد سليمان الذي ابتكر زراعة الأرز في بيئة شحيحة المياه. ويجري محاربته بضراوة من جانب “عصابات” في وزارة الزراعة ومعهد البحوث الزراعية.
6-إلزام المصدرين والمتعاملين مع العالم الخارجي توريد 80% على الأقل من حصيلة تعاملاتهم بالنقد الأجنبي إلى البنوك المصرية. مع مراقبة البنك المركزي لهذه الحسابات ومدى التزام المصدرين نص القانون سواء كانوا من القطاع الخاص أو العام. وتوقيع أقصى عقوبة على المخالفين. لهذا تذكرون في أزمة عام 2003 أصدر رئيس الوزراء عاطف عبيد القرار رقم 506 لسنة 2003 الذي ألزم هؤلاء بتوريد 75% من الحصيلة إلى الجهاز المصرفي المصري. ثم بعد شهور قليلة وتحت ضغط رجال المال والأعمال جرى إلغاء هذا القرار.
7-البدء فورا في مشروعات الطاقة الجديدة والمتجددة. خصوصا مشروعات الطاقة الشمسية.
8-البدء فورًا في تطبيق استراتيجية تفكيك ركائز دولة الفساد.
الخطة متوسطة الأجل لإنقاذ الاقتصاد
الأصل في هذه الخطة والهدف منها هو تصحيح الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد المصري وتفكيك ركائز دولة الفساد التي تأسست عبر خمسة وأربعين عاما. مع الاعتماد بصورة أساسية على مواردنا الذاتية.
وتتكامل الخطة متوسطة الأجل مع الخطة طويلة الأجل في إجراءات على النحو التالى:
1-وضع قضية استرداد الأموال المنهوبة على رأس جدول أعمال الحكومة ورئيس الجمهورية مع الدول الخارجية. والتي لدينا معلومات بشأن الثروات المنهوبة والمودعة بها. وتجنيد كل الأجهزة الرقابية بعد تطهير بعضها -خصوصا الرقابة الإدارية- لجمع المعلومات والمستندات وإعدادها للتعامل مع العالم الخارجي في أطره السياسية والقانونية والشعبية. وهناك خطة متكاملة لإدارة هذه المعركة على المستويات الثلاثة -الدبلوماسية والقانونية والشعبية.
2-تنفيذ الخطة الاستراتيجية لتفكيك ركائز دولة الفساد في مصر التي بنيت على مدى عقود خمسة. ومنها تنقية المنظومة القانونية والتشريعية واللائحية من المواد التي تسهل وتغطي وتحمي الفاسدين. فضلا عن بناء نظام عادل للأجور والمرتبات وإعادة بناء الأجهزة الرقابية كافة. وإعادة هيكلة الموازنة العامة للدولة وضم الهيئات الاقتصادية إلى الموازنة العامة. والتخلص من ظاهرة الحسابات والصناديق الخاصة. وإعادة بناء النظام الضريبي المصري. وإعادة بناء منظومة التعليم العام والخاص. وكذلك منظومة الصحة. وتصحيح أداء البورصة وسوق الأوراق المالية التي أصبحت مائدة مضاربات ومقامرات كبرى وغيرها من الإجراءات المتضمنة في الخطة الموضوعة من جانبنا.
3-وضع خطة عاجلة لتنمية القدرات الزراعية
وذلك بتنفيذ مشروع المليون فدان بأقصى سرعة مع توزيعها على الفلاحين من الشباب في زمام عشرة فدادين. مع اشتراط أن يستصحب معه أسرته بالكامل. وأن يكون الزمام الفردي داخل زمام جماعي من ألف فدان على الأقل. سواء في صورة شركة أو جمعية تعاونية. وأن ترعاها الدولة. فضلا عن بناء المصانع لتصنيع المنتجات الزراعية سواء لتوفيرها في السوق المحلية أو تصدير بعضها إلى السوق الخارجية.
4-وضع خطة كاملة للتصنيع بما في ذلك شركات القطاع العام. والتوسع فيها لتوفير فرص عمل للشباب من ناحية. وتطوير الصناعة المصرية التي توقفت خلال الثلاثين عاما الماضية على التجميع من ناحية أخرى.
5-ومن ضمن الإجراءات متوسطة الأجل حفز المصريين لمراجعة السلوك التديني الشكلي والمظهري في موضوع سياحة الحج والعمرة. والتي تكلفنا أكثر من 3.5 مليار دولار على الأقل سنويا يذهب أكثر من ثلثيها في الاقتصاد السعودي. ووضع قواعد لأداء فريضة الحج “مطلقة لكبار السن”. أما صغار السن فمرة واحدة كل خمس سنوات. أما العمرة فمرة واحدة كل خمس سنوات. وذلك حتى نعبر تلك الفترة العصيبة في تاريخ مصر.
6-مكافحة عمليات تهريب الأموال من كبار رجال المال والأعمال. والتي تقدر بأكثر من خمسة مليارات دولار على الأقل سنويا منذ أكثر من عشر سنوات.
7-مراجعة المنظومة التشريعية الاقتصادية المصرية التي سهلت الفساد ووفرت له بيئة مناسبة.
لا يكتفي الاقتصاد بنفسه.. فمع الحل الاقتصادي وجب وجود أفق سياسي مختلف.. وهو ما دعا إليه الرئيس السيسي عبر ما سمي “الحوار الوطني.. فكيف ترى الأمر؟
في الحقيقة لا يوجد حوار وطني منذ البداية والدعوة من هذا النوع لا بد من تحليلها في إطار مَن هو الذي دعا للحوار. وما ضوابط هذا الحوار بين سلطة تمسك بزمام كل شيء و”معارضة” -أسميها مجازا معارضة- لا يوجد معها أي شيء. كما أن الدعوة لحوار وطني تفتقد ركنا هاما جدًا. وهو جدول الأعمال.
وبالتالي أظن أن الأمر مجرد محاولة لكسب الوقت بدل أن يتعذّر النظام كل فترة أمام المصريين بسبب الأزمة الاقتصادية الراهنة.
لكن ألا ترى أن الخطوات التي تحققها لجنة العفو الرئاسي تعد مكاسب في الوضع الحالي؟
هي أيضا محاولة لكسب الوقت وتجميل الوضع الراهن. فخروج عشرات المتهمين من السجون بالتأكيد أمر مفرح لكن التساؤل الأهم: لماذا دخلوا السجون؟ وماذا يضمن ألا يرجعوا إليها. فضلا عن البقية التي لم تنل حظا من لجنة العفو الرئاسي بعد.
كم تتوقع أن نخرج بمكاسب من هذا الحوار؟
أقل من نصف في المئة. وتتمثل تحديدا في موضوع إطلاق سراح عشرات المحبوسين. فهذه هي الحدود التي من الممكن أن يستجيب لها النظام. فالاستجابة للمعارضة وما تراه سيكون محدودا جدًّا.
أخيرا.. هل ترى في ظهور جمال مبارك في هذا التوقيت علامة على شيء ما؟
هو علامة على حالة الكوميديا السياسية الساخرة التي تعيشها مصر بعد هزيمة ثوره 25 يناير. فحتى الآن لم يتم محاكمة حقيقية لكل الرموز التي سرقت ونهبت مصر. والتي كان على رأسها مبارك وحاشيته. وبالتالي لم يتم فتح هذه الملفات على الإطلاق. بل تم إصدار عفو عن قتلة لمجرد تبرعهم للنظام.