في حوارٍ متلفزٍ مع الإعلامي والمثقف الفلسطيني الكبير الأستاذ “عارف حجاوي” سُئل عن كُتّاب التاريخ المعاصرين الذين يفضل القراءة لهم، فأجاب على الفور، وبدون تردد: لا أحد.
الأغرب أنه قال بحسرة: نحن نبحث عمن يكتب لنا تاريخنا العربي، وأضاف: عن نفسي أقرأ لأجانب حتى تكتمل الصورة لديَّ، وأنصح من يريد الحصول على صورة واضحة عن تاريخنا المعاصر أن يطلع على كتابات متعددة لكتاب متعددين.
قبل أن ينهي الأستاذ “حجاوي” إجابته الصادمة توجه إلى محدثه وقال:
أسألك عن كاتب أو مؤرخ تناول الفترة الناصرية بموضوعية، خذها مني: لن تجد، للأسف الشديد (!).
**
ذكرتني تلك اللفتة الذكية من الأستاذ “حجاوي” بحديث طويل أجريته مع الأستاذ “محمد عودة”، وكنت أحرص على لقائه صباحا في بعض أيام الأسبوع بعيدا عن صخب اللقاء الليلي الذي يجمع أشتاتا مختلفة من الزائرين بينهم مثقفين وكتاب وأدباء وأساتذة جامعيين وفنانين في بعض الأحيان، وكان الكلام في تلك الجلسات لا ينفض إلا في ساعة متأخرة من الليل الذي يجمع كل هؤلاء في بيت وقلب أستاذنا الراحل.
وما زلت أذكر أستاذي صاحب الكتابات التاريخية المهمة وهو يقول لي متحسرًا على فرصةٍ ضاعت منا جميعًا، في ذلك اللقاء الصباحي كنتُ طرحت عليه السؤال: ماذا تبقى من ثورة يوليو؟، وقد نشرت الحوار بعد ذلك في مجلة “الموقف العربي” على ست صفحات، وفي نهاية الحوار وجدته يسرح بعيدا عن أسئلتي ثم يفاجئني بقوله:
ـ هل تعلم أن مواسم الندب السنوية المتكررة بمناسبة وبغير مناسبة ضيَّعت علينا فرصة ثمينة، أنها لم تترك فسحة لكي نباشر نحن في تقييم تجربة ثورة يوليو كما يجب أن يكون التقييم، بدوا جميعًا بكافة انتماءاتهم الفكرية، وانحيازاتهم السياسية، كأن لهم ثاراتٍ مع الثورة.
كان ثأرهم الأكبر مع جمال عبد الناصر، وضعونا طول الوقت في خانة الدفاع، وانقلبت مهمة الدفاع في بعض الأحيان ومن بعض الأقلام إلى التبرير، وعشنا نحن وهم في دوامات متتابعة من التهجم، وسلسلة لا تنقطع من الافتراءات، تواجهها محاولات دؤوبة من الردود، والردود المضادة، حتى ضاعت منا جميعا فرصة تحصيل الدروس مما جرى.
**
كان يتحدث بنبرة أسى وحزن بادية على كلماته وهو يقول: لعبتهم كان قانونها الوحيد في التركيز على السلبيات -وهي موجودة وكثيرة- لكي يضربوا بها الإيجابيات، وهي ضخمة وعظيمة، لم تكن الحقيقة هي مقصدهم، ولا كان الحق هو هدفهم.
قلتُ: كان كل ذلك ضمن مخطط مرسوم يا أستاذنا.
فقال: المخطط مفهوم، بل ومبرر من القوى التي وضعته، هذه القوى أرادت وسَعَت طول الوقت إلى اغتيال عبد الناصر ميتًا، بعدما فشلوا في اغتياله حيًا، كان مطلوبُ واضعي المخطط ألا تكون هناك فرصة أخرى لوجود التجربة من جديد، وقالوها بصريح العبارة: لن نسمح بوجود عبد الناصر جديد في تلك المنطقة من العالم.
ما يؤسف له أنهم استخدموا أدواتٍ من منابع شتى، بعض هذه الأدوات ينتمي إلى قوى سياسية، يسار ويمين، واستخدمت كذلك شخصيات موتوره، وأخرى ليست فوق مستوى الشبهات على صعيد الوطنية.
