كشف تحقيق جديد أجرته صحيفة The New York Times الأمريكية. عن توسع جديد لشركة “فاجنر” الروسية الشهيرة في السودان. والتي يسيطر عليها يفجيني بريجوزين، وهو واحد من القلة الروسية المقربة من الرئيس، والمعروف باسم “طاهي بوتين”أو طباخ بوتين. الذي وجهت إليه لائحة اتهام في الولايات المتحدة بتهمة التدخل في الانتخابات الرئاسية لعام 2016. وفقًا للمسؤولين الغربيين.

وكشف محررو الصحيفة عن التوسع الضخم في استخراج وتجارة الذهب من الجبال السودانية. مع الاشتراك في مساعدة المجلس السيادي -الذي يحكم العملية الانتقالية في البلاد- في قمع الاحتجاجات المناهضة للمسار الديمقراطي. في البلد الخارج من حكم البشير الذي استمر أكثر من ثلاثين عامًا.

يصف التحقيق مدينة “الأبديية” السودانية بأنها “منطقة محترقة غنية بالذهب”. تقع على بعد 200 ميل شمال العاصمة السودانية. حيث تنبع الثروات من الصخور المحفورة في الصحراء، بينما يهيمن وكيل أجنبي غامض على الأعمال هناك. وهو مجموعة “فاجنر“، التي يسميها السكان المحليون “الشركة الروسية”.

تُظهر سجلات الشركة والحكومة السودانية، أن منجم الذهب هو أحد البؤر الاستيطانية للمجموعة الروسية. وهي شبكة من المرتزقة الروس وشركات التعدين وعمليات التأثير السياسي. التي بدأت في التوسع بقوة عبر هذه الرقعة من أفريقيا. بينما يسيطر عليها الحليف المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

اقرأ أيضا: عودة الإسلاميين تربك المشهد الملتهب في السودان

شركة البنادق المأجورة

اشتهرت شركة فاجنر بأنها مورِّد للمقاتلين المرتزقة. أو من يُطلق عليهم “البنادق المأجورة”، وقد تطورت في السنوات الأخيرة إلى أداة أوسع نطاقاً وأكثر تطوراً لسلطة الكرملين. وفقاً للخبراء والمسؤولين الغربيين الذين يتابعون توسعها.

وبدلاً من كيان واحد، توصلت فاجنر إلى طرق تربط العمليات الحربية وكسب المال واستغلال النفوذ. عبر منخفضة التكلفة ويمكن -في الوقت نفسه- إنكارها، والتي “تخدم طموحات بوتين في قارة يكون فيها الدعم لروسيا مرتفعًا نسبيًا”، وفق تعبير NY Times.

ظهرت فاجنر في عام 2014 كفرقة من المرتزقة المدعومين من الكرملين، الذين دعموا معركة بوتين الأولى في شرق أوكرانيا. ثم انتشرت المجموعة لاحقًا في سوريا. وقالت المخابرات البريطانية إن ما لا يقل عن 1000 من مقاتليها عادوا للظهور في أوكرانيا في الأشهر الأخيرة. وفي عام 2017، توسعت فاجنر في أفريقيا. حيث أصبح مرتزقتها عاملًا مهمًا ومحوريًا في بعض الأحيان في سلسلة من البلدان التي تعاني الصراعات. مثل ليبيا، وموزمبيق، وجمهورية أفريقيا الوسطى، ومؤخراً مالي. حيث اتُهم مقاتلي فاجنر بارتكاب فظائع. ضد المدنيين.

يلفت تحقيق الصحيفة الأمريكية أن فاجنر صارت “أكثر من مجرد آلة حرب في أفريقيا”. وبعد إلقاء نظرة فاحصة على أنشطتها في السودان -ثالث أكبر منتج للذهب في القارة- يكشف عن مدى توغلها في البلاد. كما تظهر السجلات، حصلت الشركة على امتيازات تعدين سودانية مربحة لإنتاج الذهب. في تعزيز محتمل لمخزون الكرملين من الذهب، البالغ 130 مليار دولار. والذي يخشى المسؤولون الأمريكيون أنه يتم استخدامه لتخفيف تأثير العقوبات الاقتصادية على حرب أوكرانيا، من خلال دعم الروبل.

