الحقوق الجنسية أحد أهم مبادئ حقوق الإنسان الأساسية، التي يجب ضمانها وحمايتها. وهي تشتبك مع منهج العدالة الإنجابية في جزء منها. بيد أنها تواجه في مصر عددًا من القيود والمشكلات الهيكلية التي تقف عائقًا أمام تحقيقها. وهو ما حاول الباحث ماريو ميخائيل استعراضه في ورقة سياسات جديدة، صادرة عن مركز التنمية والدعم والإعلام (دام).
للاطلاع على ورقة “دام” كاملة.. اضغط هنا
مؤتمر القاهرة 1994
شكّل مؤتمر القاهرة -قبل 25 عامًا- نقطة تحول فيما يتعلق بمسائل الحقوق الإنجابية والجنسية. وقد رسخ تحولًا كبيرًا في طريقة التفكير حول مسألة السكان “بعيدًا عن الأهداف الديموجرافية المحددة، نحو زيادة التركيز على حقوق الأفراد ومساواتهم وكرامتهم ورفاههم خلال مرورهم بدورة الحياة”، حسب تعبير سابق للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش. الذي قال حينها إن “الربط بين السكان وحقوق الإنسان والنمو الاقتصادي المطرد والتنمية المستدامة ومعالجة هذه القضايا بطريقة شمولية ومتماسكة” كان أحد أهم إنجازات مؤتمر القاهرة.
وقد كانت مسائل الصحة الإنجابية والجنسية قبل هذا المؤتمر متعلقة بتحقيق أهداف ديموجرافية للحد من عدد السكان. وكان النموذج السائد في العالم هو اعتبار تلك المسائل ضمن مجموعة من السياسات تهدف للتحكم في الخصوبة والنسل للحد من النمو السكاني. ما أسفر عنه وقتها تجاهل حقوق وصحة الأفراد.
وفي العام 1994 بالقاهرة التي استضافت -حينها- المؤتمر العالمي للسكان والتنمية، تغير المنظور العام من التركيز على التنظيم الديموجرافي إلى حقوق الأفراد الجنسية والإنجابية. ما تضمنه أيضًا مؤتمر بكين واتفاقية سيداو وميثاق الشباب الأفريقي.
للاطلاع على ورقة “دام” كاملة.. اضغط هنا
مبادئ الحقوق الإنجابية والجنسية
يذكر الباحث ماريو ميخائيل في ورقته أن الحقوق الجنسية والإنجابية يجب أن تشمل الجميع بلا استثناء وبلا أي تمييز. ويجب أن تتكامل مع حقوق أخرى كالحق في الحياة والصحة والتعليم والخصوصية والحق في عدم التعرض للمعاملة القاسية، وحظر التمييز. وهي حقوق منصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما يكفلها ويحميها الدستور المصري والقانون المصري.
وقد قدمت لجنة “لانسيت” -أحد أشهر الدوريات الطبية العالمية- مبنيةً على الاتفاقات الدولية ومنشورات منظمة الصحة العالمية. منها احترام السلامة الجسدية والخصوصية والاستقلال الشخصي – حرية الأفراد في تحديد هوياتهم الجنسية والجندرية والتعبير عنها – حرية اختيار الشركاء الجنسيين – الحرية في اتخاذ القرار بشأن نشاط الفرد الجنسي أو عدمه – حرية الاختيار في اختيارات الزواج فيما يتعلق بالشريك أو التوقيت أو عدم الزواج – الحصول على تجارب جنسية آمنة وممتعة – حرية اختيار إنجاب الأطفال أو عدم الإنجاب وتوقيت الإنجاب واختيار العدد – الحصول على جميع الخدمات والمعلومات اللازمة لتحقيق تلك الحقوق بلا تمييز أو عنف.
العدالة الإنجابية منهجًا
يشير الباحث في الورقة إلى أهمية منهج العدالة في مقاربة القضايا الإنجابية والجنسية. ذلك بالربط بين الحقوق الإنجابية والجنسية وقضايا العدالة الاجتماعية وعدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية. وهذه المقاربة يجب أن تكون على عكس المقاربات التقليدية -على حد قوله. بل يجب أن تضع في الاعتبار العوائق الهيكلية التي تواجهها الفئات المهمشة في الحصول على الحقوق الجنسية والإنجابية. فالإتاحة وعدم التدخل وحده لا يكفي في حال وقوف التهميش الاقتصادي والاجتماعي عائقًا أمام الحصول على تلك الحقوق والخدمات المرتبطة لهذه الفئات.
