بالتزامن مع تغيير وكالة “موديز” للتصنيف الائتماني لرؤيتها المستقبلية للاقتصاد المصري من مستقرة إلى سلبية، ووسط التحديات الصعبة التي تجابه الحكومة المصرية لتعويض خروج 20 مليار دولار من الاستثمارات الساخنة، وقعت شركة “سيمنز” الألمانية أكبر طلبية في تاريخها الطويل الذي يمتد نحو 175 عامًا مع مصر. ذلك بقيمة 8.7 مليار دولار، لبناء خطي سكك حديدية لقطارات فائقة السرعة بطول ألفي كيلو متر.

تم الاتفاق بين الهيئة القومية للأنفاق وتحالف من شركة سيمنز موبيلتي ذراع سيمنز لمشروعات النقل، وأوراسكوم كونستراكشون والمقاولون العرب. وهو ما سيُنشأ بموجبه سادس أكبر نظام للسكك الحديدية عالية السرعة في العالم. وتتألف شبكة القطارات فائقة السرعة من ثلاثة خطوط للسكك الحديدية، أحدها خط يربط بين سواحلها على البحر الأحمر والبحر المتوسط.

حصة سيمنز موبيلتي في المشروع تبلغ 8.1 مليار يورو (8.69 مليار دولار). بينها 2.7 مليار يورو تتعلق بالعقد المبدئي للخط الأول الموقع في الأول من سبتمبر 2021. بينما يهدف المشروع الجديد إقامة شبكة حديثة لخطوط السكك الحديدية السريعة. وهي تربط 60 مدينة بقطارات تصل سرعتها حتى 230 كم/ساعة، وتخدم 90% من المواطنين.

كانت الهيئة القومية للأنفاق وقعت في سبتمبر/أيلول عقدًا بقيمة 4.5 مليار دولار مع التحالف لتنفيذ وتصميم وتوريد وصيانة الخط الأول من شبكة القطار الكهربائي السريع. وسيربط بين مدن العين السخنة والإسكندرية والعلمين الجديدة ومطروح بطول 660 كيلومتر.

وقد أثار التعاقد الجديد الذي يشمل خدمات لقرابة 15 عامًا تساؤلات حول الفرصة التي تراها “سيمنز” من تواجدها في مصر، وخوضها منافسة حامية مع تحالفات فرنسية وصينية. إلا أن التوقيت كان هو السبب الرئيسي في رغبتها في حسم الصفقة التي ظلت تدرسها لفترة طويلة، مع تخوفات من كفاءة العاملين في السكك الحديدية، وتكرار الحوادث التي شهدها المرفق في السنوات الماضية، وفق حديث الخبراء.

صفقة تنقذ “سيمنز” من خسائرها

الصفقة المصرية من المقرر أن تساعد الشركة الألمانية على تعويض الخسائر الناتجة عن قرارها بمغادرة روسيا، وما تبعها من إلغاء طلبات تقدر قيمتها بنحو 4 مليارات يورو. كما يساعدها في إنعاش أسمهما في البورصة. فمجرد الأنباء عن التوقيع مع القاهرة ارتفع سهم “سيمنز” بنسبة 6, 3%. كما أن ضخامة الصفقة تمكن الشركة من الاستمرار في تقديم وحدتها “موبيليتي” على أنها لاعب هام وقوى.

كانت أسهم الشركة الألمانية قد هبطت بنسبة 5% مع إعلانها عن تخارجها من روسيا. وقالت الشركة -حينها- إنها بدأت إجراءات إنهاء عملياتها وجميع أنشطة الأعمال الصناعية. كما أوقفت أيضًا جميع الأعمال التجارية الجديدة والتسليم الدولي إلى روسيا وبيلاروسيا. فالعقوبات الدولية الشاملة ستؤثر على الأنشطة التجارية عليها. خاصة خدمة السكك الحديدية وصيانتها في دولة تنشط فيها منذ ما يقرب على 170 عامًا.

وضعت “سيمنز ” خلال الربع الثاني من العام الحالي (أبريل/نيسان ـ يونيو/حزيران) مخصصات بقيمة 600 مليون يورو كتكاليف مسجلة في قطاع صنع القطارات. وكان ذلك بسبب العقوبات المفروضة على روسيا. إلى جانب تكاليف إضافية لا يمكن تقييمها بالسيولة النقدية، مثل إغلاق الكيانات القانونية وإعادة تقييم الأصول المالية وتكاليف الهيكلة.