سكت برهة كأنه يفكر فيما طرحه عليَّ لتوه، وكنت امتنعت على غير عادتي معه- عن التعليق كأني أحسست بهذا الكم من الحسرة الجاثمة على صدره البادية في نبرات صوته على ضياع فرصة إجراء تقويم وتقييم جدي وموضوعي ومنصف لتجربة يوليو في الفترة الناصرية.
**
عاد ليقول لي وهو يضحك:
بس طلعوا هُبل، لو أنهم امتنعوا عن الدخول في تلك اللعبة، لرأوا كيف يكون النقد، كنا علمناهم كيف تكون المسائلة عن الأخطاء التي ارتكبت بحق الثورة نفسها، قبل أن تكون بحق مسيرتنا التاريخية.
كانت فرصة تاريخية سانحة لنقد الثورة من موضع الانتماء إلى مشروعها الوطني التقدمي الوحدوي من عناصر اليسار المصري التي انتقدت الثورة بعيدا عن مواقع العداء لها، أو تصفية الحساب مع منجزاتها، أو الحجر على المستقبل، حتى لا تُعاد مسيرتها مصححةً من أخطائها مبرأةً من خطاياها.
**
راحت القوى المضادة للثورة ولمشروع التقدم العربي منذ اليوم الأول لرحيل عبد الناصر تهدم بمعاول التزييف والافتراء والسطحية كل التجربة بكل ما فيها من محاسن قبل المساوئ، حتى كتب واحد من كبار الكتاب اليساريين كتابًا بعنوان: “هل نهدم السد العالي”، وعنوان الكتاب نفسه يشي بحجم الهجمة التي تتابعت في حملات منظمة وممنهجة للحيلولة دون تصحيح وتطوير المشروع الذي يراد له ألَّا يعود من جديد.
كان من المفترض أن تتفرغ قوى التقدم والاستنارة لتقدم نقدها الموضوعي لتجربة هي بطبيعتها إنسانية، وقد جرت في ظروف دولية وإقليمه ومحلية شديدة التعقيد والثراء، وجدت هذه القوى نفسها في حالة رد فعل مفروض عليها، في مواجهة كل هذه الحملات التي تولى كِبرها اليمين واليمين المتطرف، سواء من جماعات الإسلام السياسي أم من جماعات المصالح التي راحت تتحلق حول مشروع أنور السادات المنقلب على المشروع الوطني الذي تبنته ثورة يوليو، وتحالفت قوى اليمين مع السادات من أجل مسح الخط الناصري بأستيكة الانقلاب على كل توجهاته وانحيازاته وسياسياته[1].
**
فرصة تاريخية ضاعت، وسط أكبر وأشنع عملية اجتراء على التاريخ غير مسبوق، وتزييف متعمد من بعض هذه القوى، ولعلي أستدرك هنا لأقول إنه كان لي شرف التعرف عن قرب بكبار مثل زكي مراد، ونبيل الهلالي، وعبد المنعم القصاص، وفيليب جلاب، وزهدي العدوي الذي تكرم عليًّ بتشكيل تمثال من الصلصال، وكثيرين غيرهم، ولمست لديهم جميعا تقديرا كبيرا لجمال عبد الناصر، وتجربته وانجازاته، ولم يمنعهم الانصاف من أن يوجهوا النقد الشديد إلى الممارسات السلطوية لنظامه، ومع ذلك ظلوا يقدمون المرافعات رفيعة المستوى عن انحيازات وإنجازات عبد الناصر وتوجهاته وسياساته الإقليمية والعالمية.
لم أسمع منهم يوما هذا الفحيح الذي يقطر كراهية لعبد الناصر من بعض خلفائهم، تلك الكراهية التي تجمع هذا النفر من الماركسيين مع الإخوان، وكأنهم أشقاء رضاعة، رضعوا السخط على كل ما يمت بصلة إلى عبد الناصر.
عمومًا لست بوارد الدفاع عن عبد الناصر، في مواجهة هذه الهجمات المتجددة التي تجمع مزوري التاريخ الجدد مع بقايا ماركسيين وقطعان من الإخوان، فقد شهدنا على مدار الخمسين سنة الأخيرة الكثير من الحملات، ورغم ذلك بقي عبد الناصر عصيا على الغياب، حاضرا دائما في الوجدان الشعبي والوطني لا يقدر على تغييبه كل هذا الهراء.
