جاءت بداية التنافس الدولي الحديث على المصالح في القارة السمراء. بعد الحرب الباردة وانهيار معسكر الاتحاد السوفيتي. فبحسب العديد من الدراسات، الصادرة عن مراكز أبحاث سياسية تناولت الشأن الأفريقي. تحولت السيطرة على القارة إلى قوى أخرى، خلافا لما شهدته خلال التاريخ الاستعماري الأوروبي التقليدي منذ القرن التاسع عشر. ومؤتمر برلين 1884، الذي قسّم القارة لصالح الدول الأوروبية المستعمرة.

بدأت قوى فاعلة جديدة في المشهد السياسي الدولي. إلى جانب القوى الأوروبية وأمريكا. تفرض سيطرتها وبقوة على القارة كالصين وروسيا وإيران وتركيا والخليج. لكن هذه المرة، في صورة سياسية، تبدو في ظاهرها نوعا من التعاون، وفي باطنها حالة من السيطرة وفرض النفوذ. والتحكم في سياسات وقرارات ومصير شعوب القارة الأفريقية بأكملها.

اقرا أيضا: في يوم أفريقيا.. ماذا وراء “تعطيل” القارة السمراء؟

كانت نهاية الحرب الباردة سببا في تحويل أفريقيا لهدف اقتصادي وسياسي واستراتيجي لأمريكا وفرنسا، إضافة إلى الصين. فأصبحت القارة ملعبا لتحقيق معادلة توازن القوى الدولية.

انعكس ذلك بشكل مباشر على استمرار التوتر والاقتتال الداخلي في معظم بلدان القارة. لا سيما في الغرب والشرق والجنوب، بعد تشويه الموروث الاجتماعي، وتعزيز المشاكل والنعرات القبلية وزرع قيم ومفاهيم غريبة على التراث الاقتصادي والاجتماعي. وهو ما كان السبب الرئيسي في الصراعات والاقتتال المحلي والاقليمي بشكل كبير.

في إطار التكالب الدولي على القارة، باتت أفريقيا أداة في يد النظام الدولي. من أجل تحقيق الهيمنة والسيطرة لصالح الأنظمة العالمية. وهو ما ظهر في أشكال مختلة من الهيمنة الاقتصادية. والتي بدأت ببرامج صندوق النقد والبنك الدوليين، وكانت سببا رئيسيا في تبعية النظم الاقتصادية الأفريقية لسيطرة ورحمة النظام العالمي. إضافة إلى الهيمنة العسكرية التي تتطلب من الدول فرض قوتها العسكرية، وانتشارها في دول القارة. لتبدو وكأنها آلية سلمية لتحقيق الأمن العام، وفرض النظام. لكنها حملت في مجملها نظاما شبة استعماري للتحكم في الأوضاع الأمنية دون تحقيق استقرار، أو القضاء بشكل حقيقي على أشكال العنف والإرهاب المختلفة في القارة. وهو ما يظهر واضحا في القواعد العسكرية الدولية التي تنتشر في دول القارة، بخاصة في منطقة القرن الأفريقي. التي أصبحت مسعى وموطئ قدم لكل القوى الدولية الفاعلة في المشهد العام بالقارة.

مداخل السيطرة الدولية على قضايا القارة

الهيمنة وتأمين المصالح واستغلال الثروات والمواد الأولية قد تكون الأسباب الرئيسية في صراع النفوذ خلال العقد الاخير. وهي الأسباب التي تمكنت القوى الدولية الفاعلة من تحقيقها. باستخدام كافة الطرق والوسائل السياسية والعسكرية والاستخباراتية المشروعة وغير المشروعة. بل، وتم استحداث وسائل جديدة لممارسة سياسات الهيمنة والسيطرة، كالمنظمات الدولية والشركات العابرة للقارات ومتعددة الجنسيات.

يمكن تحديد ثلاث قضايا أفريقية أساسية باعتبارها مداخل للسيطرة الدولية ومبررات للتواجد الدولي. بل، والحصول على حق إصدار القرارات وصياغة السياسات لبلدان القارة. وهي مشكلات الجفاف المتكررة، والحروب، والصراعات الأهلية، وأزمات المياه. والتي يمكن القول بأنها المداخل الرئيسية لتدخلات الدول والقوى الدولية.

