في يونيو/حزيران من كل عام يشرق على الكنيسة القبطية فجر العائلة المقدسة، فتجعل من رحلتها إلى مصر عيدًا على أجندتها، يحتفل به الأقباط في كنائسهم. لا سيما تلك الكنائس والأديرة التي تعتبرها الكنيسة محطات لرحلة أشهر عائلة ربما في التاريخ الإنساني كله.

رحلة العائلة المقدسة في الإنجيل

أديرة وكنائس، موالد واحتفالات، زيارات ونذور ترتبط بتاريخ محكي عن العائلة المقدسة في مصر، التي يؤمن الأقباط أنها زارت بلادهم في رحلة الهروب من فلسطين، استنادًا لنص الإنجيل القائل “خذ الصبي وأمه وأهرب إلى مصر” (إنجيل متى، الإصحاح الثاني). وهو الأمر الذي لا يتفق عليه بقية المسيحيين من الطوائف الأخرى، ويشرحه ماركو الأمين الباحث في التاريخ الكنسي قائلًا: بالنسبة لارتحال المسيح إلى أرض مصر، فالمسيحيون من كل الكنائس والمذاهب يؤمنون بتاريخية حدوثه حسب نص الإنجيل الوارد في متى 2 : 13. وهو يضيف: لكن تلك الرحلة ومثل غالبية أحداث طفولة المسيح لا نجد أي تفاصيل عنها، ولا أماكن اختباء بعينها ولا مدد إقامة.

خريطة المسار (موقع الأنبا تكلاهيمانوت القبطي الأرثوذكسي)
خريطة المسار (موقع الأنبا تكلاهيمانوت القبطي الأرثوذكسي)

يؤكد مارك فلبس الباحث في اللاهوت الأرثوذكسي ما قاله ماركو. يوضح: تؤمن كل الكنائس بما جاء في الإنجيل أن يسوع المسيح وأمه قد أتوا مع يوسف النجار إلى أرض مصر. وهذا تقليد شريف تم اعتماده مع استلام الإنجيل. أما ما زاد من أحداث وتفاصيل، يأتي بعضها من أناجيل الطفولة الغنوسية والبعض الآخر من مرويات شعبية تدفعها الرغبة في إضفاء تميز مخصوص على موقع أو كنيسة معينة. فهو ليس جزءًا من التقليد المقدس.

يستند فلبس والأمين إلى نص الإنجيل باعتباره دليلًا على تلك الرحلة. بينما يشتد الجدل بين تيارين من باحثي الدراسات اللاهوتية ليس في سردية العائلة المقدسة وحدها، وإنما بشكل عام حيث يؤمن باحثو التيار التقليدي أو المحافظ بتاريخية أحداث الإنجيل. فما ذُكر في الكتاب المقدس قد وقع فعلًا. وفي المقابل لا يرى باحثو التيار الليبرالي في نصوص الإنجيل دليلًا على تاريخية الحدث الذي يتطلب أدلة أخرى من الأركيولوجي والمخطوطات.

العائلة المقدسة في مصر كتقليد كنسي

أما الكنيسة القبطية الأرثوذكسية -وفقًا لماركو الأمين- فقد تعاملت مع رحلة العائلة المقدسة كتقليد كنسي ظهر في القرن الخامس الميلادي دون أي سند أرثوذكسي معروف. ولكنه مقتبس من الأناجيل الأبوكريفية المنحولة والأدب القبطى الرؤيوي وعلى الأمص الرؤيا المأخوذة عن ثيؤفيل رئيس أساقفة الإسكندرية 385-412.

اقرأ أيضًا: كيف يجدد عيد دخول المسيح مصر طموحات الكنيسة سياحيا؟

يختلف مارك فلبس الباحث في اللاهوت القبطي مع تلك الفرضية. فلا يتفق مع أن مسار العائلة المقدسة بشكله المعروف حاليًا من التقليد الكنسي. يقول: في أكثر عمليات ابتذال المفاهيم الكنسية تكرارًا، يتم اختزال مفهوم التقليد المقدس إلى مجموعة من الحكايات الشعبية عن تاريخ كنيسة محلية. وليس أوضح على ذلك مما يُسمى رحلة العائلة المقدسة إلى مصر. كل تلك الأماكن والأحداث في الرحلة لا يوجد لها دليل خارج التاريخ الكنسي للكنيسة القبطية. تفاصيل الرحلة وأماكنها لم تهتم أي كنيسة أخرى في العالم برصدها سوى كنيسة مصر.

