القمح مكون رئيسي في النظام الغذائي اليومي لمعظم المصريين، يسمونه العيش- بكسر العين- أي الحياة، وبكلمات أخرى، هو الحد الأدنى من التغذية الضرورية اللازمة لاستمرار الحياة.

مصر هي أكبر مستورد للقمح في العالم -يغطي الإنتاج المحلي حوالي 55.5% من الاستهلاك السنوي- والفجوة الهائلة بين الإنتاج المحلي والاستهلاك، يتم تعويضها بالاستيراد من الخارج. أكبر مصدري القمح في العالم هم روسيا والاتحاد الأوروبي وأستراليا والولايات المتحدة الأمريكية وأوكرانيا والأرجنتين وكندا والهند. وتستورد مصر الجزء الأكبر من وارداتها من روسيا وأوكرانيا. في العام الماضي، بلغت واردات القمح من روسيا وأوكرانيا حوالي 80% من واردات القمح المصرية.

أسعار القمح كانت مرتفعة حتى من قبل الحرب الروسية في أوكرانيا. فمنذ عام 2020 تأثرت الإمدادات بالظروف الجوية المتطرفة وكوارث المناخ. وضربت موجات الحر والجفاف مناطق مختلفة وأثرت على الإمدادات. فارتفعت أسعار القمح -والسلع الزراعية الأخرى- بسبب ارتفاع أسعار الأسمدة والطاقة واضطراب سلاسل التوريد.

ويقدر خبراء أن أزمات الغذاء سوف تستمر وقد تتفاقم ما لم تتوقف الحرب. ويتوقع أن تلقي الحرب بظلالها على الأمن الغذائي في العالم لمدة عامين قادمين على الأقل. حيث لا يتوقع أن تنخفض أسعار القمح والغذاء قريبًا. فأسعار الطاقة والأسمدة تحلق عاليًا. كما أن الصراعات المسلحة والتقلبات الجوية والحمائية الغذائية في كثير من الدول، ستظل تؤثر وبشدة على الإمدادات وأسعار التوريد وتوقيتاتها.

بلغت فاتورة واردات القمح 3 مليارات دولار في العام الماضي. وبحسب تصريح لرئيس الوزراء، من المتوقع أن تصل في موازنة العام الجاري إلى 4.4 مليار دولار. وقد زادت الأسعار بعد اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا. فمنذ فبراير/ شباط الماضي زادت أسعار القمح بنسبة تتراوح بين 40-50%.

كما عززت الحرب من إجراءات الحمائية الغذائية في عدد من الدول المنتجة في العالم. ففرضت الهند حظرًا على صادرات القمح. وفرضت صربيا وكازاخستان حصصًا على شحنات الحبوب. وأوقفت إندونيسيا صادرات زيت النخيل، وفرضت ماليزيا حظرًا على صادرات الدواجن.

ساهمت الحرب أيضًا في خروج نسبة من الاستثمارات الأجنبية من السوق المحلية في مصر. وقد تحد من زيارات السياح الروس الذين كانوا يمثلون في السابق جزءًا كبيرًا من الوافدين الأجانب.

ومن المرجح أن تواصل الأسعار ارتفاعها خلال العام المقبل. ما يزيد من الضغوط على الموازنة العامة للدولة. ولأن الوقت عنصر هام دائما، وحاسم في مواجهة الأزمات الكبرى، نسأل: ماذا أعدت الحكومة المصرية لمواجهة أزمة قمح قد تستمر لسنوات؟ وماذا ستفعل لمواجهة أزمة غذاء أكبر من أزمة القمح؟

تقديرات سابقة للحكومة كانت قد قالت إن مساحة الأراضي المزروعة قمحًا بلغت في العام الماضي حوالي 3.6 مليون فدان. ويتوقع أن تنتج أكثر من 10 مليون طن، بحسب تصريحات وزير الزراعة لـ”سكاي نيوز عربية”. لكن الاستهلاك الفعلى السنوي للقمح يقدر بما يتراوح بين 18-20 مليون طن.

ولسد الفجوة بين الإنتاج المحلي والاستهلاك، لجأت الحكومة إلى زيادة الإنتاج المحلي عن طريق زيادة المساحات المزروعة بالقمح. كما اشترت سابقًا كميات من روسيا وأوكرانيا، وتسعى إلى الاستيراد من مصادر أخرى بديلة، مثل الهند والأرجنتين والمكسيك. لكن نقص الإمدادات والأسعار المرتفعة واضطراب الأسواق، كلها أمور تمثل تحديات للحكومة وقد تفرض مزيدًا من الضغوط على الموازنة العامة.

في بداية موسم الحصاد الحالي، قالت الحكومة إنها تستهدف توريد أكثر من 5 ملايين طن من المزارعين. وبعد أيام قال وزير التموين والتجارة الداخلية إن المستهدف هو توريد 6 ملايين طن هذا العام. كما أكد الوزير أن مصر لديها مخزونات تكفيها حتى منتصف أكتوبر/ تشرين الأول. والسؤال هنا: وماذا عن ما بعد منتصف أكتوبر؟

فرضت الحكومة التوريد على المزارعين، بواقع 12 أردبًا لكل فدان، (الأردب 150 كيلوجرامًا)، بسعر 820 جنيهًا للأردب، في حين يرى المزارعون وممثلوهم أن السعر الذي فرضته الحكومة للأردب هو سعر غير عادل، ويطالبون برفع سعر الأردب إلى 1000 جنيهًا.