تطلبت مشاكل الجفاف المتكررة، والتي خلفت أوضاعا إنسانية مزرية بسبب نقص الغذاء، وانتشار المجاعات، والأمراض. وما ترتب عليها من زيادة أعداد اللاجئين، خاصة في القرن الأفريقي. تدخل قوى دولية عبر منظمات الإغاثة لتقديم الدعم المادي والمعنوي. ولم تكن مجمل هذه المساعدات هدفها حماية الإنسانية، لكن دول عدة اشتكت من تعرضها لضغوط إثر هذه المساعدات -التي كان أغلبها مساعدات مشروطة- بل، وأعلنت بعض البلدان الأفريقية عن امتعاضها من موظفين دوليين يعملون فيها بحجة الإغاثة الدولية. وهم في الأساس يمارسون اعمالا استخباراتية وسياسية.

ويبدو أن النزاعات الأهلية والتي تكاد تكون في ظاهرها مشكلة محلية سببا قويا ومدخلا رئيسيا للتواجد الدولي. فمع تبني العديد من مبادرات التهدئة، ودعاوى الاستقرار السياسي والأمني. عبر منصات الأمم المتحدة، وفي الخطب السياسية. إلا أن هذه النزاعات وفرت مناخا خصبا للقوى الفاعلة في المشهد الأفريقي. بل وكانت هدفا في حد ذاتها لتحقيق مصالح البعض. عبر إتمام صفقات الأسلحة والأنشطة غير المشروعة. كتجارة الأعضاء، والاتجار بالبشر، وتجارب اللقاحات والأدوية على سكان القارة.

المصالح الدولية وإثارة النزاعات

يمكن رصد العديد من حالات الصراع والحروب الضارية التي لعبت فيها مصالح الأطراف الدولية دورا رئيسيا في تعزيزها. كالصراع في جنوب السودان، والذي استمر لسنوات حتى انفصاله عن السودان. والنزاعات في الصومال، وشمال كينيا، وأوغندا، وغرب تنزانيا. والصراعات الممتدة في غرب أفريقيا كمالي. إضافة إلى التوتر بين الدول المجاورة، كالسودان وإريتريا وكينيا والصومال وأوغندا وإثيوبيا والصومال.

ما حدث أدى إلى إنهاك الأنظمة السياسية في هذه الدول، وانصرافها عن قضايا ومصالح شعوبها الأساسية. وانخراطها في صراعات وجهت لها المخصصات المالية دون حلول حقيقية. بل، والاستمرار في حلقة مفرغة تتطلب استمرار التدخلات الدولية. وتفتح الباب لتحقيق المصالح المتعددة، سواء لتجارة الأسلحة، أو السيطرة على القرارات السياسية للدول.

إضافة إلى ذلك، أزمة المياه في مناطق مختلفة بالصحراء الأفريقية والقرن الأفريقي. التي لم تقدم فيها القوى الدولية أي أدوار حقيقة فاعلة لحلها. بل كانت سببا رئيسيا في تعقدها، وتعزيز الصراع حول مصادر المياه لتحقيق أهداف مختلفة. سواء لضمان استمرار طلب الدعم والمعونة منها، أو ترك الباب مفتوحا لإمكانية خلق صراعات ونزاعات تحقق لها مصالح في وقت آخر.

لعل أبرز مثال على ذلك هو حالة حوض نهر النيل. فرغم تبني عدة مبادرات من قبل القوى الفاعلة والمؤسسات المانحة لحل الصراع. وتقديم برامج لتعزيز إدارة المياه في حوض نهر النيل بما يحقق مصالح شعوب المنطقة. إلا أن هذه المبادرات لم تحقق أي نتائج حقيقية، فيما لم تقدم الدول أي استجابات لممارسة أي نوع من الضغوط يمنع اندلاع الصراع. كما يحدث الآن من ترك المجال لإثيوبيا في الهيمنة على مياه النيل، واستمرار بناء سد النهضة، الذي يعرض إمدادات المياه لمصر والسودان للخطر.