يعتبر مارك إن إطلاق عنوان “التقليد الكنسي” أو “التقليد المقدس” على رحلة العائلة المقدسة التي يصفها بالحكايات الشعبية تجليًا لحركة الأدلجة التي تنتهجها الكنيسة القبطية لتَثبِت سرديتها وتُثبِّتها باعتبارها أعظم كنائس العالم التي شرفها المسيح بالمكوث في أرضها ثلاثة سنوات ونصف السنة. مضيفًا: الأدلجة هو أن يتحول مفهوم التقليد المقدس -وهو المرتبط بمعنى الإيمان المسيحي الجامع- إلى مجرد أداة لتقديس تاريخ غير موثق لكنيسة محلية لتثبت مركزها المتميز وسط كنائس العالم.

المائدة الأثرية داخل دير السريان من آثار العائلة المقدسة
المائدة الأثرية داخل دير السريان من آثار العائلة المقدسة

مسار العائلة المقدسة المعاصر كجزء من التراث الكنسي

يحلل الأمين ما يعرف بمسار العائلة المقدسة بوضعه الحالي. فيقول: المتابع لنقاط المسار يجد أنها فى الأغلب كانت نقاط عبادة نشطة للديانات المصرية والهلينية القديمة، وتم تعميدها أو تنصيرها لترث الكنيسة المصرية الحضارة القديمة وتحل محلها صابغة تكوينها عليها.

يتتبع الأمين حكاية هذا المسار. فيقول: بحلول القرن السابع الميلادى كان مسار العائلة أو رحلة العائلة المقدسة داخل أراضي مصر أصبح تقليدًا ثابتًا ومسلمًا به. لكن أهميته انهارت في العصر المملوكي على الأخص وأصبح حبيس المخطوطات.

يضيف: لكن مع نهضة الكنيسة القبطية في القرن العشرين، عادت الحياة لمسار العائلة المقدسة مرة أخرى، وبدأ التنبيه والإعداد وإخراج ما في المخطوطات للتسابق على الاحتفال بإظهار هذا الشرف العظيم. وقد بدأت إرهاصات انتظام الاحتفالات بطول المسار فى عهد البابا كيرلس السادس. مع العلم أن الموالد في تلك البقاع قد ترجع لعصر محمد علي.

يواصل الأمين سرده لرحلة مسار العائلة المقدسة في التاريخ الكنسي، فيشير إلى أن نقاط مسار العائلة المقدسة قد أصبحت أماكن احتفالات منظمة في عهد البابا شنودة الثالث. ثم تبنت الدولة رؤية الكنيسة القبطية لما يعرف بمسار زيارة العائلة لمصر وأخذت في تطويره ليكون مصدرًا لجذب السياحة الدينية وخاصة للسائحين الكاثوليك.

يجدد مارك فلبس رفضه لاعتبار رحلة العائلة المقدسة جزءًا من التقليد الكنسي. يقول: مشكلة هكذا تسميات أن غرضها يكون تحويل العادي إلى مقدس، والمصطنع وغير الموثق إلى ركن إيماني وعقيدي. بل وفزاعة لكل من يشكك فيه أو يشرِّحه على طاولة التاريخ، وسيف مسلط على رقاب كل من يُراجع تلك السردية. وما يبنى حولها من تشكلات للهوية، بل ومكاسب وتجارة وأموال تقدر بالملايين، تدخل إلى خزائن الكنائس. خاصًة إذا ما ارتبطت تلك السردية بالموالد والكرنفالات الشعبية.

ما هو مسار العائلة المقدسة في مصر؟

مسار رحلة العائلة المقدسة في مصر يضم 25 نقطة تمتد لمسافة 3500 كم ذهابًا وإيابًا من سيناء حتى أسيوط. حيث يحوى كل موقع مرت به العائلة على مجموعة من الآثار في صورة كنائس أو أديرة أو آبار مياه. بالإضافة إلى مجموعة من الأيقونات القبطية الدالة على مرور العائلة المقدسة بتلك المواقع. ذلك وفقًا لما أقرته الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر.

واهتمت وزارة السياحة والآثار بتطوير مواقع الآثار القبطية التي مرت بها العائلة المقدسة أثناء رحلتها في مصر. حيث تم توثيق وترميم وتطوير محطات رحلة العائلة المقدسة. ومنها الانتهاء من ترميم كنيسة أبي سرجة بمصر القديمة، وترميم كنيسة السيدة العذراء مريم والشهيد أبانوب بسمنود فى عام 2016.