في تقدير مستحق، وربما متأخر، حاز المخرج المصري داوود عبد السيد (1946) جائزة النيل، والتي رأى البعض فيها، دلالات منها الالتقاء بين العرفان بقدر المبدع رسميًا، والمساحة التي نالها لدى الجمهور. فقبل جائزة النيل، حازت أعمال فليسوف السينما (تسعة أفلام) على فضيلة البقاء والمحبة. ذلك رغم ما اشتكى منه مؤخرًا من تخريب عمليات التلقي، والمحاذير التي تعيق فضاء الإبداع السينمائي الجاد. فضلًا عن الفضاء السلطوي، حيث لا يمكن إنتاج ما يتماس مع الواقع ويجسده.
الانتصار للأمل والحياة في سينما داوود
يمكن قراءة سيرة ومشوار شاعر السينما، في ضوء مرتكزات ثلاثة؛ الارتباط بالأرض، والانتصار للأمل والحياة، والانحياز إلى الإنسان في مواجهة الهزائم، وأشكال القهر الاجتماعي والسياسى. إذ يمثل داوود عبد السيد نموذج المخرج المرتبط بالأرض والتاريخ الاجتماعي. والناس هم القضية والحدوتة، يجسد أحلامهم وآمالهم المحتجزة من بنى السلطة.
منذ أن تخرج داوود عبد السيد من معهد السينما 1967 وصُدم بالهزيمة هو وجيل كامل، بدأ البحث عن أسباب النكسة، وتناقضات النظام الاجتماعي والسياسي الذي خلّف هذا المأزق.
بدأ داوود عبد السيد العمل السينمائي كمساعد مخرج في فيلم الأرض (1969)، والبدايات مؤثرة، وتبقى مع رجل اختار أن يبدع عبر رؤى واقعية، يخوض مجالات التأليف والإخراج السينمائي والأفلام التسجيلة في تكامل بين أدوات وأنماط الإبداع، في ظل ووحدة الرسالة والمنطلقات التي أحب تجسيدها. وقد كان المستهدف عقل المشاهد كما يقول. لذا، فإنه خلال رحلته الإبداعية ظل يطارد الأحلام ليمتلكها، ثم يهديها ملكية مشاع إلى الجمهور عبر شاشات السينما. ولعل هذا ما يبرر نظرته حول هذه الأحلام التي يراها اليوم محاصرة تحتاج من يفك أسرها، أثيرة الاستغراق أو الإغراق كهدف مقصود. إذ تبدو كما يراها حاليًا لا تتماس مع الواقع، وتخاصم الحقائق والهموم المعاشة.
أثنوجرافيا داوود عبد السيد
بعد أن قرر مغادرة موقع مساعد مخرج، حمل الكاميرا لينفذ أفلامًا تسجيله تركز على حكايات الناس، وهي تحمل تاريخًا اجتماعيًا، وصفًا أثنوجرافيًا، مهتمًا بمشاهد ووقائع تصور نظم المجتمع وأنساقه. وقد استغرقت فترة السينما التسجيلية تلك عشر سنوات من حياته الفنية. وربما تكشف بعدًا جديدًا إلى جانب الإخراج والكتابة في داوود عبد السيد. فتجربة الفيلم كبحث أثنوجرافي عن الناس وحياتهم، هي اكتشاف لما في حياة الناس من تنوع، على حد قوله. وهذا ينطبق تمامًا على مساره فيما بعد.
فالناس ووقائع حياتهم وبعض تفاصيل معيشتهم اليومية موضوعًا لسينما داوود عبد السيد. وهي بحق تحمل سمات الفيلم الأثنوجرافي، التي تنطلق من المعاش والواقعي، فتعيد تركيبه وخلقه. وربما يشير ذلك إلى حب داوود عبد السيد الجمع بين التصوير في الاستديو والتصوير في الشارع. بينما السمة الثالثة هي الجدية، إلى جانب عرض التنوع الثقافي والاجتماعي.
