ولدت الدولة الحديثة على يد محمد علي باشا 1805 – 1848 مُشبعة بروح استعمارية قاسية، حاكم وارد ووافد من خارج البلد، ومعه نخبة حكم من الغرباء، يشاركونه الاستعلاء على الشعب، مثلما يشاركونه الاستنزاف المنظم لخيرات البلد، واستخدام القوة في إكراه المصريين على التسليم ثم الطاعة ثم الخضوع، وبهذا تمكن محمد علي باشا من حكم البلد التي استعصت وتمردت على من سبقوه من مماليك وعثمانيين ثم من جاءها من غزاة فرنسيين رحلوا 1801م ثم غزاة إنجليز اندحروا 1807.

ولدت الدولة الحديثة في يدها كرباج، تم إلغاء الكرباج في عهد الخديوي سعيد 1861، تم إلغاؤه بمعناه المادي، لكن بقي حضوره بمعناه الثقافي، ثقافة حق السلطة في الاستعلاء على الشعب، ثم استنزاف الشعب، ثم استخدام الإيذاء البدني والمعنوي لإكراه الشعب على التسليم ثم الطاعة ثم الخضوع، هذه الثقافة الاستعمارية لم تفارق عقل ولا روح ولا ضمير الدولة الحديثة في أي حقبة من أحقابها من مطلع القرن التاسع عشر حتى القرن الحادي والعشرين، ولم تفارق أعلى رأس في السلطة مثلما لم تفارق أصغر موظف حكومي بسيط في أصغر جهة حكومية ولو في قرية نائية.

يذكر المؤرخ المصري المتخصص في تاريخ القرن التاسع عشر الدكتور خالد فهمي في مقال منشور في جريدة الشروق في أول مارس 2013 أن التعذيب بالكرباج كانت تمارسه جهات التحقيق ضد المتهم حتى يتناثر اللحم من إليتيه وذلك لقسره على الاعتراف بما قد يكون ارتكب أو لم يرتكب من الجرائم.

في ص 151 من كتابه “مصر في القرن التاسع عشر” يذكر المؤرخ البريطاني دونالد أندرياس كاميرون في كتابه المنشور 1898 “كانت الإدارة المحلية في سائر أنحاء الإمبراطورية العثمانية – بما في ذلك مصر – مستبدة وسيئة إلى أبعد الحدود، لكن مصر تحت حكم محمد علي تميزت بالكرباج بصفة خاصة باعتباره وسيلة من وسائل الحكم، ولم يكن هناك عرق آخر من البشر غير الفلاحين المصريين -ومصر كلها كانت فلاحين- رضخوا صاغرين، ووجوههم للأرض، كي يُجلدون على ظهورهم وأرجلهم وأقدامهم، هذا الكرباج به نجح الباشا -يقصد محمد علي- في حكم مصر.

********

الدولة الحديثة -كما أرادها- محمد علي باشا هي نفطة التأسيس لواقع وثقافة وفكر وسلوك الاستعمار في مصر المعاصرة، هو نفسه، ثم سلالته من بعده، لم تكن تربطهم عاطفة انتماء للبلد الذي استولوا عليه بوضع اليد ثم توارثوه بتوافق دولي قريبا من قرن ونصف قرن من الزمان.

في ص 538 من كتابها المهم “مصر في عهد محمد علي” تقول المؤرخة وأستاذة العلوم السياسية الدكتورة عفاف لطفي السيد مارسو، عن محمد علي باشا ونخبة الغرباء الوافدين الذين حكموا مصر معه، تقول: “كانوا مهاجرين إلى بلد سعوا إلى استغلاله، لكن لم يقربوا أنفسهم بعد به، كانوا يشبهون الاستعماريين الإنجليز القائمين على شؤون الحكم البريطاني في الهند”.

ثم تقول “فهكذا كان القائمون على الحكم -التركي الشركسي الألباني- في مصر، يشعرون بالتملك نحو البلاد كمصدر للحياة الرغيدة التي يحبونها والسلطة الجديدة التي عثروا عليها، لكن لم يكن لديهم حاسة الانتماء إليها”.

ثم تقول عن سلالة محمد علي الذين توارثوا حكم البلاد وخيراتها قرنا من الزمان بعد وفاة محمد على باشا “أما بقية حكام مصر -بعد محمد علي باشا- فقد كانوا غير أكفاء، وباستثناء إسماعيل لم يكونوا يملكون الصلاحية للحكم، وإسماعيل ذاته قاد البلاد إلى كارثة”.