وفي شرق السودان، تدعم فاجنر مساعي الكرملين لبناء قاعدة بحرية على البحر الأحمر، لاستضافة سفنها الحربية التي تعمل بالطاقة النووية. وفي الغرب، وجدت الشركة منصة انطلاق لعمليات المرتزقة في البلدان المجاورة، ومصدرًا محتملاً لليورانيوم.

أكثر من مجرد آلة حرب

منذ استيلاء الجيش السوداني على السلطة، كثفت فاجنر شراكتها مع الجنرال المتعطش للسلطة، محمد حمدان دقلو -حميدتي- الذي زار موسكو في فبراير/شباط الماضي، في الأيام الأولى من حرب أوكرانيا. ونقلت الصحيفة الأمريكية عن مسؤولون غربيون قولهم إن فاجنر قدمت مساعدات عسكرية للجنرال حمدان. وساعد قوات الأمن السودانية على قمع حركة شعبية هشة مؤيدة للديمقراطية.

قال صموئيل راماني الباحث في المعهد الملكي للخدمات المتحدة -وهي مجموعة أبحاث دفاعية في لندن- ومؤلف كتاب سيصدر قريباً عن روسيا في أفريقيا. إن السودان يمثل نوع البلد الذي تزدهر فيه فاجنر. رغم نفي الكرملين وبريجوزين أي روابط يمكن أن تجمعهم بأنشطة الشركة. التي قيل إنها سميت على اسم “ريتشارد فاجنر”، الملحن المفضل للزعيم النازي أدولف هتلر. حيث أن مؤسسها كان مفتونًا بالرمزية النازية والتاريخ.

يلفت تحقيق NY Times إلى أن بريجوزين يخفي علاقاته مع فاجنر من خلال شبكة من الشركات الوهمية. والسفر عبر القارة الأفريقية على متن طائرة خاصة، لعقد اجتماعات مع الرؤساء، والقادة العسكريين. لكن، وزارة الخزانة الأمريكية، والخبراء الذين يتتبعون أنشطة بريجوزين يقولون إنه يمتلك أو يتحكم في معظم -إن لم يكن كل- الشركات التي تتكون منها شركة فاجنر.

تكشف سجلات الجمارك والشركات الروسية والسودانية، التي تم الحصول عليها من خلال مركز الدراسات الدفاعية المتقدمة -وهو منظمة غير ربحية في واشنطن- وكذلك وثائق التعدين، وسجلات الطيران، والمقابلات مع المسؤولين الغربيين والسودانيين التي أجراها المحررين. عن حجم إمبراطورية “طاه بوتين” التجارية في السودان. والذي يولي أهمية خاصة للذهب.

اقرأ أيضا: كيف باع حميدتي “ذهب السودان وأطفاله” إلى الإمارات؟

أسطورة فاجنر ومفتاح أفريقيا

في 24 مايو/ أيار، قالت وزارة الخارجية الأمريكية، في بيان. إن مجموعة فاجنر “نشرت سلسلة من الأكاذيب وانتهاكات حقوق الإنسان في جميع أنحاء أفريقيا، والسيد بريجوزين هو مديرها وممولها”. كان ذلك ضمن حيثيات إدراج الحليف المقرب من الرئيس الروسي في قوائم العقوبات الأمريكية. لكن -في رد مكتوب مطول على الأسئلة- نفى بريجوزين وجود أي مصالح للتعدين في السودان. وندد بالعقوبات الأمريكية ضده ورفض -مع تلميح- وجود المجموعة العسكرية الخاصة التي اشتهر بارتباطها بها.

