بدأت في العاصمة السودانية أولى جلسات الحوار السوداني-السوداني أمس بتسهيلات وتيسيرات من الآلية الثلاثية ممثلة في بعثة الأمم المتحدة المتكاملة للمساعدة في الفترة الانتقالية في السودان “يونيتامس”. فضلا عن مفوضية الاتحاد الأفريقي والأمانة العامة لمنظمة الإيجاد الإفريقية (الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية “إيجاد”). وذلك بعد شهور من الاستعدادات والتفاوض مع القوى والأطراف السياسية لقبول الحوار. وإن كانت هذه الاستعدادات والتفاوضات لم تنجح في دفع قوى رئيسية بالساحة السودانية للمشاركة مما لا يدفع أو يؤشر على تفاؤل بنجاح مأمول.
فبداية الحوار لم تحظَ بحضور ومشاركة الأطراف السياسية الفاعلة كافة. إذ اقتصرت على المكون العسكري -مجلس السيادة الانتقالي- والأطراف السياسية الداعمة لإجراءات 25 أكتوبر/ تشرين الأول. فيما غابت أطراف وقوى سياسية فاعلة في الشارع السوداني كـ”الحرية والتغيير” وبعض الأحزاب الرئيسية التي رفضت الحوار لأسباب. في مقدمتها استمرار العنف ضد المتظاهرين وتنفيذ الاعتقالات بحق المدنيين.
توافق مبدئي بلا إجماع سوداني
بعد الجلسات الأولية قال عضو مجلس السيادة السوداني إبراهيم جابر في مؤتمر صحفي بالخرطوم أمس إن الحوار “حقق توافقا مبدئيا على نقاط”. أبرزها استمرار الحوار السياسي وإدارة الفترة الانتقالية وتشكيل حكومة جديدة”. وصولا إلى انتخابات وحكومة مدنية كاملة وترشيح شخصيات لإدارة الحوار. على أن يتم التواصل مع كل من تغيّب عن الجلسة الافتتاحية الأولى للمشاركة في جلسة الأحد القادم الثاني عشر من الشهر الجاري.
وتأتي جلسات الحوار -الذي انعقد بأحد فنادق الخرطوم- بعد تحركات دولية وإقليمية مع الأطراف السياسية المختلفة في السودان. وذلك كحل مُلح ووسيلة لإنجاز اتفاق سياسي ينهي حالة الخلاف السياسي بين الأطراف المختلفة. سواء بين القوى العسكرية والمدنية أو بين القوى المدنية وبعضها. والتوافق على خارطة طريق واضحة المعالم لتخطي الفترة الانتقالية وبناء الدولة.
لا لتخطي الجرائم ضد المدنيين
لكن هذه الأهداف لم تلق صدى عند أطراف سياسية ترى في الحوار القائم “تخطيا لجرائم ارتكبتها القوى العسكرية بحق المتظاهرين”. رافضة المضي في أي حوار إلا بعد محاكمة المتورطين. وهو ما قد يبدو تنفيذه مستحيلا حسب معطيات الوضع القائم في السودان.
في الجلسات الأولى للحوار أمس شاركت لجنة من المكون العسكري الحاكم حاليا تضم الفريق أول محمد حمدان دقلو -نائب رئيس مجلس السيادة. فضلا عن عضوي المجلس الفريق أول ركن شمس الدين كباشي والفريق ركن إبراهيم جابر. إلى جانب قوى سياسية تتوافق مواقفها إلى حد كبير مع المكون العسكري. إذ كانت داعمة لقرارات 25 أكتوبر/ تشرين الأول التي أطاحت بالمكون المدني من إدارة المرحلة الانتقالية. وهي “قوى الحرية والتغيير” (ميثاق التوافق الوطني) ومكونات الجبهة الثورية. إضافة إلى أحزاب الوحدة الوطنية وممثلين عن حزب المؤتمر الشعبي وقوى ومبادرات وحركات سياسة أخرى. فيما قاطع الحوار المجلس المركزي للحرية والتغيير وتجمع المهنيين وحزب الأمة القومي والحزب الشيوعي ولجان المقاومة وتيارات وحركات ثورية أخرى.
التصريحات لم تكن تشير إلى حلول جذرية متوقعة. إذ قال ممثل الاتحاد الأفريقي محمد الحسن ولد لبات إنه “لا يمكن الوصول إلى حل للأزمة دون مشاركة الفاعلين الأساسيين المعتذرين عن عدم الحضور”. فيما قال مبعوث الأمم المتحدة فولكر بيرتس: “مستمرون في تقديم الدعوة للجميع وأقدر مبررات الرافضين للمشاركة في الاجتماعات المباشرة”. معبرًا عن أمله في حلحلة الأزمة قائلا: “نريد أن نحدث تغييرا حقيقيا من خلال الحوار. ودورنا هو تسهيل الحوار والقرار متروك للسودانيين. نسعى إلى رؤية نتائج الحوار خلال الأيام القادمة بعد أن خضنا مشاورات كثيفة خلال الأسابيع الماضية لتسهيل الحوار”.