ثم تقول عن ورثة محمد علي باشا “كانوا قانعين بأن يعاملوا البلاد كبقرة حلوب، وأن يعاملوا المصريين كعبيد في إقطاعية، ومع ذلك، فسواء كان خلفاء الباشا غير أكفاء أو غير ذلك، فقد كان هناك شيء واحد جامع مشترك بينهم جميعا وبين محمد علي باشا ذاته، هذا الشيء هو الاستمرار في توجيه اقتصاد البلاد باتجاه السوق الأوروبية الدولية”.

ومن وجهة نظرها، فإن استعانة محمد علي باشا بالعناصر الثلاثة من ترك وشركس وألبان، ثم الاستعانة بالخبراء والفنيين الأوروبيين والفرنسيين بالذات، ثم تشجيع الباشا للمصريين أن يتعلموا من الخبراء الأجانب، كل ذلك خلق لدى المصريين نوعا من إدراك الذات القومية ثم الإحساس بالقدرة على الإنجاز، ثم النظرة لأنفسهم نظرة إيجابية، وذلك كان الخطوة الأولى نحو تطوير هوية قومية.

********

محمد علي باشا أدخل إصلاحات لا شك فيها لكنه لم يكن مصلحا، إصلاحاته كانت ذات هدف استعماري استغلالي مادي محض تماما مثل الإصلاحات التي أدخلها الاستعماري الإنجليزي بعد ذلك على كافة وجوه الحياة في مصر سواء في الري أو الزراعة أو القضاء أو التعليم أو نظم الإدارة والمالية والضرائب إلى آخره. لم يكن معنيا بالتحديث، كان فقط معنيا بوضع يده على موارد كل بلد يتمكن من وضع يده عليه، سواء مصر أو الشام أو الحجاز أو اليمن، كان عقلا استعماريا جبارا وفريدا، جبارا لأنه تنافس مع إمبراطوريات حقيقية، وفريدا لأنه -في نهاية المطاف- ليس أكثر من فرد مغامر لا ينتمي للبلد الذي يحكمه مثلما لا ينتمي للسلطان الذي يعينه ويعزله مثلما لا ينتمي لحلفائه من الأوروبيين، فقط ينتمي لنفسه ومطامحه ومطامعه الكاسحة التي كادت تبتلع إمبراطورية قديمة مثل الإمبراطورية العثمانية ولم يوقف زحفه المظفر إلا أعتى إمبراطوريات ذاك العصر، وهي الإمبراطورية الإنجليزية، وبالتحديد وزير خارجيتها العتيد ثم رئيس وزرائها بعد ذلك لورد بالمرستون 1784- 1865 وهو من عتاة الاستعماريين في القرن التاسع عشر، تولى الخارجية عدة مرات منها الفترة الحاسمة من 1835 – 1841 وهي الفترة التي قضى فيها على محمد علي باشا من صاحب إمبراطورية صاعدة إلى صاحب ضيعة وراثية على ضفاف النيل له ولورثته من بعده.

لورد بالمرستون كان يحقر من شأن محمد علي باشا ويشبهه بـ”نادل صغير في مقهى يريد أن يكون أمير المؤمنين “يقصد أن محمد علي باشا الذي بدأ حياته تاجر تبغ صعير يسعى لوراثة إمبراطورية عظيمة مثل السلطنة العثمانية، ولما استغربت هذا التشبيه بحثت فوجدت أن بالمرستون نفسه بدأ حياته مهرجا في مقهى في لندن.

لكن في دخيلة عقله كان بالمرستون يدرك -عن حق- أن محمد علي باشا كعقلية استعمارية بالغريزة هو أكبر تهديد يواجه المطامع الاستعمارية في الشرق، في الفترة التي تولى فيها بالمرستون الخارجية البريطانية كان محمد علي باشا يتربع على رأس إمبراطورية من السودان واليمن والحجاز في الجنوب إلى الشام كله إلى آسيا الصغرى والأناضول، يسيطر على شرق المتوسط والبحر الأحمر ويضع يده على كل طرق التجارة بين الشرق والغرب، ولم يكن يوجد ما يصد عن التقدم نحو الخليج وجنوب العراق، لم يكن من قوة جبارة تعترض طرق التجارة البريطانية في الشرق الأدنى والأوسط والأقصى غير قوة محمد علي الصاعدة.

