تواجه مصر عددا من المخاطر والتحديات المرتبطة بتغيرات المناخ، ارتفاع درجة الحرارة، تغير أنماط ومواقيت هطول الأمطار، ارتفاع مستوى سطح البحر، الظروف الجوية المتطرفة، والكوارث المناخية، تؤثر هذه العوامل على كل شيء تقريبا، موارد المياه والزراعة وإنتاج الغذاء، البيئة والصحة البشرية والبيطرية، الطاقة والنقل السياحة، التعليم وسوق العمل، وتمتد لتشمل معظم النظم البيئية البرية والبحرية والمناطق الساحلية، كما تؤثر على التوزيع السكاني من خلال الهجرة الداخلية والخارجية، وبالتالي، فهي تمثل تهديدا للأمن والاستقرار في العالم.

ولما كانت آثار تغيرات المناخ واسعة وكبيرة، ولا يمكن أن نحيط بها جميعا في مقال واحد، فسوف نبدأ أولا باستعراض وجهة نظر الأوراق العلمية والأرقام الرسمية حول تأثير تغير المناخ على الموارد المائية المصرية: نهر النيل والأمطار والمياه الجوفية. فوفقا لوزارة الموارد المائية والري، تصل إيرادات مصر من المياه إلى 60 مليار متر مكعب سنويا، ويمثل نهر النيل المورد الأساسي 55.5 مليار متر مكعب يمثلون 93.7% من جملة الإيرادات المائية، وتساهم الأمطار بحوالي 1.3 مليار متر مكعب سنويا، والمياه الجوفية العميقة 2.1 مليار متر مكعب سنويا، وتحلية مياه البحر 0.35 مليار متر مكعب سنويا.

في حين تبلغ استخدامات المياه حوالي 80.25 مليار متر مكعب سنويا، يستهلك قطاع الزراعة 61.1 مليار متر مكعب سنويا، بنسبة تصل إلى 76.1% من جملة المياه المستخدمة سنويا، في حين يستهلك الاستخدام المنزلي حوالي 10.75 مليار متر مكعب سنويا، بنسبة حوالي 13.4% من المياه المستخدمة سنويا، أما قطاع الصناعة فيستهلك حوالي 5.4 مليار متر مكعب سنويا، بنسبة تصل 6.7% من المياه المستخدمة سنويا.

يبلغ الفاقد السنوي في المياه بسبب البخر فقط في الموارد السطحية في نهر النيل والبحيرات حوالي 2.5 مليار متر مكعب سنويا، بنسبة تصل إلى 3.1% من إجمالي المياه المستخدمة، أو 4.1% من إجمالي الموارد السنوية. ومعنى هذه الأرقام أن هناك عجز أو فجوة تقدر بحوالي 20 مليار متر مكعب بين الإيرادات والاستخدامات السنوية، ويتم سد هذه الفجوة أو تعويضها بطريقتين: السحب من خزانات المياه الجوفية، وإعادة استخدام المياه الناتجة من الصرف الزراعي والصحي والصناعي بعد معالجتها.

بحسب تصريح لوزير الموارد المائية والري، تصل الاحتياجات المائية الكلية لمصر إلى نحو 114 مليار متر مكعب سنويا، ما يعني أن زيادة العجز في المياه إلى 54 مليار متر مكعب سنويا. وبحسب الوزير “يتم سد هذه الفجوة من خلال إعادة استخدام المياه، واستيراد محاصيل زراعية بما يعادل نحو 34 مليار متر مكعب سنويا”. إذا وضعنا في الاعتبار الطرق الأخرى للفاقد في المياه، مثل الفاقد في شبكات المياه والري والصرف الصحي والصرف الصناعي والأغراض الترفيهية، فإن الفجوة الفعلية بين الإيرادات والاستخدامات يمكن أن تكون أكبر.