ويصبح الأمر شديد الأهمية في المجتمعات المحافظة مثل مصر. حيث يغيب مفهوم الاستقلال الجسدي والإنجابي لاعتبار أجساد النساء والفئات المهمشة أملاكًا تخضع لسيطرة المجتمع والأهل. هذا فضلًا عن الظروف الاقتصادية التي تضاعف وطأة تلك القيم المحافظة على الفئات المهمشة.
ويقول الباحث أن مقاربة العدالة الإنجابية لا بد أن تشمل الجميع بغض النظر عن الحالة الزوجية أو الهوية الجندرية أو الهوية الجنسية.
للاطلاع على ورقة “دام” كاملة.. اضغط هنا
الاستقلالية الإنجابية: رؤية حقوقية
يناقش الباحث في الورقة السياسات القائمة فيما يخص قضايا الإنجاب. فيضيف أنه على الرغم من المعدلات المرتفعة من استخدام وسائل منع الحمل، هناك أرقام مقلقة تشير إلى ارتفاع معدلات التوقف عن استخدام منع الحمل. وهو ما يرجعه إلى انتشار المعلومات المغلوطة بين النساء حول تلك الوسائل. بالإضافة إلى غياب استقلال وحرية النساء فيما يخص قدراتهن الإنجابية. فضلًا عن وجود مشاكل مرتبطة بتقديم خدمات الصحة الجنسية والإنجابية. مثل عدم جاهزية الطاقم الطبي والمراكز لتقديم الخدمات بشكل ملائم. بالإضافة إلى غياب الوعي حول تلك المسائل في المجتمع.
يقول الباحث إن مشكلة سياسات تنظيم الأسرة القائمة تُختصر في الخلل في التوعية، وعدم وضع الحرية والحقوق الجنسية والإنجابية للنساء كأولوية. ويلفت إلى هذا الخلل بالإشارة إلى حملات التوعية التي توجه إلى النساء فقط دون الرجال في أغلب الأحيان، إلى في أحيان نادرة حيث ترسخ للقيم المحافظة والأدوار النمطية، بدلًا من تغيير الثقافة المحافظة الضاربة بحقوق النساء.
وتحلل الورقة هذه الحملات والسياسات المتبعة فيما يخص الحقوق الإنجابية. وتصل إلى نتيجة أن سياسات تنظيم الأسرة ما تزال تحمل بعض رواسب سياسات ما قبل مؤتمر القاهرة، ولم تتخلص منها بشكل كامل بعد.
وتقصي هذه السياسات بعض الفئات ومنها النساء والفتيات غير المتزوجات غير القادرات على الحصول على وسائل منع الحمل المدعمة. ومثلهم يتم تجاهل حق مجتمع الميم في الحصول على خدمات الصحة الإنجابية والجنسية الملائمة.
كما أن خدمات الحفاظ على الخصوبة (تجميد البويضات والسائل المنوي) متاحة فقط للفئات التي بمقدورها تحمل تكاليف تلك العمليات. وهذه ليست رفاهية، فهناك حالات ضرورية تستوجب مثل هذه العمليات مثلما هو الحال مع النساء اللاتي يعانين من الأمراض الإنجابية، والعابرين/ات قبل العلاج الهرموني أو العمليات.
من العوائق الأخرى التي يركز عليها الباحث تجريم الإجهاض. يقول إن تجريم الإجهاض أثبت أنه لا يمنع الإجهاض. بل يمنع النساء للوصول إلى خدمات آمنة للإجهاض. وهذا ما أثبتته الدراسات في مصر، بأن النساء القادرات ماديًا تمكن من خوض عمليات الإجهاض في بيئات طبية آمنة نسبيًا. بينما النساء الأفقر لجأن إلى وسائل غير آمنة.
للاطلاع على ورقة “دام” كاملة.. اضغط هنا
زواج الصالونات بين الرضا والإكراه
يشير الباحث كذلك إلى مشكلة عدم القدرة على اختيار الشريك بحرية بسبب الثقافة المجتمعية المحافظة. فالفئات المهمشة في المجتمع تخضع لعدة أشكال من الإجبار على الزواج بالإكراه. ذلك في ظل الزواج المدبر أو الصالونات. وهو النمط المنتشر في مصر. والذي ليس بالضرورة أن يكون شكلًا صريحًا للإجبار، إلا لو ارتبط بممارسة العنف تجاه الفئة الأضعف.