على الجانب الآخر، لم يكن محمد علي باشا ينقصه الذكاء، حتى قبل أن يتولى حكم مصر، وبعد رحيل الفرنسيين 1801، ليدرك أن الإنجليز هم الخطر القادم على مصر، عاش محمد علي باشا يسيطر عليه هذا الهاجس هو -بالقطع- صحيح، لهذا عاش يحذرهم تارة، ويحيدهم تارة، ويجاملهم تارة، حتى كانت قوته قد وصلت ذروتها وباتت العاصمة العثمانية في مرمى نيرانه لا يصده عنها إلا طمعه في الحصول على اعتراف دولي بإمبراطوريته المستقلة دون اللجوء إلى مزيد من السلاح.

********

سوء سياسة محمد علي باشا في مستعمراته الجديدة: غزة وعكا ويافا والقدس ودمشق وشمال العراق وجنوب تركيا هي التي أضعفت موقفه في تلك المستعمرات ومن ثم فتحت ثغرات يعمل منها لورد بالمرستون لحرمانه منها ورده إلى قمقمه وكهفه على ضفاف النيل.

سوء سياسة محمد علي باشا في مستعمراته الجديدة أنه أراد أن يطبق فيها السياسات التي طبقها بنجاح في المستعمرة الأم وهي مصر، ذبح خصومه ولم يعترض أحد، وضع يده على أرضها ولم يعترض أحد، وضع يده على محاصيلها ولم يعترض أحد، وضع يده على تجارتها ولم يعترض أحد، وضع يده على شبابها يجندهم في حروبه الاستعمارية ولم يعترض أحد، لقد تصرف محمد علي باشا في مقدرات مصر تصرف الإقطاعي المطلق، وحكمها بالكرباج قولا وفعلا واعتصر أموالها وخيراتها وعرق أبنائها وأرواحهم ولم يعترض أحد.

أراد محمد علي باشا استنساخ هذه السياسات من مصر المستعمرة الأم إلى الشام المستعمرة الجديدة، ولم يدرك الاختلاف في التركيبة الجغرافية بين المستعمرتين.. مصر وادي منبسط يسهل وضعه بين الكماشتين، بينما الشام بوادي وجبال وسواحل مع تنوع وتعدد عرقي متنافر مع احتراف قديم للتجارة وركوب البحار وليس مجرد فلاحين يولدون ويعيشون ويموتون بين طين الحقول وطين الكهوف، ثم ميراث من الثورات والتمرد كم أنهك العثمانيين وولاتهم.

رحبت الشعوب الشامية بغزو محمد علي باشا على أمل تخليصهم وإنقاذهم من حكم العثمانيين، إلى أن استولى على كامل الأراضي من غزة حتى أضنة في سبعة أشهر فقط، لكن محمد علي باشا ظن أن الشام مثل مصر، أراد احتكار التجارة وهم شعب تجار، ثم أراد نزع سلاحهم وهم شعوب متمردة بالطبيعة،  ثم أراد فرض ضريبة رؤوس على كل فرد واعتبروها نوعا من الجزية المهينة المذلة، ثم أراد تجنيد شبابهم في جيوشه، فاندلعت الثورات ضد احتلاله في كل مكان، وتمت محاصرة نجله القائد إبراهيم في القدس، ولم ينقذه إلا جيش خرج من القاهرة تحت قيادة محمد علي باشا بنفسه.

هذا الفشل على الأرض هيأ الطريق أمام لورد بالمرستون ليقنع كافة القوى الأوروبية العظمى بأمرين: ضرورة الإبقاء على الإمبراطورية العثمانية، ثم ضرورة التخلص من خطر محمد علي باشا على المصالح الأوروبية، وكان له ما أراد كسب روسيا والنمسا وحيد فرنسا ووضع الباب العالي في جيبه، فكانت اتفاقية 1841.. تفكيك الإمبراطورية الصاعدة، تفكيك جيش محمد علي باشا من ربع مليون مقاتل إلى ثمانية عشر ألف جندي يعني أشبه بقوة شرطة عسكرية، ثم محاصرته مع إحباطاته النفسية وأمراضه الجسدية مع حريمه ومماليكه في قصوره في الإسكندرية والقاهرة وشبرا.