فعليا، وعلى مدار سنوات، تعتمد مصر على مصادر المياه الجوفية كأحد وسائل تعويض نقص المياه، لكن لا يمكن إستنزاف خزانات المياه الجوفية والسحب منها إلى الأبد، دون أن نضع في اعتبارنا وسائل إعادة تجديد هذه المياه. إعادة استخدام مياه الصرف المعالجة يمكن الاعتماد عليها جزئيا-وفي حدود معينة- وذلك لأن إعادة استخدام المياه يغير من مواصفاتها. الوسيلة الثالثة لتعويض نقص المياه عن طريق إستيراد سلع وحاصلات زراعية، يمكن أن ترتفع تكاليفها بصورة جنونية في المستقبل، سواء بسبب نقص الإمدادات الناتج عن تغيرات المناخ، وبسبب الحرب الروسية في أوكرانيا.

ومن المرجح أن تزداد الفجوة بين الإيرادات والاحتياجات في المستقبل، بسبب زيادة عدد السكان، وبالتالي زيادة الطلب على المياه. ومن المتوقع أن تزيد فاتورة استيراد السلع الزراعية والحبوب والزيوت النباتية بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا. السبب الثالث هو النقص المتوقع في إيرادات نهر النيل أو معدل التدفق في النهر بسبب سد النهضة الإثيوبي. السبب الرابع الذي نناقشه هنا بقدر من التفصيل هو تغير المناخ، وكيف سيؤثر في موارد المياه المصرية: نهر النيل والأمطار والمياه الجوفية.

بحسب التقييم الأولي لشبكة الخبراء المعنيين بالتغيرات المناخية والبيئية الصادر تحت عنوان “المخاطر المرتبطة بالمناخ والتغيرات البيئية في منطقة البحر الأبيض المتوسط” يتوقع الخبراء أن تتعرض مصر، ودول منطقة البحر الأبيض المتوسط وشمال أفريقيا عموما، بشدة لمخاطر تغير المناخ، الأمر الذي سيفرض مزيدًا من الضغط على موارد المياه، والتي ستؤثر بدورها على كل قطاعات الاقتصاد، من الزراعة وإنتاج الغذاء والبيئة إلى الصحة والتعليم وسوق العمل.

بحسب التقرير، ستتعرض دول المنطقة بشدة للتغيرات في درجات الحرارة وهطول الأمطار. درجة الحرارة هي أكثر خواص المناخ تأثراً بتغيرات المناخ، وتتوقع بحوث النمذجة المناخية أن تواجه دول المنطقة ومنها مصر زيادة في درجة الحرارة تتراوح بين 2-5.2 درجة مئوية، وأن تواجه انخفاضا بنسبة تصل إلى 20% في هطول الأمطار، وزيادة في حدة وتواتر موجات الحر والظروف الجوية المتطرفة، بحلول نهاية القرن الحالي. يؤثر ارتفاع درجة الحرارة على تركيزات بخار الماء، والرطوبة، وسرعة الرياح، وخصائص السحب، ومعدلات التبخر، وهطول الأمطار، ورطوبة التربة، وأنظمة تساقط الثلوج وذوبان الجليد. وتؤثر التغيرات في هطول الأمطار، على حجم وتوقيت الفيضانات وأنظمة الجريان السطحي ومواسم الجفاف ومعدلات تغذية خزانات المياه الجوفية.

وفي الوقت نفسه، تؤدي درجات الحرارة المرتفعة إلى زيادة الفاقد بالبخر من المياه السطحية كنهر النيل والبحيرات. ولا يؤثر تغير المناخ على موارد المياه فحسب، بل يؤثر أيضًا على الاستهلاك، فارتفاع درجة الحرارة يؤدي إلى زيادة الطلب البشري والحيواني والنباتي على المياه، وتحتاج بعض المحاصيل إلى كميات أكبر من المياه حتى تنمو، وبالتالي يزيد استهلاك الزراعة للمياه. كما تؤدي زيادة درجات الحرارة إلى زيادة معدلات البخر في مصادر المياه السطحية كنهر النيل وبحيرة ناصر، وبالتالي زيادة الفاقد في المياه، كما تؤدي إلى زيادة كمية المياه اللازمة للحفاظ على مواصفات النهر والمجاري المائية والبحيرات.