وشكلت السوق الروسية نحو 1%، من العائدات السنوية لـ”سيمنز” لعقود. وأغلب العمليات الحالية معنية بأعمال الصيانة والخدمة للقطارات فائقة السرعة. وفقدان تلك الخدمات مع تكاليف التخارج وتعويضات العاملين يعني تراجع لصافي دخل الشركة إلى النصف تقريبًا، لتسجل 1.21 مليار يورو (1.27 مليار دولار).

وربما منحت التطورات العالمية مصر مرونة أكبر في التفاوض. فالاتفاق المبدئي الموقع في سبتمبر/أيلول الماضي كانت حصة “سيمنز” منه 3 مليارات دولار ارتفعت في المشروع بالكامل إلى 8.6 مليار. ما يعني أن حصتها في الخطين الثاني والثالث 5.6 مليار دولار. وبموجب العقد ستكون الشركة الألمانية مسؤولة عن توفير القطارات والعربات وأنظمة التحكم والبنية التحتية. بينما تتولى أوراسكوم بناء السكة وتركيب أنظمة الإشارات.

إنفوجراف سيمنز
إنفوجراف سيمنز

تفاصيل الصفقة

تتضمن الصفقة إلى جانب خطوط السكك الحديدية توريد: 41 قطارًا عالي السرعة و94 قطارًا إقليميًا، و41 قطارًا للشحن، وثمانية مستودعات ومحطات شحن. ويشمل التعاقد تقديم خدمات الصيانة لمدة 15 عامًا، وقطارات الركاب سيُجرى تصنيعها في مصانع الشركة بكريفيلد. بينما سيُجرى تصنيع القاطرات التي ستُستخدم في حركة نقل البضائع في كريفيلد وميونخ. وسيُجرى إعداد التقنيات الخاصة بإشارات السكك الحديدية في براونشفايج، بحسب تصريحات رئيس سيمنس.

تتكون الشبكة المصرية عالية السرعة من 3 خطوط، أولها “قناة السويس على القضبان” المعلن عنها بالفعل، وهو خط بطول 660 كم ويربط بين مدينتي العين السخنة على البحر الأحمر ومرسى مطروح والإسكندرية على البحر المتوسط.

الخط الثاني سيبلغ طوله نحو 1100 كم ويمتد بين القاهرة وأبوسمبل بالقرب من حدود السودان، ويوفر فرصًا إضافية للشركات الصغيرة والعائلية في سهولة نفاذها لأسواق العاصمة. أما الخط الثالث فبطول 225 كم وسيربط المواقع الأثرية في الأقصر بالغردقة على البحر الأحمر، وسيحسن من كفاءة واستدامة نقل البضائع بين ميناء سفاجا والمدن المصرية.

اقرأ أيضًا: 7 سنوات من الاستثمار في مجال النقل المصري (ورقة سياسات)

مقولة “قناة السويس على القضبان” أحد الأسباب الرئيسية وراء الإقبال الكبير على صفقات القطارات فائقة السرعة بمصر. ففي ظل الحديث عن المشروعات المنافسة لقناة السويس تسعى مصر لتعزيز القناة بمشروعات مكملة لها. وبالتالي، فإن العائد المتوقع من تلك القطارات التي ستنقل 3.1 مليون طن بضائع يضمن ربحية المشروع.

وقد تقدم اتحادان صينيان ومجموعة “ألستوم” الفرنسية بطلب للحصول على تلك الصفقة الضخمة. لكن رئيس سيمنز سبق أن أكد في سبتمبر/أيلول 2021، أنه “لا يمكن إنجاز مشروع بضخامة القطار المصري الفائق بدون دعم سياسي”، معربًا عن شكره حينها للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.

ولم يتم تحديد المنافس الصيني. لكن شركة “تشينجداو سيفانج المحدودة” التابعة لشركة مهمات السكك الحديدية الصينية كانت قد وقعت عام 2018 عقدًا لتوفير 22 قطارًا يتكون الواحد منها من 6 عربات ويمكنها نقل 2222 شخصًا على الأكثر، ليكون أسرع قطار كهربائي حضري متعدد الوحدات يعمل في مصر، ويربط سكة حديد مدينة العاشر من رمضان بالمنطقة الحضرية في القاهرة ويسهل تنقل 5 ملايين شخص.