ضعف الأنظمة السياسية الأفريقية

أمام هذه الأزمات التي كانت مدخل التدخل الدولي في القارة الأفريقية كانت هناك عوامل ساعدت وعززت هذا النفوذ في مقدمتها تبعية الأنظمة السياسية وظهور الانتماءات والولاءات الشخصية لزعماء أفارقة لصالح قوى غربية أو شرقية بعينها في مواجهة مصالح قوى أخرى، والأمثلة على ذلك كثيرة بداية في سعي قادة الانقلابات العسكرية في تقديم الولاء لدول أجنبية للحصول على ظهير وشرعية دولية ودعم من أجل الاستمرار في السلطة مقابل فتح المجال لهذه الدول للتصرف كما تشاء في بلادهم، مثل ما حدث ويحدث في مالي والصومال والسودان.

ويمكن القول إن ضعف الأنظمة السياسية الأفريقية في تحقيق التكامل. والاندماج الوطني الكامل، بين القوميات والإثنيات المتعددة والمختلفة داخل الدولة الأفريقية. كان سببا في تسهيل النفوذ الدولي أيضا، فرغم تبني مبادرات لوقف الاقتتال والحروب الأهلية، كانت هذه الحروب أداة للقوى الدولية الفاعلة في استمرار وتعزيز نفوذها. ومدخلا لاستمرار التدخل في الشئون الداخلية للدول الأفريقية.

اقرأ أيضا: في يوم أفريقيا.. الأمن الغذائي بؤرة مشاكل القارة

ملامح الحرب الباردة في القارة الأفريقية

مع القرار الأمريكي بإنشاء قيادة عسكرية خاصة بالقارة الأفريقية، في إطار السياسة المتعلقة بمكافحة الإرهاب. ومواجهة النفوذ الصيني والإيراني المتعاظم في القارة الأفريقية، ومواجهة النفوذ الفرنسي التقليدي. بدا مراقبون يتحدثون عن ملامح حرب باردة بالوكالة على الأراضي الأفريقية.

حيث أصبحت السياسات الأمريكية والحضور الأمريكي في المناطق الاستراتيجية بالقارة -كالقرن الأفريقي- أمر واقع سياسيا واقتصاديا وعسكريا. فيما تمكنت أمريكا من تكوين قاعدة سياسية من الأنظمة الحاكمة تابعة لها في مواجهة قوى أخرى كفرنسا والصين. وتشكيل محاور إقليمية في شرق ووسط أفريقيا، كجيبوتي وكينيا وأوغندا وتنزانيا وإثيوبيا.

وسعيا لتحقيق الهيمنة والنفوذ الأمريكي، انتهجت الإدارات الأمريكية سياسات اللعبة المزدوجة. مع أطراف الصراعات في الدول الأفريقية. وذلك من خلال صفقات الأسلحة، وخدمات التدريب، والإمدادات التقنية، والفنية، واللوجستية، للأطراف المتنازعة والحركات المسلحة. وهو ما يتعارض بشدة مع السياسات الأمريكية المعلنة عبر المنصات العالمية. التي تتحدث فيها عن السلام، والاستقرار، وتسوية النزاعات والصراعات في أفريقيا.

النفوذ الدولي في أفريقيا

إلى جانب النفوذ الأمريكي -الذي بات تقليديا- حققت الصين خطوات متسارعة لتكون قوة كبرى في القارة. فهي تمتلك الآن قاعدة سياسية واقتصادية راسخة في العديد من الدول الأفريقية. إلى جانب اليابان، التي تسعى -بشكل أو بآخر- لتعزيز وجودها السياسي والاقتصادي أيضا. وبالطبع، هؤلاء موجودون إلى جانب قوى الشرق الأوسط، التي اتخذت من الأراضي الأفريقية محلا جديدا لنقل الصراع فيما بينها. ولعل أبرز مثال على ذلك المواجهات التركية والخليجية والإيرانية. وسياسات تكوين الأحلاف في دول القارة الأفريقية.

