“لم ينقطع الرباط أبدًا بيني وبين أصلي. أنا دائمًا أشعر أنني جزائري. فقط كنت أجد صعوبات في الرد على أسئلة الأطفال الذين كنت ألعب معهم في الحي، الذي لا يسكن فيه أي جزائري، عن أسئلتهم عن الجزائر، فكنت أرد عليهم معتمدًا على تخيلاتي. لقد كتبت عن الجزائر دون أن أعرفها. فقط زرت منطقة القبائل فيها حينما كنت مراهقًا، وكنت أبذل جهدًا للحديث بالقبائلية. لكنني لم أكن أستطيع أن أتحدث بها بسلاسة. ذلك رغم أن والديْ يتحدثان بها وباللغة العربية والفرنسية في المنزل. علاوة على اللغة الإنجليزية التي كانت والدتي تجيدها”؛ مقتطف من رواية الكاتب الفرانكفوني الجزائري آكلي تاجر. ربما تصلح كبداية لحديث سينمائي جزائري أصيل.

في الأيام القليلة الماضية، بدأت بعض دور العرض السينمائي في مصر عرض فيلم “جزائرهم” للمخرجة الفلسطينية من أصل جزائري لينا سويلم. ذلك بعد عرضه في عدد من دول العالم خلال الفترة الماضية. وهو فيلم تدور أحداثه في إطار وثائقي، حين يقرر “مبروك وعائشة” اﻻنفصال، بعد 62 عامًا من الزواج، حيث انتقلوا من الجزائر إلى “تيير”، وهي بلدة صغيرة وسط فرنسا، وعاشوا معًا حياة المهاجرين. بينما يعتبر انفصالهما فرصة للتساؤل عن رحلة المنفى الطويلة التي عاشوها.

وقد نال الفيلم جوائز عديدة نالها منذ لحظة عرضه على الجمهور، كان من بينها جائزة أحسن فيلم عربي وثائقي طويل في مهرجان الجونة السينمائي بمصر. بالإضافة إلى جائزة لجنة التحكيم الخاصة بمسابقة الأفلام الطويلة لمهرجان “مالمو” في دورته الـ11 للسينما العربية بالسويد. ويبدو أن الفيلم مرشح للمزيد من الجوائز في ظل ما يحققه من نجاحات متواصلة.

ينبش الفيلم في ذاكرة ستين عامًا من الهجرة الجزائرية، تحاول مخرجته لينا سويلم البدء فيها، انطلاقًا من تجربة عائلية، لقصة حياة جدها وجدتها من الحبّ إلى النفي والانفصال بعد 62 عامًا من الزواج.

ومن خلال هذه السيرة الذاتية العائلية (قصة الجد مبروك والجدة عائشة) يدخل المشاهد في ذاكرة المهاجرين الجزائريين الأوائل، وكيف سارت حياتهم التي جاء عليها الواقع والتاريخ أيضًا.

“جزائرهم”.. ليس مجرد فيلم

في حوار أجراه معها موقع “مصر 360″، تقول “لينا” إنها أرادت فتح صفحات من تاريخ غامض عاشته الجزائر، أواسط القرن الماضي. ذلك في محاولة لاستكشاف التاريخ النفسي المنسي لجمع من المنفيين والمقموعين بالغوص في ذكريات أسلافها.

“لينا” التي أجرى موقع “مصر 360” حوارًا معها عن الفيلم، بدت شابة شديدة الهدوء، تفارق المتعارف عليه عن أهل الجزائر من أسلوب حديث نشيط الحركة، وهي الصفة التي تبعدها نوعًا ما عنهم. كما أنها أصرت أن يُجرى الحوار باللغة الإنجليزية لا العربية؛ لأنه من الصعب عليها فهم كل العربية. وربما في ذلك ما يجعل للفيلم أهمية قصوى، إذ يرجعنا إلى قصص المهاجرين واغترابهم عن أصولهم.

لا تنكر “لينا” خصوصية الفيلم كونه يحكي تاريخ عائلتها. تقول: “أخبرني والداي قصة انفصال الجدين بعد 62 عامًا من الزواج. “لقد كانت صدمة”.

أدركت “لينا” حينها أنها لا تعرف شيئًا عن تاريخ الجدين ولا عن علاقتهما الزوجية. كانت تخشى أن تتلاشى ذكراهما. وهذا ما دفعها لإنتاج الفيلم. أما عن اختيارها النمط الوثائقي لأول أعمالها، فتقول: “هذا فيلم وثائقي عن تاريخ عائلتي. يتحدث عن تاريخ أجدادي الجزائريين وتأثير المنفى على الانتقال والصمت في الأسرة”.

