أزمة الغذاء التي تعانيها دول كثيرة في العالم حاليا ليست الأولى في التاريخ -وربما لن تكون الأخيرة- إذا استمرت أسبابها دون علاج فحتى قبل الحرب الروسية في أوكرانيا كانت مستويات الجوع في العالم مرتفعة لدرجة تنذر بالخطر.
وتصدر الشبكة العالمية لمكافحة الأزمات الغذائية -وهي تحالف بين منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة والاتحاد الأوروبي وبرنامج الغذاء العالمي- تقريرا سنويا عن حالة الجوع والأمن الغذائي في العالم منذ تأسيسها عام 2016.
ونظرة سريعة على تقارير السنوات الماضية تؤكد أن الجوع بدرجاته ومستوياته المختلفة يتزايد منذ عام 2016 على الأقل.
الجوع درجات ومستويات وتتبنى الأمم المتحدة ما يسمى “التصنيف المرحلي المتكامل لأمن الغذاء” (IPC).
وفقا لهذا التصنيف تقسم مستويات الجوع والأمن الغذائي إلى خمسة مستويات. المستوى الأول الأمن الغذائي حيث لا توجد مشكلة. أما المستوى الثاني فيعني عدم وجود ما يكفي من الغذاء أو عدم الوصول إليه. وتسمى مرحلة الإجهاد الغذائي.
والمستوى الثالث يسمى مرحلة الأزمة الغذائية أو ما هو أسوأ. وتسمى أحيانا انعدام الأمن الغذائي الحاد. أما المستوى الرابع فهو مرحلة الطوارئ الغذائية. والمستوى الخامس والأخير هو مرحلة الكارثة الغذائية. أما المجاعة فلها قصة وحسابات أخرى!
زادت أعداد من يعانون انعدام الأمن الغذائي الحاد خلال السنوات الست الماضية. ويشير أحدث تقرير عن حالة الأمن الغذائي في العام الماضي إلى أن أعداد السكان الذين واجهوا انعدام الأمن الغذائي الحاد قد زاد بنسبة 80%. مقارنة بما كان في 2016 حيث زادت الأعداد من 108 ملايين شخص في 48 دولة أو إقليم إلى 193 مليون شخص في 53 دولة أو إقليم. وزادت الأعداد خلال العام الماضي وحده بنحو 40 مليون نسمة.
سبعون في المائة من هؤلاء الذين واجهوا المستوى الثالث من الجوع -مرحلة الأزمة أو ما هو أسوأ ويحتاجون إلى مساعدات عاجلة- يتركزون في عشرة بلدان أو مناطق. هي: جمهورية الكونغو الديمقراطية-أفغانستان-إثيوبيا-اليمن-شمال نيجيريا-سوريا-السودان-جنوب السودان-باكستان وهاييتي.
وفي 39 دولة أو منطقة كانت تعاني أزمات غذائية مستمرة في السنوات الست الماضية تضاعف تقريبا عدد الأشخاص في أزمة غذائية أو ما هو أسوأ من 94 مليونًا في 2016 إلى ما يقرب من 180 مليونًا بين عامي 2016 و2021.
في العام الماضي واجه ما يقرب من 40 مليون شخص في 36 دولة أو منطقة حالات طوارئ غذائية أو ما هو أسوأ -المرحلة الرابعة أو أعلى من الجوع. وأكثر من نصف مليون شخص في أربعة بلدان هي إثيوبيا وجنوب السودان ومدغشقر واليمن واجهوا المستوى الخامس والأخير من مستويات انعدام الأمن الغذائي -مستوى الكارثة الغذائية والجوع المفضي إلى الموت.
عدد الأشخاص الذين واجهوا هذا الجوع القاتل في العام الماضي هو أربعة أضعاف عددهم في عام 2020 وأعلى بسبع مرات مما كان في عام 2016. وتعرض 236 مليون شخص إضافي في 41 دولة أو إقليما للإجهاد الغذائي. وكانوا في حاجة إلى مساعدات لدعم سبل العيش والحد من مخاطر الكوارث لمنع تدهور أحوالهم إلى مستويات أدنى.