**
على مدار 55 سنة، ونحن نعيش تلك المواسم التي يكثر فيها الندب والبكائيات، وأشهر هذه المواسم وأكثرها رواجًا تجئ مع قدوم شهر يونيو بمناسبة 5 يونيو، وتستمر الموجة في التصاعد حتى نهاية شهر يوليو من كل عام، حتى سماهم أحد كبار كتابنا الساخرين “ندابات يونيو” حيث يبدأ موسم الندب الرسمي كل عام من دون توقف طوال نصف القرن الماضي.
المستغرب أن غدة الكراهية لا تتوقف عن إفراز الصديد، ولا تعرف من ثورة يوليو وتاريخها غير الإخفاقات، وتتفنن في إهالة التراب والسخام على أي إنجاز حققته الثورة لأغلبية الشعب المصري الذي طال حرمانه من المشاركة في ثروات بلادها.
ولبس عجيبًا أن عبد الناصر هو الزعيم المصري الوحيد الذي يناله النصيب الأوفر من نواح الندابات السنوي، يجتمع عليه أعداء الأمس واليوم والغد، حيث تجتمع نادبة الإخوان مع نادبة الماركسيين مع نادبة الموالين للنظرة الغربية للأمور.
**
مع كل موجة من حملات التشوية والتزييف للتاريخ تشعر أن هناك محاولة لخنق الحاضر والمستقبل عبر ذلك تزوير التاريخ وإعادة إنتاجه على مقاس الموقع السياسي من التجربة.
أكثر ما يغيظ في محتويات مواسم الندب السنوية ذلك الجانب الذي ربما لا يدركه الندابون، المتمثل في التمترس الدائم والمستمر تحت لافتة العداء لجمال عبد الناصر والذي يشي بأن تلك النخب لا تحترم على الحقيقة الشعب المصري الذي اصطف طويلًا وراء خيارات عبد الناصر الأساسية، ودعم لفترات طويلة الزعيم الذي أحبه، ومن يطالع مفردات حفلاتهم السنوية سيجدها على الحقيقة تشكك في وعي هذا الشعب، وتضعه في خانة المقهور المستسلم، الذي يستعذب قهره واستسلامه للسلطة القاهرة.
ليس هناك أسوأ من تلك الصورة التي يصدرونها عن الشعب المصري الذي خرج عن بكرة أبيه يوم الرحيل، ولن أذكر خروجه يومي 9 و10 يونيو يرفض الهزيمة ويرفض التنحي، ويعيد تكليف الرئيس بمهمة تحرير الأرض وتطهير النظام من العناصر التي جعلته قابلًا للانهيار.
ولعلنا لم ننس بعدُ هذا الإقبال منقطع النظير على دور السينما التي عرضت فيلم “ناصر 56” بعد مرور أكثر من 15 سنة على رحيل الرجل.
**
لست من هؤلاء الذين يرون أن مرحلة «عبد الناصر» بريئة من كل خطأ، أو أنها مبرأة من أي نقيصة، وإن كنتُ أحسب نفسي على هؤلاء الذين يتمسكون برؤيته الوطنية، ويعظمون مواقفه القومية، وينحازون إلى انحيازاته الطبقية.
لكني أفهم أن هذا العداء السافر المتواصل ليس موجها في الحقيقة إلى شخص «عبد الناصر»، من جانب هؤلاء الذين رضعوا كراهية الرجل، بل هو العداء مع خطه الوطني، وضد توجهه الاجتماعي، وضد تجربته التي يعمل أعداء مصر التاريخيون على ألا تتكرر في أي بقعة عربية مرة أخرى.
والحق أن الطعن المستمر في مسيرة الرجل هو طعن مباشر في هذا الشعب الذي مضى مع «عبد الناصر» في مسيرته الوطنية، وناصره، وأحبه، واعتبره قائد عملية الخلاص من نير الاستعمار وعسف وجور الظلم الاجتماعي الذي وقع عليهم قرونا طويلة، وهو طعن في هذا الشعب الذي خرج عن بكرة أبيه مودعا زعيمه بعد وفاته، متخوفا من المآل الذي يمكن أن يصيبهم في غير وجوده.
