كل من مر بتجربة إنجاب الأطفال يعرف معاناة تلك الشهور الأولى بعد الولادة، معاناة قلة النوم بسبب الاستيقاظ المتكرر للرضيع، جراء جوعه وآلامه و”تسنينه”، ومحاولة فك شفرات متطلباته، يبدو الأبوان في تلك الشهور الأولى مثل شبحين، تملّك منهما شحوب الوجه وقلة التركيز والنعاس المفاجىء المضطرب في أي مكان، مع محاولات التكيف مع الضغوط المادية للطفل الجديد من غذاء و”دايبرز” ورعاية صحية، إن الوالدين شخصان بالغان كبيران لكن ذلك الكائن الصغير المحبوب قادر على استنفاد طاقتهما بالكامل، حتى في ظل حصولهما على المساعدة من الجدة – أم الزوجة – في معظم الحالات، تبقى التجربة والتغيرات المصاحبة لها تحديا لا ينبغي خوضه من دون الاستعداد له جيدا.
لنتخيل تلك التجربة المجهدة الضاغطة وقد اضطرت لمواجهتها الأم وحدها في ظل سفر الأب، أم وحيدة تكافح بين ساعات الليل والنهار لرعاية رضيعة جديدة لم تكن استعدت لها، وتخيّل أن لتلك الأم الوحيدة طفل آخر في التاسعة من العمر، يعاني من مرض التوحد لدرجة عدم استطاعته الكلام إلى هذه السن، وبين الطفلين، الكبير المريض، والرضيعة المسكينة، ثمة طفل آخر في الرابعة من العمر، وهي سن مرهقة للغاية، يكتشف الطفل فيها “شقاوته” من دون أن يستطيع رعاية نفسه بعد. ترى ماذا تبقى من الجهاز العصبي لتلك الأم التي ينبغي أن ترعى وحيدة هؤلاء الأطفال الثلاثة الذين يحتاج كل منهم إلى رعاية خاصة منفردة. لابد أنك عرفت الآن أنني أتحدث عن سيدة الدقلهية التي قتلت أطفالها الثلاثة وحاولت الانتحار، وبالطبع فإن لا شيء يبرر القتل، ولكن من مسؤولية المجتمع أن يفحص الحوادث التي تجري فيه فحص المتمعن، ليقف منها موقف العدل أولا، ثم ليضمن عدم تكرارها ثانيا.
وقد قصدت الحديث عن الظرف النفسي والعصبي القاسي الذي عاشته السيدة قبل التطرق لحادثة القتل ومحاولة الانتحار، لا لإضافة المزيد إلى النقاش حول حالتها العقلية أو النفسية، وهو النقاش الذي رجح الكثير من الخائضين فيه أن تكون الأم تعاني مرضا نفسيا، وإنما من أجل ألا ننسى أن ظروف تلك السيدة في حد ذاتها، وبعيدا عن صحة أو خطأ الفرضيات حول معاناتها من مرض نفسي، هي ظروف تكاد تكون غير محتملة حتى لأصحاب “العقل السليم”، لقد عانت وحيدة من معاناة ثلاثية يمكن لكل واحد منها أن يهدد استقرار العقل، إن نقص النوم في حد ذاته تهديد خطير لسلامة التفكير، وإذا أضفنا لذلك الاحتمال البارز لمعاناة السيدة من “اكتئاب ما بعد الولادة”، وهي حالة مرضية يقرّ بها العلم، فإننا نرى أن كل شء كان معدا للانفجار ولا ينتظر إلا شرارة قد تندلع في أي لحظة، ويبدو أنها اندلعت للأسف فأدت إلى تلك الجريمة المأساوية، ولكن حتى ذلك ليس هو كل شيء! فحسب الأخبار، السيدة حاصلة على بكالوريوس التربية، أي إنها ليست خريجة جامعية فحسب، بل درست التربية تحديدا، ومع ذلك، فإنها، حسبما كتبت في رسالتها الواعية، كانت تحمّل نفسها عجز ابنها الأكبر عن “الكلام والحياة”، فكيف يمكن لخريجة جامعية متخصصة في التربية، أن تجهل أن معاناة الطفل من مرض التوحد، خصوصا في مستوياته الأشد، ليس ذنب الأم ولا علاقة لها بقدرتها على تعليمه الكلام. وهل الجهل بتلك المعلومة مسؤولية كلية التربية أم مسؤولية الأم؟
بالطبع، فإن أحد أهم أعراض الاكتئاب والمشكلات النفسية، هو عدم القدرة على التفكير بشكل سليم، وربما أصرت الأم على تحميل نفسها الذنب كسلوك اكتئابي معروف. ليس كاتب تلك سطور ذلك المقال أخصائيا نفسيا أو اجتماعيا، لكنه مثل القاريء تماما، يرى في تلك الحادثة الكثير مما يتطلب من المجتمع أن يراجع نفسه، وأنه لا ينبغي أن ننتظر حتى يقتنع الجميع بأهمية الصحة النفسية وأن يستطيعوا تحملوا تكلفتها، وإنما ينبغي أن تكون متاحة وملزمة في حالات الضرورة كما هو الحال مع التطعيمات، إذا كنا لا نريد أن نستيقظ على فاجعة جديدة.