الأسباب الرئيسية لانعدام الأمن الغذائي متعددة لكن بحسب التقرير يظل الصراع وانعدام الأمن هو المحرك الرئيسي لأزمات الغذاء في العالم.
ففي سبعة من هذه البلدان العشرة التي واجهت انعدام الأمن الغذائي الحاد كان الصراع وانعدام الأمن هو المحرك الرئيسي لأزمات الغذاء. وأيضا كان الصراع هو المحرك الرئيسي في ثلاثة من البلدان الأربعة التي واجه سكانها المرحلة الخامسة من الجوع -الكارثة الغذائية- في إثيوبيا وجنوب السودان واليمن.
الصدمات الاقتصادية كانت المحرك الرئيسي لانعدام الأمن الغذائي الحاد في 21 دولة خلال عام 2021. حيث واجه أكثر من 30 مليون شخص الأزمة الغذائية من الدرجة الثالثة -أزمة أو ما هو أسوأ.
وارتفعت أسعار الغذاء إلى مستويات غير مسبوقة بسبب عدد من العوامل. منها اضطراب سلاسل التوريد بسبب الجائحة. والانتعاش غير المتكافئ للاقتصاد بعد الجائحة. وارتفاع أسعار الطاقة وتغير المناخ.
وكان لارتفاع أسعار الغذاء تأثير كبير. خاصة في البلدان التي تعتمد اعتمادا أساسيا على الواردات الغذائية. وتتميز عملاتها الوطنية بالضعف في مقابل الدولار. كذلك في البلدان التي أثر فيها الصراع والظروف الجوية المتطرفة على التجارة وسلاسل الإمداد.
منذ عام 2020 زاد تأثير الظروف الجوية المتطرفة والكوارث المرتبطة بالطقس على انعدام الأمن الغذائي. وكان الجفاف ونقص الأمطار والفيضانات والأعاصير المحرك الرئيسي في الأزمات الغذائية في شرق ووسط وجنوب أفريقيا وأوراسيا.
وكانت الكوارث المرتبطة بالطقس المحرك الأساسي لـ15.7 مليون شخص في 15 دولة. ففي العام الماضي كانت الظروف المناخية المتطرفة هي المحرك الرئيسي لانعدام الأمن الغذائي الحاد في ثمانية بلدان أفريقية. حيث يعيش 23.5 مليون شخص واجهوا المرحلة الثالثة من الجوع -مرحلة الأزمة الغذائية أو ما هو أسوأ- وواجه ما يقرب من 14000 شخص في جنوب مدغشقر المرحلة الخامسة من الجوع -الكارثة الغذائية- بسبب آثار الجفاف في إبريل-سبتمبر 2021.
سوء التغذية الحاد والمزمن في البلدان المتضررة من الأزمات الغذائية عند مستويات حرجة تتضافر عوامل عدة فيه. منها انخفاض جودة الغذاء والممارسات السيئة في تغذية الأطفال و ضعف الوصول إلى مياه الشرب والصرف الصحي والرعاية الصحية وانتشار الأمراض بين الأطفال.
وفقا للتحليل الذي أجراه فريق العمل الذي أعد التقرير كان ما يقرب من 26 مليون طفل دون سن الخامسة يعانون نقص الوزن أو الهزال. ويحتاجون إلى علاج عاجل في 23 من أصل 25 أزمة غذائية كبرى.
وكان أكثر من 5 ملايين طفل معرضين بشكل متزايد للهزال الشديد المؤدي إلى الموت. وفي البلدان العشرة التي واجه سكانها أزمات غذائية من الدرجة الثالثة يعاني 17.5 مليون طفل من الهزال.
