كما أن لا أحد فوق النقد أيًا كان موقعه أو منصبه، فلا توجد فكرة فوق المراجعة والتقييم بغض النظر عن واجهة منطقها وسلامة حججها، ووفقًا لنصوص الدساتير والمواثيق الدولية، فالاشتباك مع سياسات وتوجهات وقرارت القائمين على العمل العام حق مُصان، فلا يمس ناقد أو صاحب رأي معارض حتى لو شذ رأيه وانحرف أو استند إلى معلومات مغلوطة.

وعلى من سلك طريق العمل العام وطرح نفسه لتقييم الجماهير ونيل رضاها -سلطة أو معارضة- أن يتسع صدره لسهام النقد دون ضيق أو ضجر، فلولا النقاد لـ”هلك الناس ولطغى الباطل على الحق، ولامتطى الأراذل ظهور الأفاضل، وبقدر ما يخفت صوت الناقد يرتفع صوت الدجال”، على ما قال شاعرنا العظيم بيرم التونسي.

وكما انحازت الدساتير والأعراف الديمقراطية لحرية النقاش العام وإبداء الرأي في كل ما يصدر عن سلطات الدولة من قرارت وسياسات، عززت الأحكام القضائية المتواترة الصادرة من أرفع المحاكم المصرية حق الحوار والتعقيب على كل أمر يتصل بالشأن العام، “حتى لو تضمن انتقادا حادا للقائمين بالعمل العام.. فتدفق الآراء والمعلومات وعرضها متوافقة أو متصادمة من شأنه إجلاء الحقيقة”، على ما جاء في نص حكم للمحكمة الدستورية.

“ولا يجوز لأحد أن يفرض على غيره صمتا ولو كان معززًا بالقانون، فاستخدام التشريعات في إرهاب وقمع المخالفين يولد رهبة تحول بين المواطن والتعبير عن آرائه، بما يغلق الباب أمام تداول أفكار قد تدعم صاحب القرار وتنير طريقه”، يضيف الحكم.

شهدت مصر التي هي “دار العلم والحرية” بحسب ما وصفها المفكر الإصلاحي العربي عبد الرحمن الكواكبي، المئات من المعارك الجدلية الفكرية والسياسية والفقهية، “فالإنسان يتجرأ أن يقول ويكتب فيها باعتبارها بلاد الحرية ما لا يتجرأ عليه في بلاد الاستبداد”، يضيف الكواكبي الذي حل في نهايات القرن التاسع عشر ضيفا على بلادنا التي كانت تخضع حينها للاستعمار الإنجليزي، فارًا من استبداد وقمع الدولة العثمانية له ولغيره من رواد حركة التجديد العربي في الشام.

في العقود الأخيرة للقرن التاسع عشر، ومنذ أن عرفت مصر العمل الحزبي والنيابي قبل الاحتلال الإنجليزي وبعد وقوعها تحت قبضته، ولم تتوقف صفحات جرائدها وقاعات مجالسها ومقاهيها عن الحوار والنقاش والجدل في كل ما يخص الشأن العام، المثقفون والساسة والنخب، اتفقوا واختلفوا على معظم القضايا (الدستور، الطريق إلى الاستقلال، الحرية، الخلافة الإسلامية، العروبة، المرأة، نشأة الخلق.. الخ).

طرح الأفكار والاشتباك معها ونقدها دون خوف من العواقب كان ولا يزال دليلًا على حيوية المجتمعات وعافيتها، وبرهانا على رسوخ الديمقراطية التي حاولنا تتبع آثارها قبل قرن من الزمان لكننا ضللنا الطريق لأسباب يطول شرحها، أما الصمت خوفًا وخضوعا والقبول بما يصدر عن سلطة الحكم دون مراجعة فهي من أعراض الاستبداد الذي هو أصل «الانحطاط والتردي» في بلادنا ودواؤه هو “الدستورية والشورى” كما أشار الكواكبي في كتابه الرائد “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، فبدون الحكم الدستوري الشوري لن يتخطى العرب ما هم فيه ولن يتخلصوا من ثالوث الجهل والفقر والمرض.

في السنوات الأخيرة حوصرت منابر السياسية وحُجب فاعلوها عن التواصل والتفاعل مع الجمهور، وغاب الحوار والنقاش وران الصمت على معظم أصحاب الرأي، حتى جاءت دعوة الحوار الوطني التي أطلقها رئيس الجمهورية خلال حفل إفطار الأسرة المصرية قبل شهر تقريبًا، فتحركت بعض المياه في نهر المجال العام الراكد، وعادت بعض الأصوات المكتومة والوجوه المحجوبة للظهور بأفكار مختلفة وطروحات مغايرة على ما اعتاد الجمهور سماعه.

دعوة الحوار وما أعقبها من جدل جددت الأمل لدى فريق من الساسة في إمكانية استغلال تلك الحالة في توسيع هامش الحرية وإطلاق سراح أشخاص تم حبسهم على ذمة قضايا رأي، كما واربت الباب أمام فرصة إعادة النظر في العديد من السياسات والقرارت والتشريعات التي صدرت في غيبة الطرف الآخر، وذلك عبر إدارة حوار جاد بين مكونات الوطن السياسية دون استثناء أو تمييز وعلى قاعدة «الخلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية».

