عند كتابة هذا المقال يكون قد مر أكثر من أربعين يومًا علي دعوة الرئيس (26 إبريل/نيسان) لإدارة “حوار سياسي حول أولويات العمل الوطني للمرحلة الراهنة”؛ وهي مدة كافية لتقييم في إطار -مقارن مع تجارب دول أخرى- ما جرى من خطوات في مرحلة التحضير للعملية.

وبصراحة شديدة، فإن أهم مقترح حتي الآن بعد الدعوة للحوار هو ما قدمته الحركة المدنية. وربما يكون قد أكدت عليه أطراف اخري) في بيانها الصادر في 7 مايو/أيار الماضي، بضرورة تشكيل “أمانة فنية مسئولة عن الإعداد للحوار وإدارته وصياغة مخرجاته”، وتكون تلك الأمانة من “عشرة من كبار الخبراء الوطنيين المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة والتجرد، ويتم تسميتهم مناصفة من قبل طرفي الحوار (السلطة والمعارضة)”. وعلي ما يبدو، فإن هذا المقترح قد أخذ به ويجري التفاوض علي الاسماء الآن.

اقرأ أيضًا: حوارات حول الحوار

تعتبر مرحلة الإعداد والتحضير مرحلة تفاوضية وصورة مصغرة لعملية الحوار بأكملها. وتتميز هذه المرحلة بأنها ذات طابع تفاوضي سياسي بين الأطراف المختلفة حيث تحدد نتيجة هذا التفاوض إلى حد كبير أبعاد عملية الحوار الوطني ومخرجاتها. لكن على الرغم من الطابع السياسي التفاوضي لهذه المرحلة إلا أن الجزء الفني والتقني لهذه المرحلة شديد الأهمية حيث أنه يؤثر على مخرجات المراحل اللاحقة.

مقترح اللجنة مهم لأنه ينقل الحوار إلي جهة محايدة إلي حد ما، والمفترض أن تتمتع بعناصر استقلالية تجاه اطراف الحوار؛ وإن كان هذا الاستقلال نسبي في مصر لما تتميز به نخبتها ومؤسساتها من عدم وضوح التمايز بينها وبين السلطة من جهة، وبينها وبين الانتماء السياسي من جهة اخري، إلا أن مصداقية أعضاء اللجنة المقترحة لدي قطاع واسع من المصريين، وثقلهم المعنوي في الداخل والخارج قد يضفي عليهم بعض الاستقلالية، ويساعد في مزيد من شرعية للحوار، وربما نجاحه.

إن وجود وسطاء لديهم القدرة على النفاذ إلى المؤسسات الحكومية ذات الصلة، ولديهم في نفس الوقت علاقات جيدة مع المشاركين المحتملين في الحوار يساعد في التمهيد الجيد لعملية الحوار.

وعادة ما تميز أدبيات الحوار الوطني بين ثلاثة اطراف في مرحلة التحضير: الدعوة للحوار وقد قام بها الرئيس ذاته بما يعكس أهميتها، ويكون هناك طرف آخر مسئول عن الإعداد للحوار والتمهيد له -وهو ما تقوم به أحد أجهزة الدولة “السيادية” الآن، وفي الأغلب يتم اسناد الحوار لاحقاً للجنة أو مؤسسة أخرى لإدارته.

وهذا المقترح لكي تستكمل عناصره من الناحية الفنية لابد من استيفاء النقاط التالية:

١-أهمية الحصول علي صلاحيات واضحة ومحددة لبدء اللجنة في الحوار، وأهمية الصياغة المناسبة لها.

المهمة التي ترسمها الصلاحيات هي العمود الفقري لأي حوار وطني لأنها تمثل العملية داخل سياقها السياسي الأوسع. هناك فرق بين المهمة كمستند رسمي وبينها من الناحية السياسية؛ فالأولي تأخذ شكلا قانونيا ويحدد صلاحيات وحدود الحوار السياسي، في حين أن الثاني هو الذي يعطي شرعية لهذا الحوار.

تلعب عدد من الاعتبارات الهامة دورا في تحديد الحصول على التفويض بالمهمة بشكل جيد وصياغته في شكل يساهم في إنجاح عملية الحوار، ومن هذه الاعتبارات:

– الاستقرار على البنود الرئيسية التي تشمل: الغرض الأساسي من عملية الحوار الوطني، وبنود جدول الأعمال التمهيدي، والمبادئ التوجيهية. تعتبر هذه هي العناصر الرئيسية للمهمة، لكن من الأفضل أن تشتمل أيضاً على الهيكل المؤسسي للحوار الوطني، وآليات المتابعة وآليات التنفيذ، وأساليب الحوار ومدته، وآليات التمويل -إن تطلب الأمر. ويجب على القوى المشاركة في الحوار أن تتأكد من أن الغرض الأساسي للحوار قد تم صياغته في التفويض بشكل جيد، وأن المبادئ التوجيهية لعملية الحوار واضحة ولا خلاف عليها.