ليست مجرد صفقة

بحسب تقرير أوكسفورد للأعمال، فإن تحديث معدات السلامة من أولويات الاستثمار. ولذلك وقعت السكك الحديدية عدة عقود لتحسين الأمان. بينها اتفاقية مع المقاول الفرنسي تاليس بنحو  70.5 مليون يورو لتحديث معدات الإشارات والاتصالات على طول خط السكة الحديد بين القاهرة والإسكندرية. كما أن إنشاء وصلة قطار فائق السرعة بين الأقصر ومرسى علم يمثل وسيلة لتشجيع تنمية السياحة في كلا الموقعين، وفق هذه الرؤية.

ويقلل النظام المكهرب بالكامل استهلاك الوقود وتلوث الهواء بشكل عام عن طريق خفض انبعاثات الكربون بنسبة 70% مقارنة بالانبعاثات الحالية من السيارات وشاحنات النقل بما يرفع جودة الحياة وحماية البيئة. كما يتوافق نظام الإشارات المراد توفيره مع أعلى متطلبات السلامة بجانب تكثيف لتدريب المحلي سلامة الركاب والموظفين.

وبحسب الرئيس التنفيذي لسيمنز، ووزير النقل كامل الوزير، فإن مشروعات الشركة ستوفر فرص عمل لأكثر من نصف مليون مهندس وفني وعامل خلال فترة إنشاء المنظومة وستحفز النمو الاقتصادي، وستحسن نوعية الحياة لملايين الناس. فالخط الأول وحده مصمم لاستيعاب 30 مليون مسافر ونقل حمولة بضائع تقدر بـ 3,1 مليون طن-كيلومتر سنويًا، كما أن الخطوط الثلاثة باكتمالها فإن 90% من المصريين سيتمكنون من الوصول إلى نظام للسكك الحديدية حديث وآمن ومتكامل.

سابقة أعمال سيمنز في مصر

ينظر المستثمرون دائمًا للتصنيف الائتماني قبل اتخاذ القرار الاستثماري. إلا أن قرار سيمنز جاء متزامنًا مع إعلان وكالة موديز تثبيت التصنيف الائتماني لمصر عند “بي 2”. مع تعديل النظرة المستقبلية من مستقرة إلى سلبية بفعل المخاوف من أن يضع تشديد أوضاع التمويل ضغوطًا على قدرة البلاد على سداد ديونها الخارجية.

يقول الدكتور رشاد عبده، أستاذ الاقتصاد، إن موافقة سيمنز على الدخول في تعاقد طويل مع مصر يتضمن أكثر من بُعد. أولها سابقة الأعمال للشركة في مصر. خاصة مشروعات الطاقة الكهربائية التي كانت ضخمة أيضًا. إذ قدرت في 2015 بنحو 9 مليارات دولار لتوريد محطات كهرباء، تعمل بالغاز وطاقة الرياح بهدف زيادة طاقة توليد الكهرباء في البلاد بنحو 50%.

ويضيف عبده أن الشركة أيضًا تعتبر مشروعها فرصة لتقديم نفسها بصورة أكبر في أفريقيا كأضخم شركة تعمل في البنية التحتية المتعلقة بالنقل. وربما تكون نجاحاتها في مصر فرصة لعقود أكبر بالشرق الأوسط ومنطقة الخليج العربي التي يفكر بعضها في مشروعات جديدة للأنفاق والقطارات أو التوسع في القائم حاليًا.

ويؤكد أن مشروع القطارات الفائق مستديم وأرباحه ممتدة. لأنه يعتمد على نقل البشر والبضائع ما يجعل أي مستثمر مطمئنًا على القدرة على الوفاء بالالتزامات والسداد، على حد قوله. إذ أن مصر لم تتخلف أبدًا عن سداد ديونها. كما أن الشركة لديها ثقة في السوق المصرية. وأيضًا سبق لرئيسها حضور الفعاليات الحكومية. كما التقى كبار المسؤولين وبينهم رئيس الجمهورية أكثر من مرة.