ربما لم ننشغل في العالم العربيّ –بما يكفي- بتأثير التكنولوجيا على قيمنا ومفاهيمنا وتصوراتنا، وحتى على علاقاتنا الاجتماعية فيما بيننا كأفراد ومجموعات صغيرة.. لقد تعالمنا مع التكنولوجيا بوصفها أدوات محايدة، ومخترعات تجعل حياتنا أسهل، وذلك مقابل حذر واضح أو تشَكُّك في كثير من الأفكار والنظريات والقيم. والحقيقة أن التكنولوجيا ليست أداوت محايدة، بعد أن طبعت العالم بطابعها، وأعادت هيكلة القيم وكثيرًا من العادات والتقاليد، يمكنك بالتأكيد أن تتحدث عن “تنميط عالميّ” آخذ في التمدد والانتشار، بل يمكنك الحديث هرولة عالمية نحو التكنولوجيا بكل أشكالها ومستوياتها، يطلبها الصغار والكبار، والجادون والهازلون..!
ومجتمعاتنا تعيش عالم التواصل والتقنيات الفائقة منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمان، وهناك كتابات كثيرة حاولت الاقتراب من هذه الظاهرة ودراسة تأثيراتها الاجتماعية، ولكنها– أي هذه الكتابات- لم تنتقل من أفق التداول النخبوي إلى تشكيل الوعي العام باللحظة الحضارية المعيشة، وما يترتب على ذلك الوعي من قدرة على بلورة الموقف الثقافي والحضاري عامة مما يحدث في العالم باعتبارنا جزءًا منه، نتأثر بما يجري فيه، بل وتُفرض علينا قضايا التكنولوجيا واشتراطاتها باعتبارنا جماعة من المستهلكين لها، ولا نسهم في إنتاجها بأدنى قدر.
نحن أمة مستهلكة للتكنولوجيا، والاستهلاك في حد ذاته قيمة سلبية، تتجاوز الفرد إلى الجماعة، خاصة بعد أن بات سلوكا عامًا؛ فلكل سلعة دلالة أو دلالات محددة تتصل بموقع الفرد في منظومة الاستهلاك، فمن يستهلك أعلى يكتسب قيمة مضافة، والتقنيات لا تشترى أو تقتنى من أجل وظيفتها أو قدرتها على تيسير الحياة فحسب، وإنما تشترى من أجل قيمتها الاجتماعية التي تضفيها على الفرد داخل الجماعة المستهلكة والتي تترقب أحدث الإصدارات من كلّ جديد، ليس لأنه مفيد، وإنما لأنه سيمنح الفرد داخل النَّسق الاجتماعيّ قيمة ..!
كهف البروفايل
ولعلّك لست في حاجة إلى من يدلُّك على تأثير تقنية مثل الهواتف الذكية أو التليفون المحمول على حياتنا، كما أنك لست في حاجة إلى من يدلك على تأثير العالم الافتراضيّ الذي ما كان له أن يغزو حياتنا ويسيطر عليها إلا بسبب الانتشار الموسّع لهذه الهواتف وتأثيرها على تصوراتنا، لقد بتنا أو بات أغلبنا يقضي ساعات من يومه متوحدًا مع كهف البروفايل على وسائل التواصل، هناك عالم بديل يصنع من تصورتنا أو وفق تصوراتنا، وهي تصورات تميل غالبًا إلى التفاعل مع من يشبهوننا أو من يتفقون معنا في الميول والنزعات، وهذا ما يجعلنا نعيش أسرى التكرار وسجن الكهف.
قيْد التكنولوجيا
هناك تصوّر يرى أن التكنولوجيا تُحرِّر الإنسان من أسْر الضرورة ومن طغيان الاستبداد وهيمنة المركز… وهذه مسلمة تحتاج إلى بعض المراجعة؛ فكثير من العبارات تردد ويلحّ عليها حتى تغدو حقيقة يصعب مراجعتها، أو الانتباه إلى ما فيها من تناقض، وبالتأكيد يمكنك أن تتخيل الجهات التي تقف وراء عبارات مثل هذه.. والتجربة تعلمنا أن كلمة الحرية حين تخرج من أفواه السادة أو أصحاب رؤوس الأموال فإن ذلك يكون لأغراض أخرى، ليس من بينها حرية الإنسان وأسْر الضرورة…!
واللافت أن الأفق التعبيري والتخييلي الذي منحته تكنولوجيا التواصل قد امتد أمام الإنسان على نحو غير مسبوق، ولكنه امتداد افتراضي، ولك أن تقول إنه امتداد وهمي، يجري في خيال المستخدم أو المستهلك فقط. فهناك من يجلس خلف الستار البعيد/ القريب ويدير كل شيء، إنه هناك كما أنه هنا، يراقب همومك وانشغالاتك ويسألك إن كنت تفكر في أمر ما، إنه قريب جدًا وملحاح أيضًا، يُحرِّضك على الفعل والمشاركة، ينتظر منك معلومة ما أو شعورًا ما، لا شيء هنا دون مقابل، ولا توجد معلومة لا قيمة لها أو تافهة، فما هو تافه بالنسبة إليك له قيمته المقدرة بالنسبة لغيرك.