النازحون واللاجئون من بين أكثر الفئات تعرضا لانعدام الأمن الغذائي الحاد وسوء التغذية. فمن بين 51 مليون نازح داخليا على مستوى العالم خلال العام الماضي كان هناك ما يقرب من 45 مليونا في 24 دولة أو منطقة تعاني أزمات غذائية من الدرجة الثالثة أو انعدام الأمن الغذائي الحاد.
ومن بين أكبر عشر أزمات غذائية في عام 2012 من حيث عدد الأشخاص كانت البلدان/الأقاليم الستة التي تضم أكبر عدد من النازحين داخليًا هي: سوريا وأفغانستان وجمهورية الكونغو الديموقراطية واليمن وإثيوبيا والسودان.
ومن بين نحو 21 مليون لاجئ و4 ملايين طالب لجوء على مستوى العالم في عام 2021 فإن أكثر من 60% من هؤلاء -نحو 15.3 مليون شخص- تمت استضافتهم في 52 دولة أو منطقة تعاني فعليا أزمات غذائية. وتتفاعل عوامل الفقر والصراع وفيروس كورونا والظروف الجوية القاسية والجوع لتزيد من تفاقم محنتهم الإنسانية- بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين.
يبدو المستقبل قاتما وربما يكون مخيفا. إذ يتوقع التقرير أن يشهد العام الجاري مزيدا من التدهور مقارنة بالعام الماضي.
فمن المرجح أن تؤثر الحرب الروسية-الأوكرانية على سلاسل إمدادات وأسعار الغذاء والأسمدة والطاقة المرتفعة فعليا. فقط نذكر بأن إعداد التقرير قد سبق الحرب الروسية على أوكرانيا. وبالتالي لم يضع معدو التقرير الحرب وآثارها على الغذاء في الحسبان.
يتوقع التقرير أن يواجه نحو 180 مليون شخص في 41 دولة أو منطقة المرحلة الثالثة من الجوع -الأزمات الغذائية أو انعدام الأمن الغذائي الحاد. وإذا ما وضعنا في الاعتبار التأثيرات المباشرة وغير المباشرة للحرب في أوكرانيا فلنا أن نتوقع أن تزيد الأعداد على تلك التي يتوقعها التقرير.
كما يتوقع حدوث تدهور كبير في الأمن الغذائي في شمال نيجيريا واليمن وبوركينا فاسو والنيجر بسبب الصراع وانعدام الأمن. كذلك في كينيا وجنوب السودان والصومال بسبب الجفاف ونقص الأمطار.
ومن المحتمل أن يواجه نحو 329000 شخص في ثلاثة بلدان كارثة غذائية من الدرجة الخامسة -الجوع المفضي إلى الموت- ومتوقع أن يعاني اليمن للسنة الخامسة على التوالي كارثة غذائية.
ويقدر التقرير أنه في ظل السيناريو الأكثر احتمالا يتوقع أن يواجه نحو 161000 شخص كارثة غذائية في النصف الثاني من العام الجاري. وفي ظل السيناريو الأسوأ -الأقل احتمالا- يبدو خطر المجاعة متوقعا في منطقتين على الأقل. في جنوب السودان حيث يتوقع أن يواجه 87 ألف شخص كارثة غذائية من الدرجة الخامسة بسبب الآثار التراكمية للصراع والظروف الجوية المتطرفة وارتفاع أسعار الغذاء. وفي الصومال حيث يمكن أن تتفاعل عوامل الصراع والجفاف المطول ونقص الأمطار وارتفاع اسعار الغذاء لتدفع بنحو 81000 شخص إلى كارثة غذائية من المرتبة الخامسة.
من العوامل الإضافية التي تؤثر على الأمن الغذائي نقص الأموال المخصصة للمساعدات الإنسانية وعدم وصولها إلى السكان الأكثر ضعفًا.
