في الجزائر -كما في مصر وتونس- تدعو السلطة إلى الحوار و”لم الشمل” في محاولة لتجاوز الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة.
تراها السلطة فرصة لتجديد شرعيتها وتهدئة الخلافات بينما يراها معارضوها “مناورة وليست مبادرة للتغطية على الفشل الاقتصادي”. وأنها قد “ولدت ميتة” في غياب إرادة سياسية حقيقية للإفراج عن معتقلي “الحراك” وسجناء الرأي وفتح المجال العام.
في الثالث من مايو/أيار الماضي (ثاني أيام عيد الفطر) تفاجأ الجزائريون بنشر وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية مقالا بعنوان “عبد المجيد تبون رئيس جامع للشمل“.
وبعد أن ذكّر المقال بمسيرة رئيس الجمهورية منذ انتخابه في ديسمبر/كانون الأول 2019 أفاد بأنه “يجب أن يعرف أولئك الذين لم ينخرطوا في المسعى أو الذين يشعرون بالتهميش أن الجزائر الجديدة تفتح لهم ذراعيها من أجل صفحة جديدة”.
وأضاف: “كلمة إقصاء لا وجود لها في قاموس رئيس الجمهورية الذي يسخّر كل حكمته للم شمل الأشخاص والأطراف التي لم تكن تتفق في الماضي”.
وجاء في المقال أن تبون “رئيس لطالما اهتم بالنقاش السائد في المجتمع ويده ممدودة للجميع بشكل دائم. ما عدا الذين تجاوزوا الخطوط الحمراء وأولئك الذين أداروا ظهرهم لوطنهم” دون تسمية أي جهة.
في ذكرى الاستقلال
وجاء الإعلان عن المبادرة قبيل ستينية ذكرى الاستقلال. المرتقب الاحتفال بها في 5 يوليو/تموز المقبل.
ولقيت المبادرة دعم الجيش من خلال رئيس الأركان -الفريق سعيد شنقريحة- الذي دعا للاستجابة إلى “اليد الممدودة” باعتبارها “تنم بحق عن الإرادة السياسية الصادقة للسلطات العليا للبلاد للمّ الشمل واستجماع القوى الوطنية”.
وقال شنقريحة: “أشد على أيدي أبناء الوطن للانخراط بقوة في هذه المبادرة الصادقة. وهي مستلهمة من قيم أمتنا العريقة ومبادئ ثورتنا الخالدة (الثورة التحريرية ضد الاستعمار الفرنسي 1954/1962)”.
ومنذ ذلك الحين إلى الآن التقى “تبون” قيادات أربعة أحزاب من الحزام الحكومي: الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني أبو الفضل بعجي. ورئيس جبهة المستقبل عبد العزيز بلعيد. والأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي الطيب زيتوني. ورئيس حركة البناء الوطني عبد القادر بن قرينة.
وثلاثة أحزاب من صف المعارضة: رئيس حركة مجتمع السلم عبد الرزاق مقري. ورئيس حزب جيل جديد جيلالي سفيان. وحزب “جبهة القوى الاشتراكية”.
والتقى شخصية مستقلة تمثلت في الدبلوماسي السابق عبد العزيز رحابي. واستقبل أمين عام اتحاد العمال الجزائريين سليم لعباطشة. ورئيس المرصد الوطني للمجتمع المدني (هيئة استشارية تتبع الرئاسة) عبد الرحمن حمزاوي.
دعوات سابقة للحوار
في فترة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة جرى تنظيم ندوات وجلسات مع الأحزاب السياسية والمنظمات المهنية ومنظمات المجتمع المدني. وذلك بمناسبة اقتراح التعديلات الدستورية التي تمت خلال سنوات حكمه الممتدة. حيث استدعيت الأحزاب لجلسات في 2008 و2016 لتقديم مقترحاتها للتعديل. للحصول على مباركتها ودعمها للتعديلات التي منحت بوتفليقة صلاحيات واسعة بما فيها تمديد عهدته لعشريتين وإلغاء المانع القانوني أمام استمراره في السلطة.
وفي منتصف التسعينيات اُنشئت لجنة للحوار الوطني مكونة من مدنيين وعسكريين. أنشأها المجلس الأعلى للدولة الذي تولى الحكم بعد اغتيال الرئيس محمد بوضياف في 29 يونيو/حزيران 1992.