– كلما كانت قضايا التفويض بالمهمة محددة وواضحة وتُظهر بشكل جلي المسائل التي تقع داخل المهمة والقضايا التي تقع خارجها؛ فإن هذا يزيد من فرص نجاح الحوار مستقبلاً. يجب أن يكون واضحاً لكل الأطراف المشاركة في الحوار ما هي القضايا المدرجة داخل الحوار الوطني، والقضايا التي تم استبعادها حتى لا تحدث مشاكل مستقبلاً حول القضايا التي ينبغي نقاشها.

يلاحظ أنه في الإمكان تغيير محتوى المهمة وحدودها مع الوقت، وذلك بالتفاوض مع الأطراف الأساسية أصحاب المصلحة، ويمكن تحديث وثيقة المهمة مع تطور الحوارات والنقاشات بحيث يتم إضافة المواضيع والقضايا التي تم الاتفاق على إضافتها. وعند الانتهاء من هذه التغييرات فإنه يتم صياغة المحتوى الجديد كتابهً وبشكل رسمي.

اقرأ أيضًا: فتح المجال العام أم إعادة تنظيمه؟

أخيراً، من المهم أن يتم تأسيس المهمة على توافق واضح بين الأطراف الرئيسية صاحبة المصلحة. إن وجود اتفاق بين هذه القوى السياسية حول وثيقة أولية تمثل نقطة انطلاق قوية للحوار الوطني وفرصه لنجاحه.

٢- تعمل لجنة إدارة الحوار المقترحة في المرحلة التحضيرية بالأساس على وضع جدول الأعمال، وهيكلية الحوار الوطني، وإجراءات اختيار المشاركين، واختيار الرئيس، والاتفاق على آليات اتخاذ القرار.

إلا أن إدارة هذه العملية يجب أن تتسم بالتشاركية من أطراف الحوار؛ فالمشاركة منذ البداية في عملية التحضير للحوار يزيد من فرص نجاحه مستقبلاً.

٣- أحد معايير نجاح لجنة إدارة الحوار هو قدرتها علي التأسيس لعملية حوار ممتدة لا تكتفي بهذه الجولة، وإنما ترسي تقاليد لجولات وجولات؛ فأزماتنا لن تنتهي في ظل سياق إقليمي ودولي يتسم بالسيولة وعدم اليقين، بالاضافة إلي ما ورثناه من العقد الماضي من قضايا، وما يفرضه واقعنا من تحديات.

غموض غير خلاق

علي الرغم من بعض التقدم الذي تحقق: أطلقت الدعوة ويصعب الرجوع عنها برغم معارضة وتشكك بعض الأجهزة والاطراف علي الجانبين، وشرع في اجراءات بناء ثقة محدودة، وتجري عملية تفاوضية لتأسيس الحوار؛ بالرغم من كل هذا إلا إن هناك عددا من النقاط التي يجب معالجتها سريعا حتي يقوى ويستقر التوجه نحو الحوار:

١- لاتزال إجراءات بناء الثقة غير كافية؛ فقد اطلق سراح عدد محدود من سجناء الرأي بغير معايير واضحة، ويشتكي أحد أعضاء لجنة العفو الرئاسي التي أعيد تشكيلها للنظر في الإفراج عن المسجونين السياسيين من تعطيل عملها لوجود خلافات بين أجهزة الدولة علي الموضوع؛ وهو أمر قد يفهم -وفق تجارب الحوار المقارنة- في سياق تخوف بعض أجهزة الدولة من تبعات الحوار وما قدمته من تنازلات عن رؤاها المؤسسية في هذا الصدد، وهو ما يمكن معالجته بضمانات متبادلة بين اطراف الحوار جميعا في الحال ومستقبلا.

اتسمت عمليات الإفراج حتي الآن بالتمييز بين التيارات السياسية حين جري الافراج من داخل التيار المدني فقط مستثنيا التيار الإسلامي، وبالتمييز داخل التيار المدني حين تم الافراج عن شخصيات دون اخري.

وبرغم اطلاق سراح عدد محدود إلا أن الممارسة القديمة في القبض علي منتقدي النظام في السوشال ميديا، وبعض الصحفيين والمحامين المدافعين عن حقوق الانسان لاتزال مستمرة، وقد شهدت الفترة اصدار أحكام قاسية علي بعض المعارضين السياسيين والصحفيين بما يطرح التساؤل حول جدية السلطة.

