ينذر الوضع المتشابك، والمشتبك حاليًّا، في سنجار -غربي محافظة نينوى شمالي العراق- وما يتخلله من صراع بين تركيا وإيران بمزيد من التفاقم والتردي. وما قد ينتج عنه من استمرار نزوح أكثر من 193 ألفًا من الإيزيديين والعرب والأكراد. الذين يمثلون قرابة 70% من السكان. ومن ثم عرقلة الاتفاق الموقع بين الحكومة الاتحادية في بغداد وسلطة الحكم الذاتي الكردي في أربيل في 15 أكتوبر/تشرين الأول 2020 لتحقيق الاستقرار في هذه البقعة الحدودية المهمة.

وقد ذكر تقرير حديث لمجموعة الأزمات الدولية أن الحرب على تنظيم “داعش” غيرت تفاعلات القوة في جميع مناطق العراق التي تمت استعادتها من التنظيم. لا سيما في المناطق المتنازع عليها ومنها سنجار. حيث بات التنافس بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب العمال الكردستاني (PKK). إحدى هذه الديناميكيات “التفاعلات”الرئيسية حاليًا وإن مالت الكفة لصالح الأخير.

كانت الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة الحكم الذاتي الكردستاني وقعتا في 15 أكتوبر/تشرين الأول 2020 اتفاقا يهدف إلى تحقيق الاستقرار في قضاء سنجار العراقي عبر إدارة وهيكلية أمنية جديدتين من شأنهما أن تسمحا بعودة المهجرين. إلا أن الاتفاق لم يُنجز إلا جزئيا. فتركيا تكثف قصفها لحزب العمال الكردستاني والمجموعات المرتبطة به في المنطقة.

الإيزيديين وداعش
الإيزيديين وداعش

سنجار.. كيف وصلنا إلى هنا؟

تمثل سنجار مفترق طرق تاريخيا بين العراق والشام. وهي منطقة زراعية إلى حد كبير تحيط بجبل سنجار ومدينة صغيرة تحمل الاسم نفسه.

ويتنوع سكانها عرقيًا ودينيًا مع مجتمعات من العرب السنة المسلمين والأكراد السنة والمسيحيين الآشوريين وعدد قليل من العرب الشيعة. ومع ذلك فإن الغالبية هم من الإيزيديين وهي موطنهم التاريخي وملاذهم الأخير في أحلك النكبات التي كان آخرها هجوم تنظيم “داعش” في عام 2014. حيث تعرض آلاف الرجال للقتل وتم سبي وخطف الآلاف من الأطفال والنساء.

ومع مرور الوقت دون التوصل إلى ترتيب عملي لحكم منطقة سنجار “والتي يطلق عليها قضاء سنجار”وتحقيق الأمن فيه فإن الحوافز بالنسبة لأهله المهجرين الذين يعيشون في مخيمات بائسة للعودة إلى بيوتهم باتت تتضاءل. وفي هذه الأثناء فإن تصاعد حدة العنف يهدد بجر القضاء إلى صراع القوى بين تركيا وإيران.

وهنا ينبغي على بغداد وأربيل تنفيذ الحوكمة والأمن وإعادة الإعمار في اتفاق سنجار في أقرب وقت ممكن. كما ينبغي أن تعالجا إخفاقهما عند التوصل إلى الاتفاق في تأمين مشاركة وموافقة المجموعات العراقية المسلحة الفاعلة على الأرض عبر استشارتها واستشارة ممثلي المجتمع المدني السنجاري حول كيفية إنجاح الاتفاق.

وبعد نحو سبع سنوات من تمكّن تحالف غير وثيق مكوَّن من مجموعات مسلحة وقوات من إقليم كردستان وبغطاء جوي أمريكي من إخراج تنظيم داعش من سنجار. إلا الوضع هناك لا يزال متوترا.

الرئيس التركي
الرئيس التركي

سنجار ما قبل داعش

سنجار التي كانت في وقت من الأوقات بقعة هادئة في الزاوية الشمالية الغربية البعيدة من العراق باتت تصارع مع افتقار إدارتها المحلية للشرعية وإخفاق خدماته العامة في تلبية التوقعات وتوقف عملية إعادة الإعمار فيه.

