صيف 1954
انتهت لجنة الخمسين برئاسة “علي ماهر” باشا من إعداد مسودة الدستور التي لم تجد للنور طريقها، لكنها وجدت طريقًا آخر آل بها إلى الإيداع بأحد مخازن مكتبة المعهد العالي للدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية حيث عثر عليها عَميد المعهد العلامة الدكتور “أحمد يوسف أحمد” عن طريق الصدفة في أحد الصناديق المُهملة لعدم أهميتها حسب تعبير الأستاذ الكبير المرحوم صلاح عيسى في كتابه الفذ “دستور في صندوق القمامة”.
وقد اشترك المرحوم الأستاذ “صلاح عيسى” مع كل من المرحوم المستشار “طارق البشري” والدكتور “أحمد يوسف أحمد” في تدقيق تلك المسودة حيث ثبت لديهم كمؤرخين يتحرون الدقة ويتبعون معايير الفحص وأسس التقصي أنها نسخة أصلية رَجَح المرحوم الأستاذ “صلاح عيسى” أنها كانت النسخة النهائية رغم ما كُتِب كعنوان مطبوعٍ لها “نص المشروع قبل التعديلات التي أدخلتها لجنة الصياغة في يوليو وأغسطس 1954”.
يقول المرحوم الأستاذ “صلاح عيسى”: “والحقيقة أن مشروع دستور 1954 لم يتجاهل من الناحية الموضوعية أهداف الثورة، ولم يصغ ديمقراطية تقليدية، ولم يكن مجرد إعادة صياغة لدستور 1923 بل كان -كما يقول الدكتور “مصطفى أبو زيد فهمي”- ذا صبغة اشتراكية واضحة المعالم فسيحة المدى، وهو في هذا يختلف كل الاختلاف عن دستور 1923 الذي استولت عليه النزعة الفردية، وهو يدلل على ذلك بأن المشروع قد وضع على عاتق الدولة واجب القيام بكثير من الالتزامات وتقديم عدد لا بأس به من الإمكانيات لتكون تحت تصرف الشعب، وذلك على عكس ما يقضى به المذهب الفردي الذي يقصر مهمة الدولة على مجرد حفظ الأمن وإقامة القضاء دون التدخل في الحقل الاقتصادي والعمل على التقريب بين الطبقات”*.
وقد أفرد المرحوم الأستاذ “صلاح عيسى” في كتابه جزءًا خاصًا عرض فيه النص الكامل لتلك الوثيقة التي حَوَت بالفعل دعائم تأسيس جمهوريةٍ أقرب في خطوطها العريضة إلى نموذج الديمقراطيات الاجتماعية حيث كانت ملامح التغيير في أسس الاقتصاد والعدالة الاجتماعية والمحاسبة واضحة بمنتهى الجلاء ومُصاغة بأسلوب غير مسبوق بما يشير إلى إدراك اللجنة التي وضعت الدستور أن المجتمع قد تبَدَلت ركائزه وأن عَالَمًا جديدًا قد تبدَت بشائره. إلا أنني أظن -وليس كل الظن إثم- أن قيام اللجنة بإدراج مادتين اثنتين على وجه التحديد كان هو سبب إيداع تلك المسودة بالمخازن وسأتناولهما في نهاية هذا المقال بشيء من التفصيل لصلتهما “غير المباشرة” بغرضه بشأن تطور دور البورجوازية المصرية في الدولة الجديدة.