********

كانت سياسة بالمرستون قد نجحت في محاصرة الباشا كتاجر عظيم قبل أن تقضي عليه كإمبراطور صاعد يهدد مصالح الإمبراطورية البريطانية في الشرق كله، كانت قد عقدت اتفاقية “بلطة ليمان” 1838 مع السلطان العثماني تنهي احتكار محمد علي باشا للتجارة في مستعمراته وتفتح أبواب التجارة الحرة للأوروبيين في أنحاء الإمبراطورية العثمانية، بحيث يكون من حق التاجر الأوروبي الشراء مباشرة من يد الفلاح، وذلك بدل أن يشتري الباشا من الفلاح بسعر رخيص ثم يبيع لعدد محدد من الوكلاء الأوروبيين بسعر أعلى وأغلى، وكانت هذه الاتفاقية الضربة الأولى لمصادر ثروات الباشا التي يمول منها جيوشه وحروبه. وهذه فقط لم تكن هزيمة أولى كبيرة لمحمد علي باشا، لكن في الوقت ذاته كانت الخطوة الأولى للاستعمار البريطاني لمصر، ففتح السوق المصري أمام التجارة الأوروبية، يشترون المواد الخام، ويبيعون المنتوجات الصناعية، هي الخطوة التي منها تحولت مصر إلى مجرد مزرعة خلفية تنتج المواد الخام الرخيصة اللازمة للثورة الصناعية البريطانية التي كانت في عنفوانها، وكانت كذلك الخطوة الأولى في تدمير الصناعات المصرية الناشئة التي تكونت في خدمة جيوش الباشا.

وهذا هو الفارق بين مغامر فرد استعماري عظيم مثل الباشا وبين وإمبراطورية استعمارية عاتية مثل بريطانيا، ظلت تدور حول الهدف أكثر من ثمانين عاما -دون انقطاع- من هزيمة بونابرت في خليج أبوقير إلى هزيمة العرابيين في التل الكبير.

********

الذي خلق لدى المصريين الإحساس بالهوية الحديثة كشعب واحد له خصائصه القومية ولها أمانيه الوطنية ليس تحديث محمد علي باشا ولا مشروعاته ولا جيوشه ولا بعثات تعليمه لأوروبا، ما خلق الهوية الحديثة هو حجم المظالم التي أنزلها هذا النوع المبكر من الاستعمار بجمهرة المصريين، حتى المماليك كانوا أكثر تواضعا ورحمة واقترابا من المصريين أكثر بكثير جدا من الباشا ورجله الترك والشركس والألبان الذين اختاروا أن يكونوا صفوة استعمارية تحكم الشعب وتستغله وتزدريه وتستعلي عليه، لقد كان الباشا ونخبة حكمه باكورة الاستعمار الأوروبي الحديث.

في ص 536 من كتابها “مصر في عهد محمد علي” تقول الدكتورة عفاف لطفي السيد مارسو: “وبإنشاء محمد علي لجهاز الدولة، كان من المحتم عليه تمصير الإدارة والجيش، إلا أنه كان يأمل في الإبقاء على صفوة عثمانية، فهو نفسه لم يكن قادرا من الناحية النفسية على تمصير ذاته وأن يتحول ليكون مصريا، كان الوقت متأخرا جدا بالنسبة له، كان الوالي يعتبر نفسه عثمانيا، ويخشى أن تتمصر الصفوة من حوله، كان يريد أن يبقيهم على تماسكهم كصفوة، وهو ما يفسر اهتمامه بأدب القرن السادس عشر العثماني -حيث ذروة المجد العثماني- كان يريد لرجاله أن يحتفظوا بهويتهم كعثمانيين، ولتحقيق هذه الغاية، كان يشجع الاهتمام بالأدب العثماني في العصر الذهبي”.

ثم تقول: “وبهذا التوجه اختلف العهد الجديد عن المماليك، الذين اتخذوا لأنفسهم، إلى درجة كبيرة، هوية مصرية”.

ثم تقول عن الباشا ونخبته: “سعى النظام الجديد إلى إبقاء مسافة بينه وبين جموع الفلاحين، ليحتفظ بهويته الثقافية الخاصة.

********

هذه المسافة هي منبع وجذر الفجوة المزمنة بين السلطة والشعب في الدولة الحديثة.

وهذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.