“لرئيس الجمهورية بعد أخذ رأى مجلس الوزراء العفو عن العقوبة، أو تخفيفها. ولا يكون العفو الشامل إلا بقانون، يُقر بموافقة أغلبية أعضاء مجلس النواب”. المادة 155 من الدستور المصري لسنة 2014.

هذا هو النص الذي نلجأ له الآن للحصول على حق السجناء في الحصول على عفو رئاسي يرحمهم من السجون والزنازين.

هذا النص الدستوري في نصه الأول يتم تطبيقه على السجناء، ومع ذلك فإن نصه الأخير يساعدنا في محاولة الوصول لطريقة أفضل وأسرع وأكثر جدية وحسماً في التعامل مع ملف المحبوسين على ذمة قضايا الرأي.

فمع كل الجهود الطيبة التي تقوم بها لجنة العفو يبدو أننا في احتياج إلى خطوات أكثر حسماً في التعامل مع ملف سجناء الرأي، خطوات لا تستبعد عمل لجنة العفو الرئاسي في هذه المرحلة لكنها تضيف إليها إبداعات وصيغ قانونية أخرى تساعدنا على التعامل الجاد مع الملف الصعب.

الدستور المصري فتح الباب واختصر الطريق ورسم خريطة واضحة لإمكانية التعامل الجاد والحقيقي مع هذا الملف الصعب والمزعج، إذا قررنا أن نغلقه للأبد.

تحدث الدستور في مادته رقم 155 عن حق رئيس الجمهورية في إصدار قانون بالعفو الشامل عن العقوبة، والعفو الشامل هنا يعني إسقاط القضية برمتها والعقوبة كلها كأن لم تكن أصلا.

 

ظني أننا في حاجة لمثل هذا التشريع، بصياغات قانونية للمتخصصين، في اللحظة الحالية التي يزيد فيها الجدل حول سجناء الرأي وحقهم في الحرية.

 

الحقيقة أن الدستور أكد على حق رئيس الجمهورية في إصدار تشريع عام بالعفو عن السجناء، وما يحتاجه هذا الملف الصعب هو إبداع إجراء قانوني عاجل بهذا الشكل، إجراء يصفي هذا الملف تماماً، وينزع فتيل احتقان مجتمعي تسبب فيه، ويطمئن آلاف الأسر الحزينة والتي تعرضت للتعب والإرهاق البدني والنفسي بسبب غياب ذويهم منذ شهور أو سنوات.

تقديرات المنظمات الحقوقية المحايدة في هذا الملف مرعبة وكارثية، فهناك الآلاف من سجناء الرأي خلف جدران السجون، بعضهم أمضى شهوراً والغالبية منهم أمضت سنوات وراء الشمس!

هذه الأرقام الكبيرة لن يجدي التعامل معها بطريقة “التنقيط”، فرغم أن خروج سجين واحد هو مكسب مهم إلا أن ملف سجناء الرأي يحتاج إلى خطوات حاسمة بشكل أكثر وجذرية بشكل أكبر.

في تقديري أننا في حاجة لوضع تشريع يضمن إطلاق سراح سجناء الرأي وفق ضوابط وشروط واضحة.

فمن حيث المبدأ يجب أن يستبعد القانون خروج كل من مارسوا العنف والإرهاب أو حرضوا عليه، فهؤلاء لا ينطبق عليهم تعريف سجين الرأي، وبعد هذا يتم وضع قواعد واضحة لخروج السجناء الآخرين في نطاق زمني لا يستغرق وقتاً طويلاً ولا إجراءات معقدة وصعبة.

أظن أن اختيار قواعد مثل “كبار السن والمرضى والنساء ومن أمضوا مدداً طويلة في الحبس تعدت العامين هم الأولى، بعدها تكون الأولوية لمن أُلقي القبض عليه بسبب كتابات على شبكات التواصل الاجتماعي أو الاشتراك في احتجاجات سلمية أو غيرها من صور النقد والرأي، على أن تكون مدة شهرين أو ثلاثة أشهر هي الحد الأقصى لتصفية هذا الملف وخروج كل سجناء الرأي وكل من لم يتورطوا في ممارسة العنف.

ملف سجناء الرأي يحتاج إلى تفكير مختلف، فمع عمل لجنة العفو في هذه المرحلة ومساعدتها في خروج عدد من السجناء يمكن الإعداد لهذا القانون، وتقديري أن القوى المعارضة التي ستشارك في الحوار مطالبة بتقديم مثل هذا القانون للحكومة ليصل بأقصى سرعة ممكنة للبرلمان من أجل مناقشته وإقراره.

إن ملف حرية سجناء الرأي في ظني هو الفاصل في مدى وجودة إرادة جادة من قبل السلطة ليتحول الحوار إلى “حالة تغيير”، وليكون المقدمة لتحول ديمقراطي جاد وحقيقي، وبهذا المعنى فإن هناك حاجة ماسة لرسائل اطمئنان تبعث بها السلطة إلى معارضيها وإلى المجتمع على السواء، لا سيما في هذا الملف الذي يجب أن يكون بعيداً عن مناورات السياسة، وهو -ملف السجناء- في الحقيقة فرصة يمكن أن تفتح الباب لثقة أكبر في شأن الحوار المطروح، هذه الثقة ستبدد الشكوك وستمنح الأمل للمحبطين والذين يرفعون شعار “مفيش فايدة” استناداً إلى سلوك السلطة الحالية لا سيما في ملف الحريات العامة وفي القلب منها حريات الرأي والتعبير.

 

أمامنا طريقان: إما أن تتقدم المعارضة بنصوص التشريع وتسلمه للحكومة لمراجعته وإحالته إلى البرلمان لإقراره، أو أن يكون التشريع رسالة من السلطة ذاتها تؤكد فيه أنها تدخل إلى الحوار المنتظر بحسن نية وإرادة حقيقية على توقف الإقصاء والحبس، ولو حدث وتقدمت الحكومة بنفسها بالقانون إلى البرلمان ستصبح هذه الخطوة هي الأهم والأفضل في بناء أجواء إيجابية ومشجعة قبل بدء جلسات الحوار.

لا يجوز أبداً الحديث عن جمهورية جديدة دون احترام الحق في الاختلاف ودون تصفية ملف السجناء الذين دفعوا سنوات من أعمارهم خلف جدران السجون لمجرد اختلافهم في الرأي والرؤية مع السلطة؛ أو لمجرد مشاركتهم في احتجاج سلمي، أو انتماؤهم لتيار سياسي، وبداية “أي جديد” يجب أن يظهر في إرادة سياسية لتصفية ملف سجناء الرأي بالكامل، وفي ظرف عدة أشهر دون تطويل، أما خروج العشرات كل شهر- أو عدة أشهر- فهو على أهميته لا يشكل حلاً جذريا ولا يوحي بالجدية المطلوبة في مثل هذا الملف الخطير.

تشريع قانوني بضوابط وشروط واضحة يغلق ملف سجناء الرأي هو الاختيار الأمثل والأصوب، وهو الطريق الذي ينتظره الآلاف من السجناء وأسرهم، ثم إنه هو الذي يفتح الباب لغد مختلف وأفضل، وهو الذي يطمئن الخائفين والمتشككين في جدية الحوار، وهو قبل كل هذا وبعده، حق لهؤلاء الذين فقدوا جزءاً من حياتهم في ظلمات السجون لمجرد اختلافهم في الرأي والرؤية مع السلطة القائمة.