رغم أن أجندة هذا الحوار ومواعيد جلساته لم تعلن بعد، إلا أن هذا الفريق يرى أن حالة الحوار التي أثيرت حول الحوار ومحدداته وضوابطه وأولوياته خلقت جدلا ونقاشا كسر جدار الصمت المفروض منذ سنوات، “وهي خطوة تحسب للداعي وللمتفاعلين مع الدعوة، كما أن إطلاق سراح العشرات المعارضين خلال الشهر المنقضي فتح باب الأمل في إغلاق ملف المحبوسين من أصحاب الرأي خلال المرحلة المقبلة»، يقول مصدر من المشاركين في الإعداد لجلسات الحوار المرتقب، مثمنا ما جرى وداعيا إلى المزيد من قرارت الإفراج التي تريح أعصاب البلاد على حد تعبيره.

في المقابل، هناك فريق آخر شكك ولايزال في الدعوة ومردودها ونتائج ومخرجات جلساتها التي لم تبدأ بعد، ولهذا الفريق المتشائم العذر، فلا لوم على مُحبط ولا تثريب على يائس يرى أن الأزمة السياسية استحكمت وأن سلطة الحكم التي عملت على إسكات كل مخالفيها لن تبادر بتبديل موقفها وسياساتها وتتعامل مع معارضيها باعتبارهم شركاء لا خصوم.

يحكم هذا الفريق على أمور السياسة بميزان جامد لا تتحرك كفتيه، وهو حكم قد يصلح في مجالات أخرى لكن في السياسة «لا خصومة دائمة ولا صداقة دائمة»، الدائم هو المصالح والمعني بالمصلحة في دعوة الحوار المرتقب هو الوطن الذي يحتاج إلى حوار ونقاش حول أفضل السبل لتفكيك أزماته وترتيب أولوياته.

فات هؤلاء أن السياسة هي القدرة على تغيير الواقع بالأدوات المتاحة وتقديم البدائل للحكام والمحكومين للاختيار من بينها، فاتهم أيضا أن أحد المطالب الأساسية لقوى المعارضة خلال السنوات الماضية أن يستمع النظام إلى مخالفيه، يأخذ منهم ويرد عليهم كما تدار الأمور في الدول الديمقراطية.

هناك فريق ثالث رافض ومتربص، لم يكتف بالرهان على فشل الحوار المرتقب، بل سخر كل أدواته لعرقلته، يخشى هذا الفريق أن تتأثر مصالحه ومكاسبه الشخصية من دوران عجلة السياسة وتوسيع هامش المشاركة في البلاد، يظن وفي ظنهم بعض الحق أن الأدوار والوجوه قد تتبدل نتيجة لانكشاف طبقة محددوي الكفاءات والمواهب التي طفت على السطح وتبوأت مواقعها دون رصيد أو خبرة كافية.

أيا كانت نوايا السلطة ودوافعها لإطلاق دعوة الحوار، وأيا كانت أسباب المعارضة التي قبلت المشاركة فيه، فففتح نقاش بين مكونات النظام السياسي هي بداية يمكن البناء عليها لضخ الدماء في شرايين السياسة المتصلبة وإعادة المواطن إلى معادلة التفاعل السياسي مجددًا، وعلى الجميع أن يضع النظام (السلطة والمعارضة) في موضع اختبار قبل إصدار أحكام باتة، علينا أن “ننتظر ونرى” على ما قال الأستاذ عبد الله السناوي في مقاله بـ”الشروق” قبل أيام.

حملات الهجوم والتشكيك على دعوة الحوار ومطلقها والمشاركين فيها لن تتوقف، قد تتراجع بعد أن تنتهي مرحلة التحضير والترتيب وإعلان الأجندة وتبدأ الجلسات ويتعاطى الرأي العام مع ما يطرح من مناقشات، حتى نصل إلى محطة النتائج والمخرجات.

قد لا يقدم الحوار المرتقب دواء لأمراض وأزمات الدولة، لكنه بالقطع سيكون بداية للاتفاق على طريقة التشخيص التي لا ينبغي أن ينفرد بها طرف واحد، قد تفضي جلساته ومناقشاته إلى أن تدرك كل الأطراف كيف وصلت الأمور إلى هنا وما هي سبل الانتقال إلى طرق أخرى.

أخشى ما أخشاه أن يصل الحوار السياسي الذي لم يبدأ بشكل رسمي بعد إلى نفق مسدود، كما جرى في موريتانيا نتيجة توالي الطعنات والتجاذبات والتلاسن، وهو ما أدى إلى وقف مسار الحوار الوطني الموريتاني إلى أجل غير مسمى، وبدأت معركة أخرى يحمل كل طرف فيها مسئولية انهيار الحوار الذي كان من المفترض أن يناقش قضايا الحريات والمسار الانتخابي وتعزيز العدالة الاجتماعية للأطراف الأخرى.

نتمنى أن نضع أمامنا تجارب الحوارات السابقة والقائمة في بلادنا حتى نقفز على أي معوقات قد تؤدي إلى فشله.