قامت بعض الدراسات بتقييم آثار التغيرات المناخية على تدفقات المياه في نهر النيل، وقد اختلفت هذه الدراسات فيما بينها اختلافا واضحا من حيث النتائج التي توصلت إليها، مما يشير إلى درجة كبيرة من عدم التأكد. فوفقا للدراسة التي أعدتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تعتبر درجة الثقة بشأن قيمة واتجاه التغير في سقوط الأمطار على دول حوض النيل مستقبلا محدودة، وعلى الرغم من ذلك، فإنه من المتوقع حدوث ارتفاع في متوسط معدل الترسيب السنوي على منابع النيل.

تتوقع الدراسة أن ارتفاع المتوسط السنوي لدرجة الحرارة بدرجة مئوية واحدة مئوية، من شأنه أن يتسبب في زيادة قدرها 1% في متوسط معدل الترسيب السنوي، ومن المتوقع أن تؤدي زيادة قدرها 1.4-2.5 درجة مئوية إلى ارتفاع معدل الترسيب السنوي بحوالي 2.1 و 3.7% على التوالي. كما أن ارتفاع درجة الحرارة سوف يؤدي إلى ارتفاع معدلات البخر، وبالتالي، يتوقع خسارة نصف التدفقات التي تأتي إلى مناطق المستنقعات السودانية، بالإضافة إلى حدوث نقص يقدر بحوالي 10% من تدفقات النيل التي تصل إلى خزان السد العالي بأسوان.

وفي ورقة بحثية نشرت في أبريل 2020 راجع الباحثان تامر جادو ودعاء الأغا عددا من الدراسات والبحوث السابقة ونشرا ورقتهما تحت عنوان “تأثيرات تغير المناخ على الميزان المائي في مصر وخيارات التكيف”. راجع الباحثان دراسات وبحوث حول تاثيرات تغير المناخ على موارد المياه وارتفاع مستوى سطح البحر ودرجة الحرارة والتبخر-النتح، كما ناقشا أيضا إجراءات التكيف المقترحة بهدف الوصول إلى استراتيجية تكيف فعالة مع التغيرات المناخية في مصر.

تقترح الورقة إجراء مزيد من البحوث لتقييم السيناريوهات المختلفة لتغير المناخ وآثاره على إيرادات نهر النيل، وتلفت النظر إلى أن الدراسات حول تأثيرات تغير المناخ على هطول الأمطار، والتبخر-النتح، ونوعية المياه الجوفية وكميتها في مصر، لا تزال محدودة. ويرى الباحثان أن معظم تدابير التكيف المذكورة في الأوراق الرسمية والأدبيات هي عامة ووصفية، وليست محددة كميا، لذلك، يؤكد الباحثان على الحاجة الملحة لمزيد من البحوث حول تحسين طرق التنبؤ ونظم الإنذار المبكر وتقنيات حصاد الأمطار وتقنيات الري الحديثة والزراعة بمياه البحر والمحاصيل الملحية، وعلى أهمية إجراء مزيد من البحوث لتقييم تدابير التكيف لكل من السيناريوهات المتفائلة والمتشائمة.

إستخدمت ورقة بحثية خمسة من نماذج الدوران العام، بناء على سيناريوهين للإنبعاثات، وقدرت التغيرات في تدفقات النيل التي تدخل بحيرة ناصر في 2050 و 2100 في إطار 20 سيناريو محتمل، وفقا للنتائج، يتوقع أن يحدث إنخفاض في التدفقات في 12 سيناريو، وأن تحدث زيادة في التدفقات في 8 سيناريوهات. وتتوقع دراسة أخرى زيادة في معدلات هطول الأمطار بنسبة تتراوح بين 5% و 11%، وكذلك زيادة في معدلات التدفق بنسبة تتراوح بين 7.15% – 23.2% في محطة دنقلا عند مدخل بحيرة ناصر.

ودرست أوراق متعددة ارتفاع مستوي سطح البحر، والخصائص الهيدرولوجية والجيوكيميائية للخزان الجوفي في رأس الحكمة على الساحل المصري للبحر الأبيض المتوسط، وتوصلت إلى أن مناطق كبيرة في المنطقة الساحلية لدلتا النيل ستغرق في مياه البحر، وأن الزيادة في ملوحة المياه الجوفية الضحلة وإعادة استخدام مياه الصرف إلى زيادة تدريجية في المحتوى الملحي لمياه الري في دلتا النيل.

