مرت السياسة المصرية إزاء دول الخليج بمنحنيات وانعطافات عدة. عكست في فترات الصعود تعاظم الدور المصري وعلو كعب السياسة المصرية على ما عداها في المنطقة العربية. سواء في المرحلة الملكية، أو ما تلاها عقب ثورة يوليو/ تموز 1952 من بروز دور إقليمي كاسح لمصر بالمنطقة. في ظل تعاظم الخطاب القومي العربي في عهد عبد الناصر، لتنتهي بوفاته مرحلة وتبدأ مرحلة جديدة واكبت الطفرة النفطية والارتفاع المتعاظم في أسعار البترول عقب حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973. والتي منحت الدول الخليجية وبالأخص السعودية مكانة بارزة في النظام الإقليمي العربي. رآها البعض خصما من المكانة التقليدية المهيمنة لمصر داخل النظام العربي. إلا أنه رغم هذا التراجع في الدور المصري والتقدم في الدور الخليجي الذي أحدثته أموال البترول دولار المتعاظمة الأثر والتأثير. فإن العلاقات على جانبي معادلات العلاقة ظلت توصف بالاستراتيجية رغم عدم خلوها في أكثر من ملف حيوي ورئيسي من توترات يفرضها التنافس حتى لو كان تنافس المتحالفين.
ويمكن الإشارة لملفات الاختلاف في قضايا تهم الجانبين مع تباين في درجة الأهمية، يتصدر الأهمية ملف سد النهضة. فلا بد وأن القاهرة لم تكن لترتاح لعدم تقدير الخليج لمدى حيوية وخطورة هذه القضية. وتراخي دول الخليج (الإمارات والسعودية) في بذل ما يمكنهما من نفوذ على أديس أبابا لتليين موقفها من هذا الملف إزاء مصر. وعلى الناحية المقابلة فإن الدول الخليجية وبالتحديد الرياض وأبوظبي كانا يؤملان على دور مصري أكثر تداخلية وتفاعلا مع ملفي الحرب في اليمن. والتوترات الدائمة مع إيران.
وهنا رصد للتقاطعات والتحالفات بين مصر ودول الخليج، والتمايزات التي فرضها تنافس المتحالفين. وذلك عبر محطات ومراحل زمنية وتفاعلات الأحداث التي مرت بالمنطقة العربية في تاريخها الحديث وسياساتها المعاصرة والحالية.
اتجاهات التعاون
بالطبع تهيمن اتجاهات التعاون على العلاقات المصرية الخليجية ويفترض أن تمثل متنها الأساسي. حتى لو برزت بين مرحلة وأخرى عناوين الاختلاف والتوتر والتنافس إلا أنها ستظل دون تأثير محوري على مجالات التعاون. مهما كانت درجة بروز وتصاعد هذه التباينات، كما جرت الأمور في مرحلة ما بعد عبد الناصر.
ورغم حدة الخلافات المعروفة والشهيرة مع الحكم الملكي السعودي تبني عبد الناصر مواقف داعمة لدول الخليج. حيث رفض سعي العراق في عهد “عبد الكريم قاسم” نحو ضم الكويت. كما ارتبط عبد الناصر بعلاقات وثيقة مع الإمارات خلال ولاية زايد آل نهيان. واحتفظت مصر خلال رئاسة ناصر بمكانتها كقوة مهيمنة في النظام الإقليمي العربي حالت دون تنامي النفوذ السعودي.
ومع وفاة الرئيس عبد الناصر عام 1970 والطفرة الهائلة في أسعار النفط بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول1973 وتولي الرئيس السادات. واتخاذه سياسات أكثر تقربا من دول الخليج المحافظة قادت دول الخليج مواقف داعمة إلى جوار مصر. حيث أصدر الملك فيصل بن عبد العزيز ملك السعودية قراره خلال حرب أكتوبر بقطع إمدادات البترول عن الولايات المتحدة والدول الداعمة لإسرائيل. ولكن توترت العلاقات المصرية الخليجية إثر قيام مصر بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978. ولكنه من هذا النوع من التوتر العلني الذي لا يفسد لعلاقات التحالف الذي يصح وصفه بالاستراتيجي قضية. بحكم تشارك الجانبين في التوجهات السياسية العميقة من حيث الارتباط مع السياسات الأمريكية، والتوجهات الاجتماعية المحافظة في الداخل. فكان طبيعيا أن تكون للميول التعاونية الغلبة حتى لو لم تظهر على السطح.