٢- اطلقت عملية تشاورية واسعة حول التحضير للحوار؛ فقد دعي الجمهور للمشاركة بمقترحاته عبر عنوان بريد إلكتروني حددته الهيئة الوطنية للتدريب التي كلفها الرئيس بالإعداد للحوار، كما أرسلت دعوات لشخصيات لاستطلاع رأيها في الموضوع، وبالرغم من أهمية هذه الخطوة في إشراك الجمهور وتوسيع دائرة المؤمنين بالحوار، إلا إنها اتسمت بالغموض والتمييز أيضا حيث لا وضوح لمن دعي ولماذا دعي، ولا لمن استبعد لماذا استبعد، وأخشى أن تكون هذه العملية جزءا من تصور أكبر لاعادة هندسة الحياة السياسية بدمج بعض الكيانات والشخصيات واستبعاد البعض الآخر، وقد ثبت فشل هذه الاستراتيجية علي مدار السنوات الثماني الماضية؛ فقد كانت احد العوامل التي اوصلتنا إلي ما نحن فيه الآن.

الإدماج وعدم الإقصاء يساعد على التحضير الجيد للحوار بالتأكيد على وجود الأصوات والآراء المختلفة أثناء عملية التحضير للحوار. فواحد من عيوب أي حوار سياسي هو محاولته إقصاء طرف سياسي رئيسي أو مؤثر من الحوار. دور القوى السياسية المشاركة في الحوار التأكد من عدم إقصاء أي طرف رئيسي من الحوار، ومعارضة ذلك إن حدث.

ومن المفارقات أن الرئيس في دعوته للحوار قد أكد علي شمول الحوار للجميع دون إقصاء لاحد؛ “فالخلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية” -علي حد قوله، لكن ترك للإعلام المحسوب علي النظام ليرسم حدود الداخلين في الحوار والخارجين عنه في استمرار لممارسة السياسة باستخدام أدوات إعلامية وليست سياسية، والمفارقة الاخري أن بعض قوي التيار المدني هي من تزعمت الإقصاء لاطراف سياسية بعينها بحكم اسمهم وانتمائهم السياسي وليس وفق شروط يمكن إعلانها والتحاور حولها، ولم يتقدم احد حتي الآن -لا الدولة ولا المعارضة- لتقديم إجابة عما ينبغي فعله بالنسبة للقوي الاجتماعية المؤيدة لهذا التوجه السياسي المستبعد.

٣- المشهد الإعلامي يشهد قدرا من التطور الهام؛ فقد شهدنا حضورا لبعض أصوات المعارضة في الشاشات الرسمية بعد غياب استمر لسنوات، بالاضافة إلي عدم وصفهم بالعمالة والخيانة الوطنية والتآمر مع الخارج وهو تطور مهم؛ ففيه استعادة للسياسة مرة اخري حين يصير الخلاف ليس حول الوطن ولكن في الوطن، ولا حول السياسية ولكن في بدائل السياسات، ولا يعني هذا انتفاء تام لهذا الخطاب إذ لايزال يستخدم إزاء بعض المعارضين وخاصة معارضة الخارج، وقد علمتنا خبرة السنوات الثماني الماضية أنه إن استخدم تجاه طرف فإنه بالضرورة سيمتد إلي الجميع مستقبلا.

٤- من الملاحظ وجود تفاوت في تحديد الهدف من الحوار ممن لا ينتمون إلي السلطة، فإذا استبعدنا المتشككين والمزايدين؛ فإن هناك من يري في الحوار سبيلا لإطلاق سراح بعض المعتقلين، وهناك من يراه طريقا لتحسين حقوق الإنسان في مصر، وهناك من يراه خطوة هامة للإصلاح السياسي واستعادة المجال السياسي مرة اخرى. هذا التفاوت مبعثه أمران: اختلاف في تقدير الواقع وقراءته، وغياب حوار بين فرقاء المعارضة حول الواقع والهدف من الحوار؛ وفي هذا وهن على وهن لهم.

٥- تعلمنا التجارب المقارنة أن الحديث في النيات لا يفيد. سلوك المتحاورين، ورغبتهم في انجاحه هو الأهم.

قد يدخل أحد الأطراف الحوار بنية فاسدة كما فعل نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا حين أراد أن يقسم حزب المؤتمر -حزب مانديلا، لكن العملية تطورت حتي تم إنهاء وتفكيك نظام الفصل العنصري، وأظن أن أهم ما تحقق حتي الآن وبغض النظر عن جدية النظام من عدمه في إحداث تغيير سياسي شامل أو تأسيس للجمهورية الجديدة علي اسس وتقاليد جديدة مختلفة نوعيا عن ممارسات دولة يوليو ٥٢؛ الأهم أن الدولة يمكن أن تقدم بدائل سلمية لقضايا التنافس علي الحكم تمهيدا للالتزام بها ولو في المستقبل، ويمكن أن تكون مدخلا لدمج القوي السياسية التي تم استبعادها من الحوار الآن.

بعبارة اخري؛ الحوار وليس القمع، والخلاف في الوطن وليس حوله، والتنافس حول بدائل السياسات وليس حول السياسة، والشمول وليس الإقصاء هي معيار نجاح الحوار الوطني، ومرجعية السياسة -أو هكذا يجب أن يكون.