قال بريجوزين: “لسوء الحظ، لم يكن لدي أبدًا شركات تعدين الذهب. أنا لست رجلاً عسكريًا روسيًا”. وأضاف: “أسطورة فاجنر هي مجرد أسطورة.”

رغم تأكيداته لعدم وجود أية صلة. بدأت عمليات فاجنر في السودان في عام 2017 بعد اجتماع في منتجع سوتشي الساحلي الروسي. وقتما بدأ الرئيس السوداني السابق عمر البشير يفقد قبضته على السلطة. كان البشير يسعى إلى تحالف جديد مقترحًا على بوتين أن يكون السودان “مفتاح روسيا لأفريقيا” مقابل المساعدة ، وفقًا لتصريحات الكرملين.

في غضون أسابيع، بدأ الجيولوجيون وعلماء المعادن الروس الذين عينتهم شركة Meroe Gold -وهي شركة سودانية جديدة- في الوصول إلى السودان، وفقًا لسجلات الرحلات التجارية. وتقول وزارة الخزانة الأمريكية إن الشركة تخضع لسيطرة بريجوزين. لذلك، فرضت عقوبات على الشركة في عام 2020 كجزء من مجموعة من الإجراءات التي تستهدف فاجنر في السودان.

في وقت لاحق، قالت وزارة الخزانة إن مدير الشركة في السودان، ميخائيل بوتبكين. كان يعمل سابقًا في وكالة أبحاث الإنترنت، الممولة من بريجوزين، المتهم بالتدخل في انتخابات الولايات المتحدة لعام 2016. ثم تبع الجيولوجيون في Meroe Gold   مسؤولون دفاعيون ومتعاقدون عسكريون روس. والذين فتحوا مفاوضات بشأن قاعدة بحرية روسية محتملة على البحر الأحمر. والتي وصفتها الصحيفة الأمريكية بأنها “جائزة استراتيجية للكرملين أصبحت فجأة في متناول اليد”.

من البشير إلى حميدتي

على مدى الأشهر الثمانية عشر التالية، استوردت Meroe Gold   131 شحنة إلى السودان. تضمنت -كما تظهر سجلات الجمارك الروسية- معدات التعدين والبناء وسيارة أمريكية عتيقة من طراز 1956 من طراز كاديلاك سيريز 62. وكذلك الشاحنات العسكرية، والمركبات البرمائية، وطائرتي هليكوبتر للنقل. وقد تم تصوير إحدى طائرات الهليكوبتر بعد عام في جمهورية أفريقيا الوسطى. حيث كانت مقاتلات فاجنر تحمي رئيس البلاد، وحيث حصل بريجوزين على امتيازات تعدين الماس المربحة.

في المقابل، سرعان ما وجد الروس أنفسهم ينصحون البشير حول كيفية إنقاذ نظامه. مع اندلاع ثورة شعبية منذ أواخر عام 2018، هددت بالإطاحة بحكومته، أرسل مستشارو فاجنر مذكرة. تحث الحكومة السودانية على إدارة حملة على وسائل التواصل الاجتماعي، لتشويه سمعة المتظاهرين. وقد نصحت المذكرة البشير بـ “إعدام بعض المتظاهرين علانية كتحذير للآخرين”.

وعندما أطاح الجنرالات بالبشير ووضعوه رهن الإقامة الجبرية في أبريل/نيسان 2019، غيّر الروس مسارهم بسرعة. فبعد أسبوع، وصلت طائرة بريجوجين إلى العاصمة السودانية الخرطوم. وعلى متنها وفدا من كبار المسؤولين العسكريين الروس. وعادت إلى موسكو مع كبار مسؤولي الدفاع السودانيين، بمن فيهم شقيق حميدتي -الذي ظهر آنذاك كوسيط- وفقًا لبيانات الرحلة، التي حصلت عليها صحيفة نوفايا جازيتا الروسية.