واستمر هذا الميل مع وصول الرئيس مبارك إلى الحكم، حيث بذل جهودا ملموسة لإزالة هذه التوترات السطحية مع الخليج. وبالفعل عادت العلاقات الرسمية بين مصر والسعودية في عام 1987. كما نجح في إنهاء تعليق عضوية مصر بالجامعة العربية وكذلك عودة مقرها إلى القاهرة في 1989. ومثلت حرب الخليج الثانية “ما سمي حرب تحرير الكويت” في 1990 تتويجا للتوحد في الرؤى الاستراتيجية بين مصر والخليج. حيث شاركت مصر في التحالف الدولي الأمريكي لطرد القوات العراقية من الكويت في عام 1991. ومنذ ذلك الحين، اتسمت علاقات مبارك مع دول الخليج بصبغة تحالفية وثيقة لا يعكر صفوها أية تباينات أو اختلافات على وجه العموم.
وبعد انتهاء حكم مبارك عام 2011 شكلت فترة حكم الإخوان القصيرة مرحلة من التوتر في علاقة مصر بدول الخليج. حيث وجه الرئيس “محمد مرسي” بوصلة سياسته الخليجية نحو قطر –القريبة من إيران-، وقام بزيارة تاريخية إلى إيران في 2012. كما استقبل رئيس إيران “أحمدي نجاد” في القاهرة، واعتبر “مرسي” إيران شريكا في المنطقة. وأكد على حق إيران في امتلاك الطاقة النووية، وسعى لعلاقات وثيقة مع الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”.
ومع تولي الرئيس السيسي أعاد الأمور إلى ما كانت عليه مع دول الخليج مع حرص على تدعيم التحالف بدول الخليج الرئيسية “السعودية والإمارات”. وهو ما رحبت به بشدة الدول الخليجية، وقدمت إلى مصر صورا مختلفة من المساعدات. وخلال الفترة بين يوليو/ تموز 2013 وأغسطس/ آب 2016، قدمت الإمارات والسعودية والكويت حوالي 30 مليار دولار من المساعدات.
اتجاهات التنافس والتباين
إلا أن هذا التعاون والانسجام والتناغم الاستراتيجي شبه التام والكامل في علاقات مصر ودول الخليج لم يحل دون بروز أوجه للتباين والتنافس. بل والتوتر المكتوم بين توجهات السياسات المصرية والخليجية إزاء ملفات شديدة الأهمية. والمفارقة أنها تحديدا مست ملفات يمكن وصفها بالاستراتيجية. ولكنها كما أسلفنا لم تكن لتؤثر على “التحالف الاستراتيجي العميق” بين الجانبين حيث تتشابه سياستهما الداخلية “المحافظة” والخارجية “الارتباط مع الولايات المتحدة” في العموم.
ويمكن الحديث عن ثلاثة ملفات أساسية برز فيها هذا التباين وظهر إلى السطح والعلن. وهي حرب اليمن والموقف إزاء إيران وسد النهضة.
أولا: حرب التحالف الخليجي في اليمن: فرغم توجس مصر وعدم ارتياحها وتخوفها من سيطرة الحوثيين المرتبطين بإيران على مناطق واسعة من اليمن. فإنها لم تكن لتجمح أو تتغول في سياساتها الرافضة للحوثيين والنفوذ الإيراني في هذا البلد. فهناك حسابات دقيقة ومحددات للموقف المصري. أهم هذه المحددات أنه رغم أي دعم للسعودية والإمارات في الحرب في اليمن. فإن هذا الدور لا يمكنه أن يصل عتبة إرسال جنود مصريين للمشاركة إلى جانب قوات السعودية والإمارات. وهنا تذكر الخليجيون تعبير “مسافة السكة” الذي أطلقه الرئيس السيسي عن إمكانية إرسال مصر لقوات للدفاع عن الدول الخليجية حال تعرض أمنها أو وجودها للخطر. ويتضح هنا تقدير مصر أن حرب اليمن لا تشكل تهديدا وجوديا لدول الخليج وهو التهديد الذي يستدعي تفعيل مفهوم “مسافة السكة”. وهو تقدير يتقاسمه العديد من الاستراتيجيين والعسكريين في المنطقة وخارجها. وبالطبع فإن الخليجيين كانوا راغبين لأن يروا جنودا مصريين في اليمن. ولكن ليس بالرغبات تقرر السياسات الاستراتيجية.
الملف الثاني: وهو الموقف من إيران وهو لا ينفصل عن السابق، بل إن هذا “السابق” هو أحد توابعه وتجلياته. وبنفس المنطق فإن دول الخليج كانت تؤمل في درجة عداء متصاعدة ضد إيران من جانب مصر. إلا أن القاهرة وإن كانت تعارض بشدة أي توسع لدول الجوار العربي “تركيا- إيران”. إلا أن لهذه المعارضة -بسبب توسع الدور الإيراني- حسابات دقيقة لا يندرج ضمنها الجموح غير المحسوب ولغة الخطاب البالغة أقصاها في القدح والذم. وهذا التحسب يفرضه التموضع الجغرافي المصري وتقدير القاهرة أن فرص التفاهم مع إيران لا زالت ممكنة. وهو تقدير ربما يضفي عليه قدر ليس قليلا من المصداقية المفاوضات الإيرانية السعودية الجارية في بغداد.