يقول الباحث إن آليات الإكراه والإجبار على الزواج ليست محصورة على العنف الجسدي فقط. بل تشمل أيضًا الضغوط النفسية والعاطفية والمالية. والفئات الأكثر تعرضًا لهذا النوع هي المهمشة في المجتمع مثل الفتيات، والشباب، والأقليات الجنسية، وبشكل خاص الأكثر فقرًا في المجتمع. حيث يجبرهم الاعتماد المالي والخوف من العنف للخضوع للزواج القسري في ظل غياب الخيارات الأخرى أمامهم/ن. ولا يوجد في مصر قانون مخصص يجرم الزواج بالإكراه، ويحمي الفئات المهمشة من هذا الشكل من العنف.
كما أن الثقافة المحافظة تمنع الفئات الأكثر تهميشًا مثل النساء ومجتمع الميم من اختيار شركائهم بحرية والتعبير عن هذا الاختيار. وبشكل عام تقف تلك القيم المحافظة عائقًا أمام حرية الأفراد عن التعبير عن علاقاتهم وشركائهم خارج إطار الزواج.
للاطلاع على ورقة “دام” كاملة.. اضغط هنا
التعليم والثقافة الجنسية
يعرض الباحث إلى التعليم الجنسي الشامل الذي يرتكز على حقوق الإنسان واحترام التنوع الجنسي، والتوعية بشأن الجندر وعلاقات القوة غير المتكافئة، والتوعية بأهمية الرضا، ونبذ العنف الجنسي والحميمي. ويلفت إلى الدراسات وقد أثبتت فعالية التعليم الجنسي الشامل في الحد من الحمل غير المرغوب فيه، والأمراض المنقولة جنسيًا، ومواجهة العنف الجنسي.
بينما يحذر من استمرار غياب التعليم الجنسي الشامل. وهو يعتبره أحد أهم العوامل المساعدة في وصول المصريين حقوقهم الجنسية والإنجابية كاملة.
توصيات
ويقدم الباحث في ورقة دام عدة توصيات لضمان وتحقيق الحقوق والعدالة الإنجابية والجنسية بمصر. تتضمن:
- وضع استراتيجية شاملة للحقوق والصحة الجنسية والإنجابية مرتكزة على مبادئ حقوق الإنسان. مع مراعاة العدالة الاجتماعية في تصميم وتطبيق السياسات لتشمل الجميع بلا تمييز وتدعم الفئات الأكثر تهميشًا في المجتمع والأفراد المهمشين اقتصاديًا واجتماعيًا وجغرافيًا.
- ضمان أن جميع برامج تنظيم الأسرة تضع الحرية والحقوق والعدالة الجسدية والجنسية والإنجابية للنساء كأولوية وهدف أساسي لتلك البرامج. وليس فقط الحد من الزيادة السكانية. مع توفير جميع أدوات منع الحمل اللازمة والتوعية الدقيقة بشأنها لضمان الاستقلال الإنجابي للنساء. ويجب ضمان اتساق المنهج الحقوقي في البرامج بداية من الشعارات وصولًا لمحتوى البرامج. ويجب أن تحرص تلك البرامج أيضًا على توعية الرجال وخاصة الأزواج بضرورة احترام حقوق النساء في التحكم في قدراتهن الإنجابية واستقلال قرارتهن الإنجابية والجسدية لتغيير الثقافة الاجتماعية المحافظة التي تضغط على النساء للإنجاب أو عدم استخدام موانع الحمل. كما أن على تلك البرامج أيضًا عدم التمييز وضم الفئات التي تم تهميشها لعقود مثل الفتيات والشباب غير المتزوجين، ومجتمع الميم وبشكل خاص العابرات/ين. مع مراعاة الحاجات المختلفة لكل فئة.
- من الضروري أن تكون جميع خدمات الصحة الإنجابية والجنسية (بما فيها وسائل منع الحمل والوقاية من الأمراض المنقولة جنسيًا) متاحة بشكل مدعم أو مجاني لجميع المواطنين بلا استثناء وبدون تمييز على أساس الحالة الزوجية أو الحالة الاجتماعية أو الهوية الجندرية أو الميول الجنسية. بالإضافة إلى توفير برامج خاصة لدعم الصحة الإنجابية والجنسية للفئات الأكثر تهميشًا في المجتمع.