وتستخدم الأمم المتحدة ومنظماتها أسماء رقيقة ومواسية لوصف الجوع القاسي والأليم. وعلى الرغم من الكلام الحلو الذي تقوله المنظمات الدولية عن القضاء على الجوع فإن التمويل الإنساني العالمي لأزمات الغذاء يتراجع مقارنة بعدد المتضررين. ويفشل في تلبية الاحتياجات المتزايدة.
ففي عام 2008 كانت ميزانية برنامج الأغذية العالمي 6 مليارات دولار انخفضت في عام 2009 إلى 3.2 مليار دولار.
وفي عام 2011 قدرت موازنة البرنامج بنحو 7 مليارات دولار لكنه لم يتلق سوى 2.7 مليار دولار حتى أوائل ديسمبر 2010.
بالطبع كان لهذا النقص الواضح في المساعدات آثاره المؤلمة على حياة الملايين. ومع أن تمويل المساعدات الغذائية الإنسانية آخذ في الانخفاض منذ عام 2017 فإن النقص الحالي كبير وصارخ بشكل خاص بسبب التباطؤ الاقتصادي الناجم عن الجائحة ومواجهتها من جهة واتساع نطاق الأزمات الغذائية التي تحتاج إلى مساعدات من جهة أخرى.
الحرب الروسية الأوكرانية ليست السبب الوحيد ولا الرئيسي للأزمات الغذائية الحالية. فالأسباب قديمة وكامنة في قلب تجارة الغذاء وفي سيطرة الشركات الكبرى على كل مراحل إنتاجه. لكن الحرب كشفت مدى ترابط وهشاشة النظم الغذائية المحلية والعالمية. التي تتعرض بالفعل لضغوط متزايدة بسبب الظواهر الجوية المتطرفة وكوفيد والصراعات المسلحة وارتفاع أسعار المواد الغذائية المتواصل.
الحرب الجارية في أوكرانيا لا تعرض الأمن الغذائي للمتضررين مباشرة من الحرب للخطر فحسب. بل تضاعف أيضا الأزمات الغذائية التي يواجهها ملايين الأشخاص في العالم.
في كتابه “الدمار الشامل-الجغرافيا السياسية للجوع” يناقش جيان زيجلر -المقرر الخاص للأمم المتحدة بشأن الغذاء- كيف أدت السياسات الليبرالية الجديدة إلى حدوث أزمات جوع ترقى إلى مستوى “القتل المحسوب”.
وصف زيجلر أزمة الغذاء 2007-2009 بأنها أسوأ أزمة جوع في تاريخ البشرية. ويرجع السبب في ذلك إلى الجشع والإدارة من أجل الربح.
يقول زيجلر في كتابه إن المجاعة ليست قضاء وقدرا ولا ينبغي أن تحدث. “العالم قادر على توفير الغذاء لنحو 12 مليار شخص” -أكثر من مرة ونصف ضعف عدد السكان الحالي في العالم- فلماذا إذًا ينتشر الجوع وتحدث المجاعات؟
الإجابة التي يقدمها زيجلر والتى تتهرب منها الأمم المتحدة ومنظماتها هي أن الشركات الكبرى الخاصة سيطرت على كل مراحل إنتاج الغذاء. بدءا من إنتاج البذور والأسمدة والمبيدات والمدخلات الزراعية كافة. مرورا بالصناعات الزراعية وصناعة الغذاء. وانتهاء بسلاسل الإمداد وأرفف المتاجر.
فرضت الشركات الكبرى الجوع كأمر واقع وحدث ذلك دون احتجاج ظاهر. وتتولى المنظمات فوق الحكومية أو فرسان نهاية العالم كما يسميهم زيجلر -صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية- إدارة الجوع المنظم في العالم. وما لم يحدث تغيير جذري في إدارة الغذاء والمياه والطاقة يحررها بعيدا عن السيطرة المطلقة للشركات الخاصة سيستمر الجوع وسوف تحدث المجاعات.