قتل قابيل أخاه هابيل، ووشى يهوذا بالمسيح وسلم بدران أدهم الشرقاوي. إنها عشرات ومئات القصص من التخلي والوشاية. أو ما نُسميه في يومياتنا “الندالة”. ليس بيننا من لم يخنه عزيز. والبعض من كثرة الخيانات فقد الثقة تمامًا. مما يجعلنا نسأل: “هل الندالة طبع أم مكتسب في حياة الإنسان؟”.

من أين تبدأ الندالة؟

(النذالة) في اللغة هي: الحقارة والوضاعة والخسّة. وهي سلوك ذميم يُلحق الأذى بالآخرين. والنذل: هو الخسيس الذي يزدريه من حوله. هكذا يتم تعريفها لغويًّأ. هذا التعريف المعتمد بالضرورة على خبرات من كتبوا وألفوا تلك المعاجم اللغوية. وإذا أضفنا إلى هذا التعريف معلومة أن كثيرا من الثقافة والسلوك تنتقل عبر الجينات. ربما وقتها مالت الكفة نحو تأصيل الندالة كطبع شخصي لكن قبل أن نعتمد ذلك: هل لنا أن نلتفت حولنا لنرى بعض المشاهد!

تذهب امرأتان إلى السوق. تشتريان أغراضهما. إحداهما تشتري بما يزن خمسة كيلوات. والأخرى تشتري ما يزن 8 كيلوات. كل منهما تحمله مشترياتها بطريقة، تقسمهما بين يديها، أو ترفعهم فوق رأسها، أو تجمع كل الأكياس في يد واحدة.

رجلان يعملان في مهن تحتاج إلى قوة بدنية. أحدهما يحمل ثلاجة فوق ظهره والآخر يحمل قصعة المونة على كتفه.

كلها مشاهد متكررة وكل منا لديه عشرات ومئات المشاهد التي تمر بعينيه وعقله دون أن يقف أمامها. أو يجيب السؤال المعتاد: “ما الدرس المستفاد؟”.

إن الحقيقة التي نغفل عنها أننا مختلفون والاختلاف في كل شيء حرفيًا ليس فقط في الملامح والمهارات والأرزاق والذائقة. إنه أيضًا اختلاف في قدرتنا على تحمل الضغوط. قدرتنا على مواجهة الحياة والتعامل مع المصاعب التي نمر بها. إن تجاهلنا لمثل هذه الحقيقة سبب أساسي في تشويه رؤيتنا عن الآخرين.

والضغوط المقصودة ليست بالضرورة جميعها تخص العمل والبيت والمال. ولكن هناك ضغوطا أخرى كأن يكون لك صديق/ة لا يحتمل كتم شيء. مهاراته أن يتحدث. اكتسب الخبرة أو كانت طبعا لم يصحح أن الكلام الكثير يحقق له سعادة أو مكاسب. وأنت تعرف ذلك عنه ثم تذهب لتأتمنه على أمر خاص. وعندما يبوح به تقول عنه إنه ندل.

من مشكلاتنا أننا نتعامل مع الضغوط ذات الأسباب الواضحة والآثار الواقعية. ونغفل ضغوطا نفسية وأخلاقية قد يكون أثرها أعمق. تخيل مثلًا أنك عرفت بحكم عملك أو عن طريق المصادفة واقعة سرقة أو اختلاس أو خطأ طبي. وأنت غير ذي شأن بالموضوع. هل تسكت؟ ما التبعات والمشكلات التي ستتعرض لها إن لم تسكت؟. وهل إن تحدثت بما تعرف سيحدث ذلك فارقًا؟ هذا نوع من الضغوط شديد القسوة يُميت أرواحنا لكنه قبل الموت يمر بنا بعذابات وكوابيس ليس كل إنسان يحتملها.

الندالة فعل مشترك

قبل أن نبدأ مرثية الشجاعة والجدعنة ونبكي العِشرة وننعى أولاد الأصول علينا أن نُراجع أنفسنا ونسأل: “هل عرفنا حقًا المحيطين بنا”؟.

معرفة الآخر لها عامل أساسي في اكتشاف النهايات أو الاستعداد لها. أن نفهم ونستوعب من حولنا. أن نقبل عيوبهم ونتعامل معها. لا أن نتجاهلها. فنحن حين نتجاهل عيبا في صديق أو شريك. ثم ننتظر منه عملًا لا يتوافق مع هذا العيب. فنحن مشاركون في صنع النتيجة.

حين تعرف المرأة/الرجل أن شريكها/شريكته غير قادر على الادخار وأنه يقع فريسة سهلة للشراء ثم تعطيه مالا يخص عملا أو يخص الغير ولا يجد المال بعد ذلك. في هذا الوقت الطرفان شريكان في النتيجة. الأول لأنه تجاهل عيب الثاني. والثاني لم يبذل جهدا لإصلاح عيبه.