اقرأ أيضًا.. لماذا سكتت “مزامير داوود” عبد السيد؟
أرض للخوف وأخرى للأمل
عاد داوود عبد السيد للسينما مرة أخرى بفيلم “الصعاليك 1985″، واختار أن يكتب معظم سيناريوهات أفلامه. يروي الحكاية فترى شخوصه، لحمًا ودمًا، مزاجيًا حزنًا وفرحًا، يرتبط بالأرض ويروى عن تنوع في نسيج البشر والمجتمع، وسياقات متعددة.
هناك أرض للخوف، وأرض للأمل وأخرى تختلط فيها مساحات الحلم والوهم. الأرض إذا هي السياق لحركة الأرض والرواية، بما تحمله من معاش للناس. هي التيمة الأساسية لأفلام دادو عبد السيد، التي ارتبطت ربما بجرح غائر أحدثته النكسة.
لغته السينمائية تروي حكايات مصر وأهلها، التي توضح مدى التنوع والثراء والتناقضات أيضًا، وتغيرات الزمن والسياقات. هناك أرض الخوف وحكايات عن سارق الفرح، وأرض للأمل وأرض للوهم، حين يتبدى في صورة “أرض الأحلام”
حصان خيال داوود عبد السيد
ينشغل شاعر السينما بطرح الصور المدهشة والأسئلة العميقة اليسيرة في التلقي، وفي الوقت ذاته الغنية بجماليات الصورة والموسيقى وحكايات البشر التي تنسج فصولًا من التاريخ الاجتماعي للمصريين. الأفراح المؤجلة، التي سًرق بعضها، والآمال التي تنتظر التحقق. هو صاحب “أرض الأحلام”، يدون التاريخ، ويقاوم الاستسلام، يتتبع الشخوص في فيلم “سارق الفرح”، ويلعن من زرع البؤس في أرض يصفها بالأمل، رغم تجليات وجبروت من يريدون حصارها في “أرض الخوف”.
يجسد كل عمل لداوود عبد السيد نحتًا بارزًا فى الوجدان والذاكرة، يستخدم الموسيقى والحكاية والحوار، يرسم بعناصر إبداع متعددة، جدارية سينمائية تقاوم النسيان، وتؤكد على القيمة الفنية، من خلال تناول حكايات الناس العادية.
“الكيت كات” تعبير عن حالة شاعر السينما وفليسوفها، التي أنتجت واحدًا من أعظم أفلام السينما المصرية وأكثرها رسوخًا وقربًا للناس؛ لأنه يشبه بعضًا من جروحهم وحكايتهم.
حرص داوود عبد السيد على كتابة السيناريو والحوار في ثمانية أفلام، ليجمع بين الكتابة والرؤية الفنية، الفكرة وسُبل ترجمتها فنيًا، لتحمل من الإمتاع والجمال الفني ما يكثف الفكرة، يعمق قوة التأثير والرسالة، ويكشف تناقضات الحياة والمجتمع، والصراع بين مراكز وبنى السلطة، وآثار معاول القهر على فئات اجتماعية تجسد بعض أعمال داوود عبد السيد فيها دراسات حالة.
ليس غريبًا أن تكون كثير من شخصيات أفلام داوود عبدالسيد متماهية مع حياة الجمهور، وتبقى عبر الأجيال. إنه داوود عبد السيد صاحب التجربة الفريدة و”قدرات غير عادية” إن شئت التوصيف، في استعارة لعنوان فيلمه الأخير (2015).
وإذ يعيد التقدير المستحق بعض من الفرح، فإن ركوب “حصان الخيال” كما يدعو صوت يوسف في فيلم “الكيت كات”، وخلال مشهد ظاهر فيه نيل القاهرة، ربما يؤشر إلى أن تجربة داوود عبد السيد ربما تمتد، وربما يراجع قرار اعتزاله ويتغير الظرف الموضوعي أيضًا.. عندنا أمل.
أخيرًا مبارك أبا يوسف، دمت مبدعًا…