ثمة مجموعة متفرقة من الجماعات المسلحة تبقي المنطقة غير آمنة وهو الوضع الذي يترك 70 بالمئة من سكان سنجار في حالة نزوح.

وتنتشر الأغلبية العرقية-الدينية الإيزيدية -استُهدفت في هجوم أقرب إلى الإبادة الجماعية شنه داعش عام 2014- في سائر أنحاء الشمال الغربي (وفي المنفى) وتعاني الانقسام السياسي.

ففي عام 2020 توصلت الحكومة الاتحادية العراقية وحكومة إقليم كردستان إلى اتفاق لتحقيق الاستقرار في سنجار. لكن المتابعة تباطأت وهددت الصدامات التي جرت في مايو/أيار بين الجيش وإحدى المليشيات المحلية إلى تقويضه بشكل كامل. سيتعين على أطراف الاتفاق العمل مع سكان سنجار لتعزيز الدعم للاتفاق والإشراف على تنفيذه بشكل يسمح بعودة المهجرين.

حتى قبل وصول خراب داعش كان قضاء سنجار رهينة مواجهة بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان في أربيل بسبب وضع الإقليم كمنطقة متنازع عليها.

وبحسب دستور العراق عام 2005 فإن هناك عملية مصممة لتسوية الادعاءات المزدوجة بالحق بالمناطق المتنازع عليها. إلا أن حكومة كردستان -خصوصا المكوّن الأكثر قوة فيها وهو الحزب الديمقراطي الكردستاني- سعت منذ وقت طويل إلى السيطرة على المناطق المتنازع عليها. بما في ذلك سنجار كمقدمة لضمها إلى إقليم كردستان.

ودخل مقاتلو الحزب الديمقراطي الكردستاني وقوات البشمركة التابعة له إلى سنجار عام 2003 واستمالوا ووظفوا النخب المحلية لأداء مهام الحوكمة الروتينية. إلا أن الحزب لم يحقق شعبية تذكر هناك. فضلا عن أنه عامل الإيزيديين بوصفهم أكرادا. وبذلك حرمهم فعليا من الهوية المميزة للجماعة وزرع بذور الاستياء في أوساطهم.

مأساة سنجار
مأساة سنجار

هجوم داعش

حوَّل هجوم تنظيم داعش الإرهابي على الإيزيديين في أغسطس/آب 2014 سنجار إلى بؤرة تجمّع لطيف واسع من الجماعات المسلحة.

وتمثلت إحدى هذه الجماعات في حزب العمال الكردستاني -وهو مجموعة كردية تصنفها تركيا “وكذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي” تنظيماً إرهابيا.

وكان حزب العمال الكردستاني قد بحث عن مكان آمن في شمال العراق رغم أن وجوده كان يقتصر عموما على جبال قنديل قبل عام 2014 ومنطقة من قضاء مخمور. حيث يقع مخيم للاجئين الأكراد من تركيا.

لكن عندما سحب الحزب الديمقراطي الكردستاني قوات البشمركة التابعة له عندما شن مقاتلو داعش هجوماً على المنطقة تدخلت جماعات تابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني بغطاء جوي أمريكي وتمكنت من إنقاذ الناجين وصد داعش تدريجيا.

ثم، في أواخر عام 2015 أرسلت الولايات المتحدة مرة أخرى طائراتها الحربية لمساعدة خليط من الجماعات المرتبطة بحزب العمال الكردستاني (وحدات حماية الشعب السورية ووحدات مقاومة سنجار التي أسست حديثا) والبشمركة التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني على طرد تنظيم داعش تماما.

جرائم إبادة في سنجار من داعش
جرائم إبادة في سنجار من داعش

وعلى مدى العامين التاليين ظل إقليم سنجار تحت سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي هيمن على الشمال الشرقي وأيضا على بلدة سنجار. وحزب العمال الكردستاني الذي تركز وجوده في جبل سنجار والشمال الغربي.