خلاصة الأوراق العلمية تقول أننا نواجه ضغطا هائلا على مواردنا المائية، ومعظم السيناريوهات تتوقع أن تنخفض إيراداتنا المائية بسبب تغير المناخ، وأن تنخفض وتتغير مواصفات المياه الجوفية، وأن يؤثر ذلك تأثيرا هائلا على الزراعة وإنتاج الغذاء، وبالتالي على الصحة والبيئة، والمجتمع والأمن. فما هي استراتيجية مصر للتكيف ولمواجهة تغير المناخ؟

قال وزير الموارد المائية والري، أنه في سياق التكيف مع تغيرات المناخ، قامت الوزارة بإنشاء نحو 1500 منشأ للحماية من مخاطر السيول، وتنفيذ أعمال لحماية الشواطيء بطول يصل إلى 120 كيلومترا، والعمل في أطوال أخرى تصل إلى 110 كيلومترا. إن حماية الناس والحقول والبيوت من مخاطر السيول أمر يستحق الاهتمام بالتأكيد، لكنه لن يزيد من موارد المياه، إلا إذا كان ضمن منظومة متكاملة لإدارة وتطوير تقنيات لحصد مياه الأمطار، كما أن أعمال حماية الشواطيء مفيدة بالفعل لسكان المناطق الساحلية، لكن لن يكون لها أي مردود على ميزان الموارد المائية.

وأضاف الوزير أن الحكومة تعمل من أجل التوسع في إعادة استخدام المياه، وذلك من خلال إنشاء محطات معالجة ثلاثية للمياه، بطاقة تصل إلى 15 مليون متر مكعب يوميا. وكذلك مشروع تبطين الترع والقنوات المائية، والذي يستهدف تحسين شبكة الري والصرف، وبالتالي، توفير 5 مليار متر مكعب من المياه التي يتم هدرها سنويا. إن ترشيد استخدام المياه وتقليل الفاقد عمل محمود بالطبع، لكنه يظل محدودا، وربما لا يكفي، كما أن لا يمكن الاعتماد كليا وإلى الأبد على معالجة مياه الصرف لمواجهة نقص كبير متوقع في الإيرادات المائية السنوية؟

السيد الوزير نفسه قال إن نقص المياه يفرض الحاجة لإعادة استخدامها أكثر من مرة، الأمر الذي يمكن أن يؤدي في النهاية إلى تدهور نوعية المياه، وبالتالي، انتشار الأوبئة والجوائح التي يعاني منها العالم، وقال أن زيادة الضغط على الموارد المائية المحدودة أصلا سوف يؤدي إلى انتشار الفقر وتراجع مستوى المعيشة، الأمر الذي يمثل بيئة خصبة للجماعات المتطرفة، وأن ما يزيد من صعوبة الوضع في مصر، تنفيذ دول حوض النيل لمشروعات أحادية دون اتفاقيات ملزمة وعادلة لتنظيم وإدارة هذه المشروعات، والحد من تأثيراتها السلبية على المياه في مصر.

لست من أولئك الذين يروجون للرعب والكوارث المناخية وسيناريوهات يوم القيامة، الوقت لم ينفد بعد، لم تختبر مصر بعد إمكانات التوسع في مشروعات تحلية مياه البحر، والزراعة بالمياه المالحة، وتقنيات الأمطار الصناعية، ولم تطور بعد نظاما متكاملا لإدارة مياه الأمطار. مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ (كوب -27 ) والمقرر انعقاده في شرم الشيخ في نوفمبر المقبل، يعتبر فرصة لكي يعرض ممثلو القارة الأفريقية المخاطر التي تواجهها القارة في مجال المياه، وأن تسعى مصر لوضع قضية المياه على رأس جدول أعمال المؤتمر، وفي الوقت نفسه، فرصة ذهبية لحوار وطني ديموقراطي واسع يهدف للوصول إلى استراتيجية مصرية للمناخ.