وتوجت أعمال اللجنة بوضع أرضية الوفاق لخطة عمل سياسية واقتصادية، نصت على إطلاق مرحلة انتقالية لمدة ثلاث سنوات. ثم انتخابات رئاسية فاز بها الجنرال الأمين زروال ومباشرة سياسة التصحيح الهيكلي تحت إشراف صندوق النقد الدولي.
ورغم اختلاف الظروف بين 1994 و2022 وبالأخص في الاستقرار الأمني والسياسي يشعر النظام الجزائري أنه في حاجة إلى شرعية أوسع غير تلك التي حصل عليها في الانتخابات الرئاسية لـ2020. والتي شهدت مشاركة منخفضة جدا لم تتجاوز 40% من إجمالي المسجلين في اللوائح الانتخابية -بحسب موقع “ألترا جزائر“.
وتأتي هذه المبادرة -من حيث توقيتها- بعد أربعة استحقاقات نجحت السلطة في تمريرها ولو بالحد الأدنى من المشاركة الشعبية. نظرا لنسبة المقاطعة العالية التي ميزت الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية والبرلمانية والمحلية والدستورية -وفق أرقام رسمية.
وترى المحللة السياسية بسمة لبوخ أن اعتراف السلطة بالأرقام المتدنية في الاستحقاقات الانتخابية يدل على أنها باتت أكثر واقعية وتدرك أن الفئة التي لم تنخرط في مسار الجزائر -كما وصفها مقال وكالة الأنباء الجزائرية- لم تكن راضية عن مسار التغيير وخارطة الطريق التي تبنتها السلطة بعد حراك 22 فبراير/شباط. عقب تنحية الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة. وسجن العديد من المسئولين ورجال الأعمال. وآن الأوان لإخراجها من “دائرة التهميش” والبحث عن مقاربة تجمع الشمل.
مسار توافقي أم مناورة ضد “الحراك”؟
يرى المحلل السياسي وأستاذ العلاقات الدولية بجامعة الجزائر توفيق بوقعدة أن “السلطة ليس لها خيار آخر إلا الانفتاح في ظل الإكراهات المتزايدة التي تواجهها سياسيا. حتى تحقق الاستقرار الذي تنشده منذ حراك 22 فبراير/شباط وفق مسار سياسي توافقي جديد”.
ويوضح “بوقعدة” لوكالة “فرانس برس” أن “السلطة عجزت عن خلق ديناميكية سياسية حول مشروعها للجزائر الجديدة. والركود السياسي والانتقادات الحادة في مجال حقوق الانسان تجعلها دون تأييد حقيقي حزبيا ومجتمعيا”.
وقال الدبلوماسي الأسبق عبد العزيز رحابي -الوزير لفترة قصيرة في حكومة بوتفليقة الأولى عام 1999 قبل أن يصبح معارضا شرسا لنظامه- بعد لقاء “تبون”: “لدي شعور بأن الرئيس لديه نية فتح بعض الورش الاقتصادية. وبأنه يعمل على بلورة إجماع وطني حول السياسة الداخلية والخارجية والدفاعية”.
لاحقا لفت “رحابي” إلى أنه “لا يمكن تصور قبول هذا العرض بشكل صحيح وجاد دون تسوية العقبات التي تعترض حرية ممارسة العمل السياسي الحزبي ورفع القيود المفروضة على ممارسة الحق في الإعلام”. وكذا “تحرير سجناء الرأي السياسي”.
واعتبر الوزير السابق أنه “من الضروري إجراء مشاورات وحوار شامل مع الفاعلين السياسيين والعالم الأكاديمي ووسائل الإعلام”.
لكن سيكون “من الصعب تصور الانضمام إلى عرض لم الشمل الذي قدمه رئيس الدولة دون إرادة معلنة والتزام ملموس لصالح السيطرة الشعبية على الثروة الوطنية”.
لن يكون مُجديا
وأشار إلى أن “إطلاق حوار في ظل ظروف غير مناسبة لن يكون مجديا مع استمرار الضغط الصارخ للإدارة وتدخلها في الحياة السياسية الذي يغير المناخ السياسيّ ويتعارض مع التزامات رئيس الدولة”. ويختتم: “من الواضح أننا لم نعِ دروس الماضي”.