بعد ستة أسابيع، في 3 يونيو/حزيران 2019، شنت قوات التدخل السريع السودانية -التي يقودها حميدتي- عملية دموية لتفريق المتظاهرين بالخرطوم. والتي عُرفت بـ “مجزرة القيادة العامة” وقُتل فيها ما لا يقل عن 120 شخصًا. وفي 5 يونيو/ حزيران، استوردت شركة Meroe Gold ما يقرب من 13 طنًا من دروع مكافحة الشغب. فضلاً عن الخوذات والهراوات، لحساب شركة تسيطر عليها عائلة الجنرال حميدتي، كما تظهر الجمارك ووثائق الشركة.

في ذلك الوقت تقريبًا، انطلقت حملة تضليل روسية، باستخدام حسابات وهمية على وسائل التواصل الاجتماعي. للعمل على تفاقم الانقسامات السياسية في السودان. وهي تقنية مشابهة للتدخل الذي حدث في انتخابات الولايات المتحدة عام 2016. وقد أغلقت مؤسسة Meta ما بلغ 172 من هذه الحسابات في أكتوبر/تشرين الأول 2019. ومايو/أيار 2021. بل وربطتها مباشرة ببريجوزين.

السيطرة على الذهب

ارتفع إنتاج الذهب في السودان بعد عام 2011، عندما انفصل جنوب السودان وأخذ معه معظم ثروته النفطية. لكن، قلة قليلة فقط من السودانيين أصبحت غنية. يقول خبراء ومسؤولون سودانيون إن عائلة حمدان دقلو -حميدتي- تهيمن على تجارة الذهب. ويتم تهريب حوالي 70% من إنتاج السودان. وفقًا لتقديرات بنك السودان المركزي التي حصلت عليها صحيفة NY Times.

تضيف الصحيفة أن الذهب يمر معظمه عبر الإمارات، والتي وصفتها بأنها “المركز الرئيسي للذهب الأفريقي غير المصرح به”. يقول المسؤولون الغربيون إن الذهب المنتج في روسيا قد تم تهريبه على الأرجح بهذه الطريقة “مما يسمح للمنتجين بتجنب الضرائب الحكومية. وربما حتى حصة العائدات المستحقة للحكومة السودانية”.

ونقلت الصحيفة عن لاكشمي كومار، من Global Financial Integrit. وهي منظمة غير ربحية مقرها واشنطن تبحث في التدفقات المالية غير المشروعة. قوله: “يمكنك الذهاب إلى الإمارات بحقيبة يد مليئة بالذهب. ولن يطرحوا عليك أي أسئلة”.

مع وجود شكوك قوية في أن بعض الذهب السوداني قد يتجه مباشرة إلى موسكو. أصبح وقف تدفق الذهب الروسي أولوية بالنسبة للحكومات الغربية. في مارس/ آذار، هددت وزارة الخزانة الأمريكية بفرض عقوبات على أي شخص يساعد بوتين في غسيل مبلغ 130 مليار دولار من مخزون البنك المركزي الروسي.

وفي الفترة من فبراير/شباط إلى يونيو/حزيران 2021، قام مسؤولو مكافحة الفساد السودانيون بتتبع 16 رحلة شحن روسية هبطت في بورتسودان من اللاذقية في سوريا. وأثبتت خدمات تتبع الرحلات أن بعض الرحلات تديرها وحدة الطيران رقم 223 التابعة للجيش الروسي، واتجهت بالقرب من موسكو.

بالفعل، للاشتباه في أن الطائرات كانت تستخدم لتهريب الذهب، أغار المسؤولون على رحلة واحدة قبل إقلاعها في 23 يونيو/حزيران. ولكن عندما كانوا على وشك فتح شحنتها، تدخل جنرال سوداني، مستشهداً بأوامر من الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس الانتقالي. ليتم نقل الطائرة إلى القسم العسكري بالمطار، وغادرت إلى سوريا بعد ساعتين دون تفتيش. وفق ما تحدث مسؤول سابق في هيئة مكافحة الفساد بالسودان.