يتناول الفيلم مسألة كون المرء من أصل أجنبي لا يعرفه، بينما يحاول استعادة أصله وتراثه المفقود هذا بطرق معقدة.

وما هو على المحك في هذا المشروع ليس الحكم على التاريخ وإدانته بل إعادة سرد قصة من منظور شخصي وإظهار الحاجة إلى معرفة تاريخ المرء.

“بالنسبة لي، فإن “جزائرهم” ليس مجرد فيلم. ولكنه وسيلة لمناقشة واكتشاف قصص المنفيين التي غالبًا ما يتم إسكاتها”؛ تقول “لينا” عن موضوع الفيلم الذي تصفه بشديد الحساسية والخصوصية. إذ لا يزال تاريخ الاستعمار والحرب في الجزائر مثار خلاف بين فرنسا والجزائر.

“أعتقد أن الأفلام الوثائقية هي أداة رائعة لإرجاع كل قصة وتعقيدها إلى كل شخصية”.

“جزائرهم”.. عن جيل الصامتين

تقول “لينا”: “أنا من جيل وُلِد لأجداد لم يكن يبدو أن لديهم قصة. كانوا من الصامتين الذين صمّت الحرب آذانهم. لم يخبرني أحد أبدًا عن حياتهم – باستثناء بعض الحكايات التي تم إعادة سردها – وكانت تخفي الحقيقة أكثر مما تظهرها”.

كان انفصال الجدين بعد 62 عامًا من الزواج غامضًا. وهو اللحظة المحفزة التي أثارت رغبة “لينا” وشركائها لإنتاج “جزائرهم”

بحسب “لينا”، فإن انفصال الجدين إنذار باندثار حكايتهما. وهنا كانت ضرورة هذا العمل “جزائرهم”، ومن هنا باتت هذه العلاقة بينهما مرآة للتاريخ الجماعي. إذ تسلط قصتهم الضوء على جزء من تاريخ الهجرة الجزائرية في فرنسا، حيث ولدت مخرجة العمل.

وفق “لينا”، فإن “القصص الأكثر عالمية هي الأكثر حميمية. تلك الأفلام التي تتناول موضوعات مثل الصمت والأسرة ومفهوم الهوية في المنفى ونقل التراث عبر الأجيال وتحرير المرأة، هي أفلام يمكن أن يكون لها تأثير على المستويين التاريخي والشخصي. وهي تحظى بردود فعل قوية بين الجماهير المختلفة. لا يوجد شيء أكثر شمولية من الأسرة والعلاقات والشعور بالانتماء ، حيث أن كل فرد في كل مجتمع قد مر بهذه التجارب”.

بين آكلي تاجر ولينا سويلم

على مسافة قريبة من حواري مع الجزائرية لينا سويلم كنت أتذكر بعض الكلمات: “أسكن في منطقة من باريس لم تكن بها جالية جزائرية. لكن كان لدي وعي مبكر بأنني وإن كنت باريسيًا، ففي الوقت نفسه لست بفرنسي. وهو الأمر الذي لقنه لي والدي. حقًا الأمر معقد حينما تولد وتكبر وتدرس في بلد لا تشعر أنك تنتمي إليه. وتساءلت “من أنا؟ هل أنا جزائري فعلًا، وأنا الذي لم أزر الجزائر في طفولتي؟”. هكذا تحدث الروائي الجزائري آكلي تاجر الفرانكوجزائري، الذي يعتبر واحدًا من أشهر وأنجح الكتّاب من ذوي الأصول الجزائرية، وتتناول رواياته كما تناول فيلم “جزائرهم” قضايا التهجير والذاكرة المشتركة مع الجزائر، وربما لدينا كثيرون يمكن لقصصهم الشخصية أن تفضح مآسي هذا التهجير.

انتهينا من الحوار في ذهني أن تلك السينما ربما هي المنقذ شبه الوحيد للسينما العربية عمومًا لكل دولة على حدة. فربما تصبح وثيقة سياسية وثقافية واجتماعية لسنوات التهجير والحروب والفساد دون أدلجة أو خطابات سياسية رنانة مملة بالرغم من كونها تقدم المعنى ذاته.