لقد تمكنت الشركات الكبرى من السيطرة على الإنسان ومعرفة احتياجاته عبر هذا الأفق الوهمي أو المتخيل الذي تظن أنه يحررك. لقد أطلقت العنان لقواك النفسية والتخييلية كي تجذبك إليها أكثر، وتشدُّ الوثاق على يديك وساقيك أكثر، بحيث يبدو الإنسان المعاصر أقرب إلى الكائن المربوط إلى حَبْل قويّ، ولكنه حبل غير مرئي، لا يراه سوى هؤلاء الذين يديرون هذه الشركة العملاقة التي صرتَ جزءًا منها، أو مستخدمًا فيها، ولكنك لن تتلقى راتبًا منها كما يفعل المستخدمون التقليديون، فالمفارقة هنا أنك المشتري وأنت البضاعة أيضًا..!
فالذين يديرون واقعك أو رغباتك يقبعون في مكان ما، يحتسون الشراب ويراقبونك، ولديهم سِجلّ خاص بك، فيه من المعلومات ما يعزّ عليك تذكره أو الاحتفاظ به، وهذه المعلومات تقوم على ترتيبها وتحليلها أجهزة عملاقة.. ويمكنهم أن يمنحوك علامة تحدد ما إذا كنت مواطنًا صالحًا من عدمه، والصلاح والفساد أمران نسبيان، ولا حق لك في تعريف الصلاح أو الفساد؛ فأنت مجبر غير مختار؛ فهناك من يعرف الصلاح ومن يعرف الفساد بالنسبة إليه، وطبقًا لمصلحته ومنفعته.. وأنت مجرد رقم، أو نمط، لا أحد يعرفك بهويتك، ولا أحد يأبه لرغباتك الفردية، ولا ثقافتك وقيمك.
باختصار، لقد صرت مقيدًا في الوقت الذي تظن فيه أنك حر، بل صرت مقيدًا كأعظم ما يكون القيد، فلا مجال لك هنا للتعبير عن نفسك إلا وفق المعايير التي تضعها الشركة ومن يديرونها أو يمولونها أو يستفيدونها من خزانتها الهائلة بالمعلومات، لقد صار كل شيء سلعة، ولكل سلعة ثمن ..!
ولعلك– أيضًا- لست في حاجة إلى من يذكرك بمن يقف خلف هذه التكنولوجيا من عتاة الرأسماليين في العالم، وسوف تخطئ بالتأكيد إن تصورت الأمر مؤامرة رأسمالية علينا أو على غيرنا من الشعوب، فالحقيقة أنه ليس بإمكان أحد إيقاف انتشار التكنولوجيا، هذا عالم وقع في قبضة الرياضيات منذ عقود طويلة، أو لنقل مع “عبد السلام بنعبد العالي”: إنه لقدر تاريخي اندلع يوم اتخذ الوجود صبغة رياضية”.
الواقع الافترضي.. الأصل والصورة..!
لقد فرضت علينا تكنولوجيا التواصل واقعًا جديدًا، أو قل ثنائية جديدة، ولكنها ليست ثنائية واضحة مثل: الحق والباطل، وإنما هي ثنائية مدمجة أو تقدم إليك كذلك، إنها: الواقع/ الافتراضي.. وهي ثنائية تثير من الالتباس والقلق بأكثر مما تثير من الكشف والاستبصار، فالدمج بين الواقعي والافتراضي لن يخلق واقعًا جديدًا، وإنما سيعيد تعريف الواقع بالنظر إلى قرينه الافتراضي..!
وهنا سيكون من الصعب أن نبحث في منطق الأشياء أو المعايير.. لقد بات كل شيء مقبولا ومباحًا، نشاهد الظواهر اللغوية والاجتماعية والثقافية والفنية تبرق ثم تختفي، أو تتحول الظاهرة ذاتها إلى غيرها، فنحن نشاهد مثلا أغاني خارج المعيار أو القاعدة، تحتل الساحة وتشغل الناس، ولا أحد يعرف أين الأصل وأين الصورة أو أين المعيار أو أين الخروج عنه… هناك مساحة من الالتباس تحيط بكل شيء، وتجعلنا غير قادرين على إدراك الظواهر أو فهم موجاتها المتتابعة ..!
لقد بات الواقع نفسه موضع نظر، فتأثير “الافتراضي” عليه أكبر مما نتخيل، ولم تعد المسافة بينهما مفهومه، وطموح التكنولوجيا لا يقف عند حد، إنها تستثمر في كل شيء وتغزو حياتنا بوعود جديدة لا تتوقف، لم يعد الدمج بين المتخيل والحسي حلمًا، ولم تعد المساحة البينية بين الواقعي والافتراضي حلمًا، لقد صار بمقدور أي منا قضاء ساعات طويلة في هذه المساحة = مساحة الــ”بين بين” ..!
لا توجد دراسات جادة تحاول مقاربة هذا الأفق الجديد، على تفاصيل حياتنا، وفهمنا لوجودنا… ولا يمكننا الحياة بعقلية من ينتظر النتائج ثم يفكر أو يصرخ حين يشاهد أثرها.. إن العالم القديم يتقوض من حولنا دون أن نعرف طريقنا نحو العالم الجديد، لن يحدثنا أحد، ولن يطلب إذننا أحد..!