للاطلاع على ورقة “دام” كاملة.. اضغط هنا
- إصدار تشريع يجرم الزواج بالإكراه ويضم جميع المصريين بلا تمييز. على أن يشمل القانون جميع أشكال الإكراه مثل العنف الجسدي والضغوط المالية والعاطفية والنفسية وغيرها من العوامل. مع إنشاء وحدات خاصة لحماية ضحايا الزواج بالإكراه بلا تمييز ودعمهم نفسيًا وماليًا. كما يكون من مهام تلك الوحدات التوعية بخصوص الزواج بالإكراه على أن تشمل جميع المواطنين والمواطنات بمختلف هوياتهم الجندرية وهوياتهم الجنسية مع توجيه الحملات التوعوية بشكل يتناسب مع كل فئة.
- إنشاء حملات على مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام التقليدي للتوعية بخصوص الصحة والحقوق الإنجابية والجنسية، ويستوجب أن تكون تلك الحملات شاملة لجميع الحقوق، وأن تبتعد عن الطابع المحافظ الذي يقصي العديد من الحقوق الجنسية والانجابية ويميز ضد فئات في المجتمع. ومن اللازم توجيه حملات خاصة للفئات الأكثر تهميشًا في المجتمع مثل الشباب والفتيات ومجتمع الميم لرفع الوعي بين تلك الفئات حول حقوقهم. ويستوجب على تلك الحملات التوعوية أن تعمل على تغيير الثقافة المجتمعية لنشر ثقافة إيجابية حول الجنس، واحترام التنوع الجنسي، ونبذ العنف الجنسي والمجتمعي ضد النساء ومجتمع الميم، وازالة الوصم حول قضايا الصحة الجنسية والإنجابية في المجتمع.
- نشر الوعي بخصوص الامراض المنقولة جنسيًا بمختلف أشكالها وبشكل خاص في المناطق الأكثر فقرًا، مع تشجيع المواطنون/ات (بمختلف حالاتهم الاجتماعية أو الزوجية أو نوعهم الاجتماعي أو ميولهم وهوياتهم الجنسية) لإجراء فحوص دورية. كما يجب تدريب وتأهيل الأطباء والممرضين في تلك المراكز على التعامل مع تلك الفئات بشكل حساس وبشكل مناسب لكل فرد. بالإضافة إلى توفير العلاج والرعاية المناسبين للفئات الأكثر احتياجًا بالمجان. ويجب ضمان انتشار تلك المراكز في المناطق المهمشة وسهولة وأمان الوصول إليها. بالإضافة إلى رصد دوري للأمراض المنقولة جنسيًا ومعدلات انتشارها بدقة في المحافظات المختلفة وبين الفئات المختلفة للحصول على المعلومات اللازمة لتقديم الخدمات بشكل فعال.
- إنشاء مناهج للتعليم الجنسي الشامل مع إشراك جميع فئات المجتمع المختلفة والمجتمع المدني في تصميمها. مع ضرورة إشراك الفئات الأكثر تهميشًا في تصميم تلك المناهج. كما يجب أن تكون المناهج مبنية على احترام حقوق الإنسان وتعظيم قيم الرضاء والتنوع الجنسي والجندري. ويجب أن تؤكد تلك المناهج على أهمية الحرية الشخصية والاستقلال الجسدي. كما يجب أن تعمل على تغيير الثقافة الاجتماعية المحافظة التي توصم مناقشة القضايا الإنجابية والجنسية. ويجب أن تتضمن أيضًا التوعية بشأن الحمل غير المرغوب فيه وكيفية الوقاية من الأمراض المنقولة جنسيًا. بالإضافة إلى نبذ العنف الجنسي والإجبار، ونبذ العنف ضد أصحاب الهويات الجنسية والجندرية المختلفة. ونشر تلك المناهج في المراحل الدراسية المختلفة بشكل يتناسب مع كل مرحلة عمرية.
- إلغاء تجريم الإجهاض من القانون المصري، ووضع سياسة شاملة لتوفير خدمات الإجهاض الآمن وخدمات ما بعد الإجهاض بشكل مجاني او مدعم للفئات الأكثر احتياجا في المجتمع.
- توفير خدمات تجميد البويضات والسائل المنوي بشكل مدعم أو مجاني للفئات الأكثر احتياجًا في المجتمع في حالات الضرورة الطبية التي قد تهدد مستقبل الأفراد في الإنجاب مثل حدوث الأمراض الإنجابية، وحالات العبور الجنسي.