أكثر من قرنين من الزمن وما يسمى الدولة الحديثة تنتقل من تشوه إلى تشوه، فلا هي قديمة ذات ملامح تحفظ لها أصالتها، ولا هي حديثة ذات ملامح تكسبها صفة المعاصرة، تنطوي في أحشائها على أسوأ ما في القديم من تخلف مع أسوأ ما في الحديث من استبداد يعقبه فساد.

لم تتوقف الدولة الحديثة عن المتناقضين، لم تتوقف عن استقدام الخبرات الأوروبية، وفي الوقت ذاته لم تتوقف عن التخلف، ليس فقط التخلف عن الغرب، لكن كذلك التخلف عن الشرق، الشرق بمعناه الأسيوي، كما الشرق بمعناه العربي، وإذا وضعت في الحسبان ما تمثله نشأة إسرائيل من ميلاد قوة غربية متقدمة فلك أن تتخيل كم وكيف التحول الذي طرأ على معنى التخلف ذاته.

من دولة محمد علي باشا 1805 – 1848 إلى ما يسمى الجمهورية الجديدة 2014 – 2022 لم يتوقف استقدام واستدعاء الخبرات الأوروبية في العمران وتخطيط المدن، في التسليح، في محطات الطاقة، في السكك الحديد، في القطارات، في المطارات، فضلاً عن المشورة والنصائح والتمويل والقروض والاستثمارات، ورغم ذلك فإن هذه الدولة الحديثة تتناقص قدرتها على ضمان الحياة المعقولة لمواطنيها في الداخل ، كما تتناقص قدرتها على التأثير في الخارج، انتقلت في عهد محمد علي وسلالته من إمبراطورية إلى مستعمرة بريطانية، ثم انتقلت في عهد ضباط الجيش من دولة تستطيع بناء انجاز عظيم مثل السد العالي إلى دولة لا تملك القدرة لفرض شروطها على مشروع مضاد تبنيه إثيوبيا على النيل.

من يقرأ تاريخ مصر في القرن التاسع عشر يلحظ – بسهولة – ما يتوافد على أبواب الحكام ، محمد علي باشا وورثته – من أوروبيين منهم المغامر ومنهم التاجر ومنهم الجاسوس ومنهم المستشرق ومنهم سارق الآثار ومنهم الباحث عن وظيفة ومنهم المرابي والممول ، كذلك من يقرأ ويتابع نشاط الحكومة المصرية 2014 – 2022 يلحظ الكم الهائل للمقابلات والزيارات والاتفاقيات مع الأوروبيين الذين يتنافسون اليوم- مثلما كانوا يتنافسون على أبواب الخديوية – للفوز بنصيب من صفقات المشاريع الضخمة في المدن الجديدة ومحطات الطاقة الكهربية والنووية والقطارات والسكك الحديد وغيرها من مشاريع بالمليارات وكلها بالديون وكلها تحت التصرف المنفرد للسلطة التنفيذية دون رقابة حقيقية من البرلمان ودون علم الشعب الذي يسمع بها فقط في نشرات الأخبار الرسمية باعتبارها إنجازات وطنية.

هذه الحداثة، من محمد علي باشا، إلى ما يسمى الجمهورية الجديدة، لم تختلف في نظرتها إلى الشعب، فهي -تقريبًا- لا تراه، وهو -في المقابل- لا يراها، وإذا رآها لم يتفاعل معها ، فهي لا تنقل له رسالة ما، وهو لا يتلقى عنها أي معنى، يتجاوران -الإنسان والحداثة- دون انسجام ولا تقارب.

كل ما تبقى، وما يتبقى، في الوجدان العام، من هذه الحداثة هو أنها لم تكن ولن تكون غير تمكين طبقة من الحكام على حساب الشعب ونفقته واعتصاره دون هوادة، وما يتم استجلابه من أوروبا ليس أكثر من أدوات لإنجاز هذا التمكين المضاد للشعب ومصالحه.

***********

التأريخ للحداثة، سواء بالغزو الفرنسي 1798 أو بحكم محمد علي باشا 1805، إدانة للحداثة ذاتها، فهي – بهاتين البدايتين -ليست أكثر من انسلاخ تدريجي من الجذور والالتحاق القسري بالتبعية للغرب، هذا الالتحاق ليس أكثر من فقدان مزمن للثقة في الذات ، وليس أكثر من إجهاض دائم لأي حداثة حقيقية.

قبل الغزو الفرنسي وقبل محمد علي باشا كانت مصر جزءًا من طليعة حركات التحرر القومي للإستقلال عن العثمانية المريضة المتداعية، مصر كانت سابقة- في تجربة علي بك الكبير 1728- 1773- لكافة حركات التحرر القومي سواء في شرق أوروبا أو اليونان أو الشام أو جزيرة العرب.