حَوَت مسودة دستور 1954 مَوادّ تتعلق بمبادئ تؤسس للنظام الجديد فيما يتعلق بالشأن الاقتصادي وما يرتبط به من آثار اجتماعية مثل حرية التعليم ومجانيته وإلزامه بالمرحلة الابتدائية، وعلى صون الملكية الخاصة وأن يرعى القانون أداء وظيفتها الاجتماعية، وعلى عدم نزع الملكية إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل ينظمه القانون، وعلى أن النظام الاقتصادي حر على ألا يضر بمنفعة اجتماعية، وعلى أن يكون تنظيم اقتصاد الدولة وفقًا لخطط مرسومة تقوم على مبادئ العدالة الاجتماعية وتهدف إلى تنمية الإنتاج ورفع مستوى المعيشة. نصت مواد دستور 1954 كذلك على أن يكفل القانون التوافق بين النشاط الاقتصادي العام والنشاط الحر تحقيقًا للأهداف الاجتماعية ورخاء الشعب كما يكفل للعاملين فيهما نصيبا في ثمرات إنتاجهم يتناسب والعمل الذي يؤدونه، كما تم النص على أن الدولة تيسر للمواطنين جميعا مستوى لائقا من المعيشة أساسه تهيئة الغذاء والمسكن والخدمات الصحية والثقافية والاجتماعية كما تيسر ذلك في حالات البطالة والمرض والعجز والشيخوخة، وأن العمل حق تعنى الدولة بتوفيره لجميع المواطنين القادرين ويكفل القانون شروطه العادلة على أساس تكافؤ الفرص وعدم جواز أن يضار شخص في عمله بسبب أصله أو رأيه أو عقيدته.
كما نصت مواد أخرى على أن للدولة أن تؤمم بقانون مقابل تعويض عادل أي مشروع له طابع المرفق العام أو الاحتكار متى كان في تأميمه مصلحة عليا للمجتمع، وعلى ضرورة أن ينظم القانون العلاقات بين العمال وأصحاب الأعمال على أسس اقتصادية تتفق وقواعد العدالة الاجتماعية ويحدد ساعات العمل وينظم تقدير الأجور العادلة ويكفل صحة العمال وتأمينهم من الأخطار وينظم حق العامل في الراحة الأسبوعية وفي الإجازات السنوية بأجر وتوفير التعويض الملائم عند ترك العامل للخدمة، وتشرف على شئون العمال لجان دائمة قوامها العمال وأصحاب الأعمال ورجال الإدارة والقضاء، وعلى جواز الإضراب في حدود القانون.

نصت مواد أخرى على كفالة الحق في إنشاء النقابات في حدود أهداف وطنية بعيدا عن النفوذ الأجنبي، وعلى أن العدالة الاجتماعية هي أساس الضرائب وغيرها من التكاليف المالية العامة، وعلى إعفاء الطبقات الفقيرة من الضرائب إلى الحد الأدنى الضروري للمعيشة على النحو الذي يبينه القانون، كما أن الدولة تشجع الادخار وتشرف على سير عمليات الائتمان وتيسر الادخار الشعبي في تملك المسكن أو الأرض أو المساهمة في المشروعات. من زاوية أخرى كانت هناك نصوص تتعلق بالهيئات والمجالس المعاونة كديوان المحاسبة والمجلس الاقتصادي والمجلس الأعلى للعمل ومجالس الثروة الطبيعية والمرافق العامة. لم تكن تلك النصوص -بالغة التقدمية في جوهرها في ذلك الوقت- محلًا للخلاف بدليل أن النصوص المقابلة لها في دستور 1956 الذي تم الاستفتاء عليه ثم العمل به تضمنت صياغات شبيهة استخدمت فيها نفس التعابير وذات المصطلحات وهو ما سأتناوله بالتفصيل في سياق تطور البورجوازية المصرية في المقال القادم.