ربما يفسر ذلك أن الكمية التي تم توريدها حتى 4 يونيو/حزيران الجاري بلغت حوالي 3.5 مليون طن، بحسب وزارة التموين، التي أشارت إلى استمرار موسم التوريد الحالي حتى أغسطس/ آب المقبل. فماذا عن ما بعد أغسطس؟

كما يبدو أن السعر الذي فرضته الحكومة لم يشجع المزارعين على توريد أقماحهم كاملة، فلجأت الحكومة إلى إجراءات أخرى، وحظرت تداول القمح المحلي، وأصدر وزير التموين توجيها بتشكيل لجان بكل وحدة محلية لحصر المساحات المزروعة بالقمح، وتحديد المساحات التي تم حصادها بالفعل، ومقارنة الكميات التي تم توريدها بالكميات الفعلية للمساحات المزروعة.

وتطالب الوزارة أصحاب الحيازات بإحضار مستند يثبت توريد الكميات المقررة بالكامل، وأنه سيتم عقاب المخالفين وتحرير محضر جنحة ضد المزارعين الذين لم يوردوا الكميات كاملة، وفرضت غرامات مالية تصل إلى ضعف سعر الأردب على المزارعين الذين لا يوردون الكميات المطلوبة، حيث تصل الغرامة على كل أردب لا يتم توريده إلى 1770 جنيهًا. فهل تنجح الحكومة في جمع 6 ملايين طن وهي تفرض سعرا لا يشجع المزارعين على زراعة القمح وتوريده؟

من جهة أخرى، ومن أجل تحقيق الاستقرار المالي، لجأت مصر إلى حلفائها من الدول الغنية بالنفط في الخليج العربي، وحصلت على التزامات بما لا يقل عن 22 مليار دولار من خلال ودائع واستثمارات من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر. كما حصلت على تمويل يقدر ب 6 مليار دولار من المؤسسة الدولية لتمويل التجارة- التابعة للبنك الإسلامي للتنمية- والتي يقع مقرها في السعودية، لتمويل واردات القمح والنفط- بحسب ما نشره موقع بلومبرج الإخباري وصحيفة الشرق في 24 مايو/أيار الماضي.

ففي مقابلة مع قناة “إم بي سي” التلفزيونية، قال وزير التموين والتجارة الداخلية، إنه بموجب اتفاق مع المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة، التابعة للبنك الإسلامي للتنمية، والتي يقع مقرها في السعودية، تمت مضاعفة إجمالي التمويل الممنوح لمصر إلى ستة مليارات دولار.

وقال الوزير إن هذا يعني أن المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة “هي الجهة التي تدفع وتغطي واردات مصر من القمح. لذلك، لا تمثل مشتريات القمح من الخارج أي ضغط على البنك المركزي”. لكن الوزير لم يكشف عن متى تم عقد الاتفاق، وما هي شروطه، وما المقابل، وما إذا كانت هذه المليارات الستة تعد قروضا أم منحا ومساعدات؟

بالتأكيد، سوف يساعد هذا التمويل الحكومة المصرية في حل أزمة القمح لعامين قادمين على الأقل. ما يعني تأجيل الأزمة لمدة عامين. فماذا ستفعل الحكومة بعد هذين العامين؟ هل ستظل المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة تمول شراء القمح للمصريين للأبد؟ وما هي خطة الحكومة لتفادي أزمات قمح جديدة؟ وأزمات غذائية أوسع مع آثارها الاقتصادية والاجتماعية؟

تسيطر الشركات الكبرى على كافة مراحل إنتاج الغذاء في العالم. بدءًا من من صناعة البذور والمبيدات والأسمدة وكافة المدخلات الزراعية، ومرورًا بالصناعات الغذائية المختلفة وسلاسل الإمداد وشبكات التوزيع، وانتهاءً بأرفف المتاجر والمحلات الكبرى.

وتدير الشركات السوق العالمية للغذاء بهدف تحقيق الربح. وتستخدم بعض الشركات المحاصيل الزراعية كالذرة لإنتاج الطاقة، بدلاً من توفير الغذاء للجوعي والمهددين بالجوع. لا مكان للمشاعر الإنسانية في هذا الكازينو. لا يمكن أن يسمح للشركات الخاصة بإدارة منظومة الغذاء دون أن تحدث الأزمات الغذائية الدائمة والمجاعات أحيانًا.

لكن نقص الخبز وارتفاع أسعاره يؤثر بشدة على حياة الملايين من الفقراء والفئات الوسطى. وبالتالي، يؤثر تأثيرًا كبيرًا على الأمن والاستقرار. فهل تحتل قضية الحق في الغذاء -كحق أساسي وبيولوجي من حقوق الإنسان- مكانها المناسب كأولوية على أجندة الحوار الوطني؟

نتمنى ذلك قبل فوات الأوان.


https://www.asharqbusiness.com/article/37818

https://www.asharqbusiness.com/article/37811

https://www.asharqbusiness.com/article/37809

https://www.skynewsarabia.com/business/1502140