تعيش السياسة في مصر أزمة حقيقية، بعد أن تحول بحر السياسة وما به من تيارات تتحرك في اتجاهات متباينة أحيانا ومتداخلة كثيرا، إلى بركة راكدة، أسن ماؤها، وتحجرت شواطؤها، وسكنت أحياؤها في القاع بحثا عن الأمان، جاءت دعوة الرئاسة المصرية الى “الحوار” حول أولويات العمل الوطني وفي مقدمتها “الإصلاح السياسي” لتكون بمثابة حجر ألقي بماء البركة فأثار موجات متراكبة ومتعددة، أعاد بعض الحيوية إلى الماء وحمل الأمل إلى “أحياء القاع”، فتحرك كل منهم بحثا عن سربه، مولدين تحركات عشوائية جديدة تثير مزيدا من الاضطراب.
ما حدث خلال الأسابيع الماضية على خلفية دعوة “الحوار الوطني” من تحركات سياسية ربما تكون مهمة بنفس قدر أهمية الدعوة، إذا ما نتج عنها إعادة ترسيم للخريطة السياسية التي اهترأت بفعل الزمن وغياب اللاعبين.
كانت الحركة المدنية بالطبع أول الكيانات السياسية تفاعلا مع الدعوة، باعتبارها الجبهة الوحيدة المتبقية من إرث المعارضة، ولكن يبدو أن الحركة التي اتفقت من قبل على مواقف سابقة مثل معارضة اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، كما اتفقت على رفض التعديلات الدستورية في عام 2019، يبدو أنها هذه المرة لن تتفق على رؤية محددة حول شكل “الإصلاح السياسي” المنتظر، أو حتى تصور تأسيسي لمجموعة من المبادئ تتفق عليها المعارضة والدولة، تكون نواة لجولات جديدة من الحوار حول فتح المجال العام.
أتصور أن ما بالحركة المدنية من تناقضات، ظهرت جلية في الخلاف حول الموقف من المشاركة في انتخابات برلمان 2020 ضمن “القائمة الوطنية”، قد يزداد ظهورها حدة خلال جلسات الحوار المنتظرة، فإن وجود جبهة تجمع المعارضة المدنية بكل أطيافها هو أمر –على ضرورته- يزداد صعوبة يوما بعد يوم.
إن التحرك العاجل من قبل المعارضة المدنية لإعادة تنظيم صفوفها هو ضرورة تفرضها اللحظة، ومسئولية سياسية تقع على عاتق كل الفاعلين السياسيين من كيانات وشخصيات مستقلة، ولكن التجمع بغرض التجمع أو بمنطق “العزوة” قد يشكل تهديدا بالانقسام أمام النظام والجماهير في أول ظهور للمعارضة بعد أعوام من الاختفاء والاحتماء بالظل.
بالطبع عملية بناء تنظيمات سياسية تستوعب المعارضين، أمر في غاية الصعوبة ويتطلب من الجهد والوقت الكثير، خاصة بعد سنوات عجاف، غابت فيهم السياسة وانهارت بقايا التنظيمات القديمة، ولكن كخطوة أولية يجب أن تقدم المعارضة المدنية رؤية موحدة حول أبرز قضايا “الحوار الوطني” وتحديدا ملف “الإصلاح السياسي” و”الحريات المدنية”، الرؤية يجب أن تكون واضحة ومحددة بخطوات تنفيذ وبدائل معقولة لسياسات الدولة في هذه الملفات تحديدا، كما يفترض أن تصيغ المعارضة خطابا سياسيا نابعا من رؤيتها لتلك الملفات، قادرا على إقناع الجماهير بأهمية العمل السياسي وقدرته على تحقيق مكاسب في ملفات كان يراها المواطنون ثانوية، ولكن أثبت الزمن أحقيتها لتكون أولى الأولويات حاليا.
طبيعي أن تتكون في هذه اللحظات تشكيلات سياسية من جبهات وائتلافات تنحل بعد فترة زمنية لتتشكل أخرى، تلك طبيعة العمل السياسي، ولكن يجب أن يتم بناء التشكيلات على رؤية محددة وأهداف قصيرة المدى حتى ولو انتهت بانتهاء هذه الجولة من الحوار، بدلا من أن تتشكل بفعل المصالح والمعارف.
دعوة الحوار تضع المعارضة في مسئولية لا تقل بأي حال عن مسئولية النظام، ورغم غياب السياسة في السنوات الماضية، إلا أن جمهور السياسة في بلادنا وتحديدا من جيل يناير الذي قاد الثورة وحقق التغيير، لا يزال جمهورا واسعا، كما أن متابعة الشارع لتحركات السياسة لا تقل عن متابعته لشئون الاقتصاد، فقد تعلم الجميع أن حياتهم اليومية تتأثر بشكل مباشر بكل ما يحدث في السياسة والاقتصاد.
رغم انشغال المعارضة في هذه اللحظة بلوجستيات الحوار، ومناقشات حول الجهة التي سوف تديره وتصوغ مخرجاته، أعتقد أن الأهم هو أن تظهر المعارضة بمظهر يليق بما دفعته من أثمان، وأن تملك رؤية واضحة حول ملفات بعينها وتقدم خطابا محددا حول سبل تنفيذ تلك الرؤية، وألا تنساق في خلافات جانبية بعضها مصطنع حول بيانات وأرقام وتفاصيل الاقتصاد والعمل التنفيذي داخل الدولة.
الأهم من عدد المشاركين من المعارضة في جلسات الحوار، أن يمتلك هؤلاء المشاركون ما يقدمونه داخل تلك الجلسات، وأن تدعم المعارضة ممثليها داخل الحوار، فلنحاول أن نظهر متفقين في لحظات الكلام كما كنا خلال سنوات الصمت.