كل ما أنجزته الحداثة المشوهة – الغزو الفرنسي ثم محمد علي وسلالته- هو الجمع بين الاستعمارين التركي والأوروبي معًا، عاشت مصر في تبعية مزدوجة للعثمانيين وللأوروبيين على ما بين الأوروبيين من صراع وتنافس، ومازالت هذه الحداثة المشوهة تسكن مفاصل الدولة المصرية المسماة بالحديثة من زاويتين : زاوية ازدراء الحكام للشعب والنظر إليه باستعلاء، ثم زاوية الخضوع للأجنبي- وبالذات الأوروبي- والوقوف أمامه بقدر ملحوظ من الدونية وفقدان الثقة بالذات. وقد تتغير طبقات الحكام لكن لا تتغير هاتان الخاصتان من خصائص الدولة الحديثة: استعلاء على الشعب في الداخل، ودونية خاضعة تجاه الأجنبي في الخارج.

للأسف الشديد: المماليك هم آخر نماذج الحكم الوطني، ورغم ما شاب تاريخهم من توحش ، فإنهم كانوا آخر قلاع الاستقلال القومي، انكسروا أمام نابليون بونابرت، ثم انكسروا أمام محمد علي باشا، ثم انفتح الطريق أمام أطول فترة من فقدان المناعة الذاتية والحصانة القومية في ظلال ما يسمى الدولة الحديثة.

الكاتب الفرنسي إدوارد جوان كان معاصرًا لحكم محمد علي باشا وكان مقربًا منه وهو أول من أطلق عليه لقب “بونابرت الشرق”، ألف كتاباً عن محمد علي باشا عنوانه في الترجمة العربية “مصر في القرن التاسع عشر، سيرة جامعة لحوادث ساكني الجنان محمد علي باشا ونجله إبراهيم باشا والمغفور له سليمان باشا الفرنسي من الوجوه الحربية والسياسية والتاريخية، تأليف إدوار جوان، تعريب المحرر الفني بوزارة الداخلية ، الطبعة الأولى بالقاهرة 1340 هجرية 1921، أشار بطبعه وتعريفه صاحب السمو الأمير يوسف كمال”.

الكتاب – يزيد عن 800 صفحة – يبدأ بالحروب الصليبية والصراع المصري – الفرنسي في إطارها، ثم يؤرخ باختصار للمماليك ، وهنا يتبنى وجهات النظر الموروثة عن الصليبيين في المماليك ، كما يتبنى وجهات نظر بونابرت فيهم، صحيح بونابرت لم يكن صليبياً، لكنه -بكل يقين- كان أول وأكذب الاستعماريين الأوروبيين، لم يحارب المماليك بدوافع دينية، لكن بدوافع تجارية فقد كانوا حائط صد ضد الترهل العثماني الذي أباح مصر وغيرها من الولايات العثمانية لسيطرة التجارة والصناعة ورؤوس الأموال الأوروبية، رغم أن ما يسمى بالامتيازات الأجنبية أو التنازلات التجارية والقانونية والقضائية التي قدمها السلاطين العثمانيون للأوروبيين، إلا أن المماليك حافظوا – بصلابة – على قدر كبير من استقلال التجارة والصناعة والسوق والمواني المصرية، وهو مالم يكن محل رضا قناصل أوروبا وتجارها وصناعها ومرابيها ومغامريها بما فيهم الفرنسيين وبما فيهم بونابرت ، كان المماليك خط دفاع حصين ضد أوروبا الاستعمارية مثلما كانوا خط دفاع حصين ضد أوروبا الصليبية، لكن كانت نهايتهم قد جاء أوانها، وتواطأوا على أنفسهم، وتواطأ عليهم الجميع من فرنسيين وأوروبيين وعثمانيين بما خدم محمد علي في الإجهاز النهائي عليهم كطبقة حكم مستقلة.

***********

في كتابها “ديليسبس وقناة السويس – عبقرية الإنسان والتاريخ ” تذكر الكاتبة الأمريكية لورا لونج أن ديليسبس الأكبر -والد فرديناند ديليسبس- كان صديقًا شخصيًا لنابليون بونابرت وواحدًا من الأذرع الدبلوماسية شديدة الولاء والإخلاص له، وقد عينه بونابرت قنصلًا عامًا لفرنسا في مصر، وبعد رحيل الحملة الفرنسية عن مصر اشتد الصراع من جديد بين المماليك ومنهم الموالي لفرنسا ومنهم الموالي لبريطانيا ومنهم الموالي لروسيا ومنهم الموالي للعثمانيين، ثم كان للإنجليز موضع قدم من خلال قواتهم وأساطيلهم التي تحالفت مع العثمانيين لطرد الفرنسيين ، ثم كان العثمانيون أنفسهم يكافحون لاسترداد حضورهم الشرعي في مصر، وبين كل أولئك كان المدعو محمد علي الضابط المقدوني أو الألباني أو الأرناؤوطي أو أيا ما يكون وصفه كان يلعب بين الجميع ومع الجميع وضد الجميع لمصلحته التي كان من الذكاء بحيث يخفيها.