في عام 2017 تغير الوضع في شمال العراق مرة أخرى. حيث أعاد تصعيد الحملة المناهضة لتنظيم داعش بدعم أمريكي القوات الاتحادية العراقية إلى الشمال. وانضمت إليها مجموعات الحشد الشعبي شبه العسكرية التي تتكون بشكل رئيسي من عراقيين من أجزاء أخرى من البلاد.

فتمت استعادة الموصل -آخر مدينة كانت واقعة تحت سيطرة داعش. ثم مضى الحشد أبعد من ذلك. فبعد أن أحدث استفتاء على الاستقلال نظمته حكومة إقليم كردستان رد فعل عكسيا. إذ تم إخراج الحزب الديمقراطي الكردستاني من سنجار والاكتفاء بتعاون مضطرب مع مكونات الحزب وفروعه والمجموعات المرتبطة به المقيمة هناك.

سنجار وحزب العمال الكردستاني

وتتسم ترتيبات الحوكمة الناجمة عن ذلك بالعشوائية وانعدام الفعالية. إذ يتمتع الحزب الديمقراطي الكردستاني بتفويض رسمي لحكم سنجار لكنه يمارس هذا التفويض من خارج القضاء. وحتى من خارج محافظة نينوى التي تقع فيها سنجار. أي من محافظة دهوك المجاورة.

وبسبب المجموعات المسلحة التي يستضيفها قضاء سنجار فإن القضاء يجد نفسه على نحو متزايد في وسط المواجهة بين تركيا وإيران.

إيران تدعم الحشد في حين أن تركيا تسعى إلى القضاء على حزب العمال الكردستاني الذي ترى فيه تهديدا لأمنها القومي.

وعندما انسحب مقاتلو الحزب الديمقراطي الكردستاني في عام 2017 فقدت تركيا -التي تتعاون مع الحزب الديمقراطي الكردستاني في محاربة حزب العمال الكردستاني- فقدت شريكها الرئيسي على الأرض في سنجار.

حزب العمال الكردستاني
حزب العمال الكردستاني

وهكذا صعدت الضربات الجوية التي كانت تشنها أصلا على مخابئ حزب العمال الكردستاني في شمال العراق وضربت قواعد لوحدات حماية الشعب تستضيف كوادر من حزب العمال الكردستاني في سنجار أيضا.

من وجهة نظر تركيا فإن القادة الكبار في وحدات حماية الشعب هم أنفسهم أعضاء في حزب العمال الكردستاني. وقد أصبحت هذه الهجمات سمة منتظمة لبيئة أمنية هشة أصلاً.

وقد أوجد الحشد وحزب العمال الكردستاني (مع المجموعات التابعة له) أرضية مشتركة في مواجهة تركيا والحزب الديمقراطي الكردستاني-الحشد لأنه يسعى إلى الحصول على موطئ قدم أكثر ثباتا في الشمال. فإنه يعد الوجود العسكري التركي هناك احتلالا ويرفض ادعاء الحزب الديمقراطي الكردستاني بحقه في سنجار وحزب العمال الكردستاني لأنه يسعى إلى العثور على ملاذ آمن في شمال العراق.

الحلول

ولمعالجة التأخر في إنفاذ اتفاق سنجار فعليا ينبغي على بغداد وأربيل العمل باتجاه درجة أكبر من قبول الاتفاق من قبل طيف واسع من الجماعات المسلحة المحلية وممثلي المجتمعات المعنية.

وفيما يتعلق بالجانب المدني ينبغي على الحكومة أن تعين مكلفا بأعمال القائم مقام حاليا وإجراء مشاورات وثيقة مع سلطات أربيل وقادة المجتمع المحلي في سنجار لتعيين شخص أيزيدي مناسب وغير منحاز سياسيا من سنجار.

وختاما من الناحية الأمنية ينبغي على الحكومة الاتحادية الابتعاد عن مقاربتها القتالية والانخراط في حوار مباشر مع وحدات حماية الشعب بشأن تحديات مثل إنشاء قوة شرطة محلية والسعي إلى إدماج مقاتليها في قوات الدولة. فيما يمكن لبعثة الأمم المتحدة للمساعدة في العراق أن تساعد في إنجاح هذه الإجراءات بإرسال مراقبين مدنيين دوليين ومستشارين تقنيين للإشراف على العملية.