بينما شكّك رئيس حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية (علماني معارض) محسن بلعباس بالمبادرة. قائلا: “لو كانت هناك إرادة حقيقية لعمِلت على لمّ شمل عائلات المسجونين بالإفراج عن كل المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي والكفّ عن المتابعات التعسفية ضد المناضلين والناشطين السياسيين”.
وبرأي المعارض كريم طابو -أحد أبرز وجوه الحراك الشعبي- أن “السلطة ليست قلقة بأي حال من الأحوال من قضية معتقلي الحراك. رئيس الدولة يستطيع اتخاذ إجراءات في أي وقت لإطلاق سراحهم. المشكلة الوحيدة بالنسبة للسلطة تكمن في الحراك”. معتبرا أنها “تستخدم كل المناورات الممكنة حتى تجعل عودته مستحيلة”.
انتقادات حقوقية للوضع في الجزائر
وكانت مفوضية حقوق الإنسان بالأمم المتحدة أعربت عن قلق متزايد بشأن الوضع في الجزائر. حيث “لا تزال حقوق حرية الرأي والتعبير والتجمع السلمي والمشاركة في الشؤون العامة تتعرض للهجوم”.
ومؤخرا أوضح روبرت كولفيل -المتحدث باسم المفوضية- أنه منذ استئناف المظاهرات في شوارع الجزائر في 13 فبراير/شباط 2021 بعد عام من الاحتجاجات التي نظمتها حركة “حراك” على الإنترنت بسبب جائحة كوفيد-19 تلقى مكتب المفوضية “تقارير مستمرة عن استخدام القوة غير الضرورية وغير المتناسبة ضد المتظاهرين السلميين وكذلك اعتقالات مستمرة”.
وتستمر محاكمة نشطاء “الحراك” على أساس “قوانين فضفاضة” للغاية. حتى بعد إعلان عفو رئاسي في فبراير/شباط من ذلك العام -حسب تقارير حقوقية.
ورغم إطلاق سراح وتخفيف عقوبة عشرات المعتقلين فلا يزال نحو 260 شخصا في السجون الجزائرية لمشاركتهم في الاحتجاجات أو في قضايا تتعلق بالحرّيات الفرديّة -بحسب اللجنة الوطنية للإفراج عن المعتقلين.
مطلوب هيئة مستقلة
ويرى أستاذ القانون والعلوم السياسية بجامعة الجزائر إسماعيل معراف -في حديثه مع “فرانس برس”- أن “المطلوب هو تعيين هيئة مستقلة لمباشرة حوار وطني حقيقي تُدعى له كل القوى الحية”. على أن “تكون نتائج الحوار ملزمة لكل من يشارك فيه بمن فيهم السلطة. وحينها فقط نصل إلى لمّ الشمل”.
الكاتب الجزائري عثمان لحياني يعلق بأن السلطة تبدو خجولة في الإقرار بوجود أزمة. وهو ما يفسر إطلاق مبادرة سياسية “دون هوية ولا عناوين واضحة”.
وما يبرز حتى الآن هو “معالجة أمنية لقضية المعارضين الموجودين في الخارج عبر السماح لهم بالعودة إلى البلاد. مقابل التزام وقف الأنشطة السياسية التي تحرج السلطة وتمس بالأمن العام” بحسب لحياني الذي أضاف أن سياسة “اليد الممدودة” تحتاج بالأساس إلى “قفاز من حرير” لمصالحة الآخر وليس إلى “قفاز من حديد وكلبشات”.
بينما يعتبر الكاتب توفيق رباحي أنه إذا أصر النظام على الحوار مع الأحزاب نفسها والتنظيمات الجمعوية والنقابية ذاتها التي تدور في فلك السلطة فسينطبق عليه كلام حسين آيت أحمد (أحد قادة الثورة الجزائرية ثم بعد الاستقلال أسس حزب جبهة القوى الاشتراكية) في التسعينيات عندما قال إن “حوار السلطة عندنا يشبه حوار الذئب مع ذيله”.
ويشير إلى أن الأحزاب التي استقبل قادتَها “تبون” خلال الفترة الماضية “شريكة في الفساد السياسي والاقتصادي الذي رعاه المخلوع بوتفليقة وعصابته. لا أدعو لإقصاء هذه الأحزاب والتنظيمات. لكن في الوقت ذاته لا يمكنها أن تقود أيّ مبادرة جادة. ففاقد الشيء لا يعطيه”.