ومما يعزز كون القارة الأفريقية أرضا محتملة لاحتدام الصراع الدولي، انعكاسات الحرب الروسية- الأوكرانية التي أظهرت التنافس الدولي على أفريقيا إلى حد كبير. حيث سعت روسيا لاستغلال نفوذها لدى أحلافها في القارة لدعم مواقفها وتحركاتها ضد أوكرانيا. خاصة مع ما قدمته من دعم عسكري وإمدادات السلاح، والدور الذي لعبته شركة “فاغنر” الأمنية في توسيع النفوذ الروسي. من خلال الدعم اللوجيستي والفني العسكري، والذي يصل إلى 10 دول أفريقية على الأقل. من بينها السودان وزيمبابوي وإجولا ومدغشقر وغينيا وموزمبيق والكونغو الديمقراطية. لم يكن القطاع العسكري فقط هو ما سعت له روسيا لتعزيز نفوذها، بل تأمين مصالح اقتصادية. من بينها حراسة مناجم الذهب والماس واليورانيوم، وحقول الطاقة من نفط وغاز.

الاتحاد الأفريقي وضعف أدوات الحماية

في ذكرى يوم أفريقيا 25 مايو/أيار، الموافق لتأسيس منظمة الوحدة الأفريقية -قبل أن تتحول إلى الاتحاد الأفريقي- كانت كلمات قادة وزعماء الدول الأفريقية تتحدث عن دور مأمول لدعم قضايا الدول الأعضاء. خاصة ما يتعلق بالملفات السياسية والأمنية والاقتصادية، انطلاقا من المبدأ الذي يتبناه الاتحاد الأفريقي وهو “حلول أفريقية للمشكلات الأفريقية”. وهو ما كان أساسا لهيكل مجلس السلم والأمن الأفريقي. الذي يسعى للوقاية من النزاعات المحلية والبينية بين دول الجوار، واعادة إعمار المناطق المتأثرة بالنزاعات، وتبني اليات التسوية التفاوضية.

مع الخطب والأهداف المعلنة يبقى شح الموارد وقلة الإمكانيات والأدوات الاقتصادية والسياسية للاتحاد. عائقا أمام حماية القارة الأفريقية من تبعات السيطرة والتنافس الدولي. خاصة وأن قادة دول الاتحاد بأنفسهم مشاركين -بشكل أو بآخر- في دائرة النفوذ الدولي، في ظل تفشي ظاهرة الأنظمة التابعة والراعية لمصالح القوى الدولية في أفريقيا.

ولعل أبرز مثال على ضعف قوة الاتحاد الأفريقي، في تنفيذ الأهداف والبرامج التي تعزز السلم وتحقق الاستقلالية. هي فشل تنفيذ مبادرة إسكات البنادق، مع وجود أصحاب المصالح الذين حالوا دون تنفيذ هذه المبادرة. مع ارتباط أنشطة الجماعات المتمردة أيضا في أنحاء عدة في القارة -في الساحل والصحراء، وحوض بحيرة تشاد- بالتحولات والأنظمة السياسية في بلادهم. واستمرار سقوط الدول في الصراعات العنيفة، التي كانت الكوارث الطبيعية أحد أسبابها أيضا.

وتبقى “التمويل” أحد أهم المعوقات لتنفيذ برامج الاتحاد الأفريقي. وهو ما تشكو منه دائما مفوضية الاتحاد، مع ضعف مساهمات الدول الأعضاء في تمويل البرامج.

محاولات أفريقية

بشكل أو بآخر، يحاول الاتحاد الأفريقي تحقيق بعض الإنجازات. وإن كانت محدودة في القضايا السياسية المتعلقة بالحكم الرشيد، وآليات الديمقراطية، أكثر من السلام والأمن. الذي يتداخل فيه مصالح العديد من الدول الفاعلة في المحيط الأفريقي.

إذ كانت بعض العقوبات، التي فرضها الاتحاد في مواجهة ظاهرة الانقلابات العسكرية. تحظى بنوع من التأثير، وإن كان محدودا، في القضاء على هذه الظاهرة في أفريقيا. وإذا نظرنا للأسباب، نجد أيضا أن تأثير النفوذ الدولي، ونجاح الأنظمة الانقلابية في تبنى وحماية بعض الأطراف الدولية وتحقيق مصالحهم. سببا في حماية هذه الأنظمة غير الشرعية، حتى وإن رفض الاتحاد الأفريقي الاعتراف بها شكليا.