الملف الثالث: الملف الأبرز في سجل التوترات والتنافسات في خضم العلاقات المصرية الخليجية هو ملف سد النهضة الإثيوبي. فتوجسات ومخاوف الرأي العام في مصر من وجود سياسات خليجية مساندة بدرجة أو بأخرى للسياسات الإثيوبية في هذا الخصوص. لا بد لها وأن تنعكس على السياسات المصرية الرسمية بشأن السد، ومن يروج أو يبدو أنه مساند له. خاصة إذا كان هذا المساند طرفا يرتبط بعلاقات مع مصر توصف بأنها استراتيجية مثل دول الخليج العربي.
أمور أخرى: وإلى جانب ذلك أيضا على الجانب المصري يروج أو يمكن استخلاص أن هناك تحفظات “رسمية” على الاندفاع الخليجي في التطبيع مع إسرائيل. خاصة من جانب الإمارات وهو تطبيع تحول إلى احتضان كامل وتماهي كامل مع السياسات الإسرائيلية. وإن كان في هذا الملف هناك من يرون أنه لا يحق للقاهرة إبداء أية تحفظات في هذا الخصوص. باعتبارها كانت أول دولة عربية دخلت في علاقات رسمية وعلنية مع إسرائيل.
وهناك كذلك في معرض رصد التباينات و”التوترات”، السياسات الخليجية تجاه سوريا. فمصر بحكم ارتباطها الوثيق والعميق مع هذا البلد العربي المحوري والشديد الارتباط بأمنها القومي. وانسجاما مع سياستها العامة في الحفاظ على كيانات الدول والابتعاد عن كل ما يخلخل قوامها ووجودها كدول لم يكن لترحب بالسياسات الخليجية السعودية الإماراتية القطرية المندفعة والجموحة في سوريا. وما أسهمت فيه من تهديد وجود سوريا كدولة وكيان سياسي موحد. وربما نفس المنطق ينطبق على ليبيا وما جرى فيها سواء قبل سقوط القذافي وبعده. هذا البلد الذي يمثل أمنه القومي جزءا أساسيا من الأمن القومي المصري، بحكم الحدود الطويلة. فمصر لا بد وأن يقلقها بل وأن يخيفها انهيار الدولة هناك وتحول ليبيا لبلد تسوده الميليشيات. وتهيمن عليه قوى إقليمية ذات توجهات مساندة لجماعات الإرهاب والأصولية.
اتجاهات التوازن
في ظل هذا الرصد للعلاقات المصرية الخليجية التي تتنازعها اتجاهات التعاون والتنافس رغم طابعها الاستراتيجي العام. تبرز الحاجة إلى تسييد رؤية للعلاقات تبتعد بها عن مزالق التوتر الذي قد يدفع أي من طرفي العلاقة. لانتهاج نهج يقوم على التطويع وفي تعبير آخر “التطويق”، للوصول الى مرحلة التبعية من جانب طرف على الطرف الآخر.
وللخروج بالعلاقة مما قد يشوبها بين الحين والآخر من توترات، يطرح المهتمون بالعلاقات المصرية الخليجية خيار التوازن. وتجنيب العلاقة الاستراتيجية الشديدة الأهمية والحيوية لكليهما منحنيات ومنعطفات مطامح ومطامع الهيمنة والتبعية من أي من الطرفين على الطرف الآخر.
ويعزز فرص هذا الخيار ويقويه ويجعله خيارا ممكنا وعمليا ما ظهر في الآونة الأخيرة. من متغيرات ساهمت في إعادة ترتيب التوازنات الإقليمية في منطقة الشرق الٍأوسط. بعضها دولية تتمثل في تراجع أهمية الشرق الأوسط بالنسبة للإدارة الأمريكية في عهد جو بايدن. وقيام الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها على النسق الدولي وترتيب التحالفات العالمية. ودور الشرق الأوسط وخاصة الخليج والدول النفطية وولاءاتها في هذه الحرب.
إلى جانب عدد من المتغيرات الإقليمية، والتي دفعت السعودية والإمارات نحو تصفية خلافاتهما، مع قطر بعقد اتفاق العلا. وتهدئة التوترات مع تركيا وعقد اتفاقيات اقتصادية معها وعودة العلاقات للمسار الطبيعي والتطبيعي. ومؤخرا استقبال الأسد في الإمارات. وأيضا بروز بوادر تحسن في العلاقات بين تركيا ومصر.