في تلك الأثناء طلب بونابرت من ماثيو ديليسبس أن يرشح له متنافسًا عنده فرص للفوز في الصراع على حكم مصر بحيث تراهن عليه فرنسا وتقف بجانبه، فرشح له محمد علي دون سواه من المتصارعين والطامحين، ولهذا عندما درات الأيام وتم تعيين ديليسبس الابن نائبًا للقنصل الفرنسي العام في مصر 1832 كان اللقاء حميمًا بينه وبين محمد علي باشا الذي احتفظ بجميل ديليسبس الأب عليه وأكرم استقبال ديليسبس الابن، وطلب منه أن يتولى تربية نجله سعيد أو الخديوي سعيد بعد ذلك 1854 – 1863 وهو من استجاب لعرض ديليسبس الابن لمشروع قناة السويس.

نابليون بونابرت يطلب من ديليسبس الأب مرشحًا لحكم مصر يخدم المصالح الفرنسية ، فيرشح له محمد علي دون سواه، ثم محمد علي باشا يحتفظ بمعروف الأب ويفتح قلبه لديليسبس الابن، ثم ديليسبس الابن يقنع النجل سعيد بمشروع قناة السويس، ثم تتمكن فرنسا من استعمار مصر بصورة فعلية دون حملة ودون جيوش ودون أساطيل حتى تنتزعها منها الأكثر دهاءً ومكرًا أي الامبراطورية البريطانية.

من ترشيح محمد علي باشا للحكم مدعومًا من فرنسا 1803 إلى تثبيت حفيده توفيق في الحكم مدعومًا بغزو عسكري بريطاني 1882، بين التاريخين، كانت الدولة الحديثة لا شيء غير مخلب قط أوروبي من الغزو المدني الفرنسي حتى الغزو العسكري البريطاني.

في كتابة “مصر في القرن التاسع عشر- سيرة جامعة لحوادث ساكني الجنان محمد علي باشا وإبراهيم باشا والمغفور له سليمان باشا الفرنساوي” ينشر إدوارد جوان رسمًا تعبيريًا يجمع الرجال الثلاثة الأب والابن والعسكري الفرنساوي على أنهم شركاء في تأسيس مصر الحديثة، وأن العسكري الفرنساوي هو الابن الروحي لمحمد علي باشا، وأنه -العسكري الفرنساوي – ومعه عشرين من أبناء جلدته الفرنسيين تعاهدوا على بلوغ مصر إلى المكانة التي تبوأتها عن جدارة واستحقاق.

***********

في كتابها “محمد علي وفرنسا 1805-1849- القصة الفريدة لنابليون الشرق” تنقل كارولين جوتييه كورخان عن المصادر الفرنسية تصريحات منسوبة لمحمد علي باشا في مراحل مختلفة من صعوده السياسي تعكس نظرته لفرنسا.

– في مايو 1832 يقول: أدين لفرنسا بما أنا عليه وسوف أدين لها بما سأكون.

– في مايو 1841 يقول: ما من صديق مخلص لي سوى فرنسا.

– وبدون تاريخ يقول: أدين بكل شيء لفرنسا، إن من ساعدوني على الخروج من البربرية التي كنا منغمسين فيها فرنسيون، إن أسطولي وتنظيم قواتي ومؤسساتي وتجارتي ليست إلا ثمرة لهذا العمل النبيل، فكيف لا أحب الفرنسيين”. جاءت هذه الكلمات في سياق حديث الباشا عن المجهودات التي قدمها الفرنسيون الذين دخلوا في خدمته بعد سقوط المشروع النابليوني 1815.

ثم تنقل عن إدوارد جوان – أول من أطلق لقب بونابرت الشرق على محمد علي- قوله في مخاطبة القائد إبراهيم باشا “يا خليفة الله، يا إبراهيم، يا حدقة عين ذلك الشرق الذي هو عين أخرى للعالم ، فلتكن لمصرك الشابة مثل ندى الصباح”.

لقد حافظت فرنسا في كل عهودها على ما تمثله الدولة الحديثة أو دولة محمد علي باشا من خدمة للمصالح والنفوذ والثقافة الفرنسية في مصر، لم تختلف النظرة من نابليون إلى لويس الثامن عشر إلى شارل العاشر إلى لويس فيليب، لم تختلف النظرة رغم ما بين هذه العهود داخل فرنسا من اختلافات وحزازات وعداوات ، كان الحفاظ على دولة محمد علي باشا هو القاسم المشترك بين حكام فرنسا على مدى نصف قرن شهد حربًا فرنسية- أوروبية كما شهد ثورتين، ثورة 1830 أسقطت شارل العاشر، ثم ثورة 1848 أسقطت لويس فيليب.

***********

مشاريع التحديث، في كثير منها ، سواء في عهد محمد علي باشا وسلالته، أو بعد ذلك، هي – في التحليل الواقعي المحض – مصالح أوروبية مباشرة، مصالح أفراد أو شركات أو دول، سواء تأسيس جيش أو بناء أسطول أو سكة حديد أو محطة طاقة أو صفقات تسليح أو ما شابه ذلك من مشاريع منقولة من الخارج للداخل يترتب عليها نزح ثروات منقولة من الداخل للخارج.

***********

الحديث مستأنف الأربعاء المقبل بمشيئة الله.