**
أحسب نفسي على جيلٍ خرجت طلائعه الأولى مرتين ضد السلطة في عهد جمال عبد الناصر، ثم خرج عن بكرة أبيه مرتين أخريين ضد السلطة في عهد أنور السادات، وكانت القضية الوطنية في كل هذه المرات هي سبب وهدف وغاية ذلك الخروج الكبير الذي سجلته صفحات التاريخ.
كانت القضية الوطنية هي قضية القضايا، وكانت تعني لهذا الجيل معنى مزدوجًا يجمع بين استقلال الأرض واستقلال القرار الوطني، في أعقاب ما جرى في يونيو سنة 1967، رفضت طلائع جيلنا الأحكام التي صدرت بحق قيادات الطيران، رأتها هزلية وتعبر عن ضعف الإدارة السياسية عن تقدير حجم وتأثير الهزيمة العسكرية المهين في الخامس من يونيو، فجاءت المحاكمات العسكرية تنبئ عن أن الأوضاع التي أدت إلى النكسة ما تزال قائمة، وأن وقت التغيير قد حان.
وأدرك عبد الناصر وقتها أن ساعة التغيير قد حانت، وأن الثورة لا يمكن أن تتناقض مع شبابها، ولا مع طموحاتهم إلى التغيير فكان برنامج 30 مارس، وتشكلت حكومة جديدة تحت رئاسته، ودخلت إليها عناصر مدنية كثيرة، وشهدت السنوات الثلاث الأخيرة من عمره ورشة عمل ضخمة، كانت تسابق الزمن من أجل التغيير في الداخل والتحضير لمعركة التحرير على الحدود.
وفيما بعض خرج الجيل مجددًا ضد تلكؤ السادات في حسم قضية الحرب، حتى دخلت قواتنا المسلحة حربها في أكتوبر 1973.
**
«جمال عبد الناصر» تجربة هائلة، فيها الكثير من الإنجازات العظيمة، وبها الكثير من الإخفاقات الكبيرة، لم يكن نبيا كما قال الشاعر الكبير «نزار قباني» في قصيدته الرائعة «الرجل ذو الظل الأخضر»، لكنه كان تجربة بشرية بكل ما فيها من إنجازات وإخفاقات، كان «عظيم الإنجاز وعظيم الأخطاء»، ولكن يبقى ن أن خطه كان امتدادا طبيعيا ومتطورا على خط الثورة الوطنية المصرية، أضاف إليها، وعضّد وجودها في الواقع، وجعلها أملا يرتجى في المستقبل.
بعد مرور خمس وخمسين سنة على الخامس من يونيو 1967، وما يقارب الخمسين سنة على السادس من أكتوبر 1973، ما زلنا ندور في نفس الدوائر، ونتخبط في ذات المتاهات، ويبقى السؤال يلح على إجابته الموضوعية المتبصرة: متى نخرج من إسار الهزيمة، يطرح نفسه، وتطرحه أحوالنا الحاضرة التي لا تسر غير الأعداء، والبداية تكمن في إجابة السؤال الأهم: متى نُخرج تاريخنا المعاصر من مساجلاتنا السياسية؟
**
[1] الأستاذ محمد عودة له أكثر من كتاب في مواجهة تلك الهجمة الشرسة على الثورة وقائدها، منها كتابه الشهير: “هذا الافتراء على الناصرية والجهل بالماركسية” في الرد على الدكتور فؤاد زكريا، وله كتاب آخر وزعت منه عشرات الألوف من النسخ وطبع أكثر من عشرين طبعة، وكان بعنوان: “الوعي المفقود” في الرد على كتاب توفيق الحكيم: “عودة الوعي”، بالإضافة إلى عشرات المقالات في الرد على افتراءات الإخوان وهذيان مصطفي أمين وتلامذته، وكانت له جولات مع تحريفات عبد العظيم رمضان، وكان يرد عليه تحت اسم مستعار هو محمد عبد الفتاح متولي، وهو اسمه الثلاثي بدون اسم العائلة، وهو نفسه اسم الشهرة محمد عودة.