اقبل عيوب الشريك وضعها أمامك. فالتجاهل يعني أنك ستدفع ثمنه. والتجاهل ليس محبة لأنك مع أول أثر سلبي من هذا العيب ستكون من يسب ويلعن المعرفة ويصف شريكه بالندالة وكل الصفات السيئة.

ندالة منذ نعومة أظافره

كلما فكرت في مناقشة موضوع أجدني أعود إلى التنشئة الأولى والتربية. ولمَ لا وكل شيء له ملمح من الطفولة. فكل إنسان مثل بذرة صغيرة تنمو وتزدهر. إن اعوج الجذع ولم يجد من يدعمه ليقومه جاءت الشجرة مائلة وربما انكسرت من مرور عاصفة.

في السنوات الأخيرة أصبح تقويم السلوك والأخلاق مسؤولية الأسرة وحدها. بعد زمن كان جزء من التقويم يقع على عاتق المدرسة. والآن بعد أن تحلل دم التعليم فالمسؤولية الأولى والأخيرة تقع على الأسرة. فالأبوان المنشغلان بالكد والعمل من أجل توفير تعليم جيد وملبس ومأكل تنهشهم الضغوط ويتفتت الوقت في العمل والمواصلات. ويتصور كثير منهم أنهم عندما وفروا تعليما جيدا وملابس وطعاما ذا مستوى جيد أنهم قاموا بمسؤولياتهم. ولكن هذا ليس صحيحا. فسلوك الأبناء هو الذي سيساعدهم في إظهار نتائج تعبهم. لكن كيف والبعض يجدون في تنمر أطفالهم على زملائهم خفة دم. والغش نوعًا من الذكاء. وإذا عرف بعضهم أن الابن/ة سرق يحاولون طمس الواقعة مكتفين بكلمة عيب.

إنه المثال المتكرر. الأب يقول لابنه لا تكذب ثم عندما يتصل أحدهم يسأل عن الأب يقول الأب لابنه قل له غير موجود. هو نموذج تطبيقي لكيف تقول شيئا وتفعل عكسه.

طريقة الهروب من الندالة

الذي لا يعرفه الأهل أو ربما لا يمر بخاطرهم أن التربية الصحيحة هي أمان لهم قبل المجتمع. قبول أبنائنا بمشكلاتهم ومحاولات علاج المشكلات بطريقة سوية ضمان لأن يشب الأبناء أسوياء قدر المستطاع. بما يحفظ المستقبل. حين تُربي ابنك/بنتك بشكل صحيح فإنه سينتصر للحق والخير. سيساعد غيره. سيجد كبير السن من يرعاه،. ويهتم لضعفه. ستقل الخيانة والخسة والانكسارات.

لا أقول إن كل المسؤولية تقع على الأهل ولكنهم من يغرسون البذور. لكنهم يتجاهلون وينكرون أن أولادهم مصابون بسوء خُلق.

التربية السوية تخفف من الضغوط التي يقابلها الإنسان عندما يكبر ويكون طرفًا فاعلًا في الحياة. كثير من الأمور المؤسسة للندالة تظهر في تفاصيل وسلوكيات تبدو صغيرة وتافهة يمارسها الأطفال. ولا يلتفت لها الكبار من الأهل أو المعلمين وربما وجد بعض الأطفال تشجيعًا على سلوكياتهم.

المشكلة الحقيقة التي نواجهها الآن أن كثرة الضغوط الحياتية والاقتصادية تنتزع من الإنسان محاولاته للتجمل. سعيه لأن يظهر بشكل مهذب وذي خُلق. وكما قال المثل “الجوع كافر” أشباح الجوع والفقر والبطالة التي تطارد بضراوة الغالبية دون تفريق تجعل البعض يتخلى عن كثير من سلوكياته. بل إنها تعد دروسا عملية للتمرين على البلطجة والرداءة ومحاولات أن نبدأ نحن بالضرب قبل أن يضربنا الغير.

هذه الضغوط لا نستقبلها جميعًا بالطريقة نفسها. كم من الرجال والنساء تم تسريحهم من عملهم! لا تراهن على قوة تحملهم وصبرهم. ولا تختبرهم في مقاومتهم. لا تأت أمام صديق ترك وظيفته ويعاني في إعالة أسرته ثم تتحدث عن رفاهيات عائلتك ثم تسبه بعد ذلك إن نجح في إزاحتك من وظيفتك. الضغوط تُخرج أسوأ ما فينا. فغالبيتنا أندال إذا ما أُتيحت له الفرصة. ومن لم تظهر بعد لكننا جميعًا شركاء في إتاحة الفرص ليتحول الآخر لندل في روايتنا عنه.