ضمانات لإنجاح الحوار
في الثالث من يونيو/حزيران الجاري التقى حزب “جبهة القوى الاشتراكية” -أقدم أحزاب المعارضة الجزائرية- مع الرئيس الجزائري في قصر الرئاسة.
وقدمت قيادته لـ”تبون” مطالب ومقترحات قالت إنها “ضرورية للخروج من الأزمة”.
وأوضح الأمين الوطني الأول للحزب يوسف أوشيش أن حزبه طالب الرئيس تبون بتقديم “المزيد من التوضيحات حول إرادته السياسية بخصوص إطار الحوار الوطني الموجه لتعزيز الجبهة الداخلية”.
وشدد على أن “أي مبادرة جادة من هذا النوع يجب أن تكون بالضرورة مرادفة لانفتاح ديمقراطي حقيقي ولتكريس تغيير سلمي وسلس لنظام الحكم”.
كما طالب الحزب “تبون” بضرورة “احترام الشروط المسبقة وإجراءات التهدئة قبل الشروع في أي حوار”. بدءا “بإطلاق سراح ودون شروط كل المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي”. وإلغاء كل الترسانة القانونية التي وصفها بـ”القمعية”. لا سيما اللجوء “بطريقة تعسفية لإجراء الحبس الاحتياطي”. كما طالب برفع “القيود المفروضة على الأحزاب والنقابات والجمعيات ووسائل الإعلام التي تمنعها من أداء أدوارها الأساسية في المجتمع”.
وجدد الحزب التذكير بالحاجة إلى “إجماع وطني على أساس حوار شامل يحل بشكل فعلي الأزمة متعددة الأبعاد التي تعيشها بلادنا (…) معبّرين عن قلقنا حول سياسة إصلاح نظام الدعم الاجتماعي. في وقت يعاني فيه الشعب انفجار التضخم و تآكل للقدرة الشرائية”.
وبرر “القوى الاشتراكية” -الذي قاطع ثلاثة استحقاقات انتخابية منذ 2019 ما عدا الانتخابات المحلية الأخيرة- قبوله دعوة الرئيس “تبون” للحوار بكونه “حزبا وفيا لمبادئه التأسيسية المتمثلة في الحوار البناء والمعارضة المسؤولة”.
مبادرة “ولدت ميتة”
الناشط في الحراك الجزائري حمزة بركاني يرى أن “المبادرات القادمة من جهة السلطة تولد ميتة”. وتأتي “في غياب ظروف تهدئة وعفو”.
وهو ما يتفق معه المعارض السياسي وليد كبير الذي يرى أن المبادرة “شبه حملة انتخابية للعهدة الثانية التي بدأ النظام التحضير لها بخصوص عبد المجيد تبون”. مستبعدا أن تنجح لأنها “غامضة وغير دقيقة”. ويوضح أن هدفها “إسكات الأصوات المعارضة في الخارج التي لا يستطيع النظام الوصول إليها”.
المحلل السياسي توفيق بوقعدة قال إن السبب الرئيس هو محاولة خلق ديناميكية سياسية في البلاد للتغطية على الفشل الاقتصادي والوضع الاجتماعي الصعب بسبب تداعيات الجائحة والحرب الروسية-الأوكرانية.
ويستبعد المعارض الجزائري وليد كبير أن “تستجيب المبادرة لطلبات إطلاق سراح السجناء السياسيين. خصوصا أن نحو 167 سجينا سياسيا من التسعينيات لم يتم الإفراج عنهم حتى الآن. وما يقرب من 300 معتقل حاليا بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي ونشاطات سابقة في الحراك الشعبي”.
ورغم استجابة بعض الأحزاب السياسية لدعوة “تبون” لا ينوي نشطاء الحراك التجاوب مع أي دعوة قادمة من السلطات. ويقول الناشط في الحراك حمزة بركاني: “لا تلبية لأي دعوة قبل الاستجابة لمطالب الحراك”.
ويطالب النشطاء بإطلاق سراح سجناء التسعينيات ومعتقلي الرأي والحراك وإعطاء ضمانات بحوار جاد ومسؤول وبناء واستشارة الشعب في استفتاء شعبي عن مطالبه الحقيقية -وفقا للناشط بركاني.