ما كان محلًا للخلاف الجوهري بدليل عدم احتواء دستور 1956 عليه، تمثل في المادة الأولى والمادة التسعين على وجه التحديد. نص دستور 1954 الذي وجد الدكتور “أحمد يوسف أحمد” مسودته بالمخازن في مادته الأولي على: “مصر دولة موحدة ذات سيادة، وهي حرة مستقلة، وحكومتها جمهورية برلمانية” بينما كان النص المُقابل في الدستور المُستَفتَى عليه في 1956 هو: “مصر دوله عربية مستقلة ذات سيادة، وهي جمهورية ديمقراطية، والشعب المصري جزء من الأمة العربية”. كما نص دستور 1954 في مادته التسعين على: “يشترط فيمن ينتخب رئيسا للجمهورية أن يكون مصريا من أب وجد مصريين متمتعا بكامل حقوقه المدنية والسياسية، وألا يقل سنه يوم الانتخاب عن خمس وأربعين سنة. ولا يجوز أن ينتخب لرياسة الجمهورية أحد من أعضاء الأسرة التي كانت تتولى الملك في مصر “بينما كان النص المُقابل في الدستور المُستَفتَى عليه في 1956 على: “يشترط فيمن ينتخب رئيسا للجمهورية أن يكون مصريا من أبوين وجدين مصريين وأن يكون متمتعا بحقوقه المدنية والسياسية وألا تقل سنه عن خمس وثلاثين سنة ميلادية وألا يكون منتميا إلى الأسرة التي كانت تتولى الملك في مصر”. في سياق هذه المقارنة يمكننا أن ندرك سبب إيداع مسودة دستور 1954 بالمخازن. كانت المادة الأولى تؤسس لجمهورية برلمانية وهي بهذا التصور ستعتمد في تركيبها الحركي على أحزاب وقوى سياسية كان أغلب عناصرها من نخبة الإقطاع-بورجوازية التي اتسمت بالوهن الشديد كما ذكرت في مقالي الماضي مما أدى إلى فشلها في ممارسة السلطة وفي إدارة الصراع الطبقي، فلم يكن من المُتَصَوَر إذن أن يسفر حراك الجيش عن -فقط- إزاحة فاروق الأول والأخير وإجراء بعض الإصلاحات الاجتماعية حتى وإن كانت جوهرية دون تغيير جذري في البنية الهيكلية السياسية.
كذلك فقد كان نص المادة التسعين يَحُول دون إمكان قيام أي من أعضاء مجلس قيادة الثورة -عدا اللواء محمد نجيب- بترشيح نفسه للرئاسة بسبب كونهم جميعًا أقل من السن المؤهِل للترشح وفقًا لهذه المادة، وهو أمر تَصَادم مع آمال وطموحات بعضهم المُستحَقَة وتناقض مع طبيعة التغيير الشبابي بما كان يحمله من أفكار متمردة وحَصَر المنافسة على الترشح للرئاسة في شخوص إما أنها كانت تنتمي إلى نخبة الإقطاع-بورجوازية أو كانت ذات صلة وثيقة بها بما تحمله من أفكار تقليدية.
ورغم وجاهة ما سبق ذكره لدى البعض، فإن حراكًا موضوعيًا يعتمد على تعايش التناقضات والصراع بينها في تراكم كمي يفضي في النهاية إلى تغيير نوعي لا يُلغى بموجبه طرفٌ طرَفًا بالقوة، كان أمرًا ممكنًا رغم تعقيدات الواقع وتحدياته التي فرضها عدم نضج علاقات الإنتاج التي أعاقت نخبة الإقطاع-بورجوازية إمكانات تطورها. وبالتالي فإن إنجاز مهام التحول الاشتراكي -ديمقراطيًا- كان يلزمه نضج في الظروف الموضوعية اللازمة للدفع في اتجاه التغيير لتجَنُب أن ينتهي الأمر برمته إلى ممارسةٍ بطريركية تُملَى فيها تعاليم الرجل الأوحد بطريقة طوباوية فوقية تلغي النقيض من ناحية وتهدر مبدأ المسئولية والمحاسبة “المشتركة” من ناحية أخرى.
للحديث بقية، إن كان في العمر بقية.
*انظر الصفحة 189 من كتاب “دستور في صندوق القمامة” للمرحوم الأستاذ صلاح عيسى- طبعة مركز الأهرام للترجمة والنشر والتوزيع عام 2011.