حديث البرهان.. تحذير ووعود
بمناسبة انطلاق جلسات الحوار الوطني تعهد رئيس مجلس السيادة الانتقالي في حديث له بتقديم التسهيلات اللازمة لتهيئة البيئة للحوار. وذلك أملا في الوصول إلى اتفاق يحفظ أمن البلاد. معتبرًا أن الحوار قد يكون فرصة تاريخية لتسهيل وإنجاز المرحلة الانتقالية.
وفي حديثه أكد “البرهان” أن النهاية الحتمية للمرحلة الانتقالية هي “انتخابات حرة وشفافة يختار فيها الشعب من يحكمه”. مشددا على أن القوات المسلحة لم تسعَ ولن تسعى للاستئثار بالسلطة. مضيفا: “نحن في المنظومة العسكرية والأمنية ومن منطلق إيماننا بالتحول الديمقراطي نجدد التزامنا العمل على إنفاذ مخرجات الحوار. ونجدد مسبقا حرصنا على النأي بالمؤسسة العسكرية من المعترك السياسي فور توفر المطلوبات لذلك. وهما التوافق الوطني الذي تيسره الآلية الثلاثية أو الانتخابات التي هي الأداة الشرعية لتداول السلطة”.
وحمل خطاب “البرهان” تحذيرات لأي محاولة لإفشال الحوار. قائلا: “أطلب من المكونات المختلفة المعنية بهذا الحوار أن تبادر بالاستجابة وألا تقف حجر عثرة في طريق استدامة الانتقال الديمقراطي”.
في سياق آخر حملت تصريحات نائب رئيس مجلس السيادة وقائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو قدرا من المهادنة واللغة الهادئة في مخاطبة القوى السياسية الرافضة للحوار. مقارنة بتصريحات سابقة عنيفة له بحقهم. إذ قال في تغريدة له على موقع تويتر: “لا بديل عن الحوار إلا الحوار لتحقيق توافق وطني يمهد الطريق لبناء مستقبل أفضل للسودان. والدعوة لا تزال مفتوحة للقوى الغائبة عن الحوار”.
رغم ما يشوب الحوار السوداني من عقبات قد تحول دون تقديم نتائج حقيقية أعطى الأمين العام للأمم المتحدة بعض الحوافز لتشجيع الأطراف السودانية على المشاركة بحسن نية ومواصلة العمل باتجاه خلق بيئة مواتية لحوار بنّاء لصالح شعب السودان. إذ أكد موقف الأمم المتحدة من إدانة أي أعمال عنف وأهمية وجود مناخ سلمي لإنجاح المحادثات.
وقال المتحدث الرسمي للأمم المتحدة ستيفان دوجاريك -في مؤتمر صحفي من المقر الدائم بنيويورك قبيل انطلاق الحوار السوداني- إن “جميع أشكال خطاب الكراهية تقوّض التماسك الاجتماعي وتضع الأساس للعنف. ما يؤدي إلى تراجع قضية السلام. ونعول على جهود الآلية الثلاثية في تسهيل حل للأزمة السياسية في السودان. لكن لا يزال هناك قلق من محاولات تقويض جهود الآلية الثلاثية ومبعوثيها”.
لماذا تعارض قوى الثورة الحوار السوداني؟
الأسباب التي تتبناها قوى المعارضة لحوار الآلية الثلاثية عديدة. وفي مقدمتها محاولة إزاحة أي أثر لقرارات 25 أكتوبر/ تشرين الأول. والتي تعتبرها القوى الثورية “انقلابا على المدنيين وعلى الثورة السودانية نفسها”. إذ ترى في الحوار القائم حاليا محاولة لشرعنة ما تم في أكتوبر بل وتعزيز وجود العسكريين وغض الطرف عن أي ممارسات للعنف ارتكبت بحق الثوريين والمتظاهرين.
ففي تصريح لعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي كمال كرار لإحدى صحف السودان قال إن “عمل البعثة الأممية انحرف عن مسار تفويضها من تعزيز الانتقال الديمقراطي للسعي لشرعنة أحداث 25 أكتوبر. وتوفير حلفاء له باسم التسوية”.
وهو ما يراه الآخرون على نحو مخالف. إذ تتجه آراء كثير من المحللين بالسودان إلى أن البعثة تميل إلى حد كبير لتبني مواقف القوى الثورية. وهو ما كان سببا في تصريحات سابقة لـ”البرهان” يهدد فيها بطرد البعثة الأممية.
وقال حزب الأمة القومي السوداني إن سبب عدم مشاركته في الحوار هو الالتزام بقرار تحالف قوى الحرية والتغيير. حرصا منهم على وحدة الصف الوطني والسعي للوصول إلى حلول ذات مصداقية تؤدي إلى حل الأزمة الوطنية لا تعقيدها. وفي الوقت نفسه نقدر عاليا جهود الآلية الثلاثية ومساعيها وأن موقفنا نابع من حرصنا على جمع الصف وتوحيد الأمة السودانية.
وأوضح حزب البعث السوداني أن “موقفنا من الحوار الذي تقوده الآلية الثلاثية يشترط إدراج أجندة واضحة لفتح اتفاقية جوبا وإلغاء المسارات”. بل ويشترط تنفيذ ترتيبات أمنية ودمج جيوش الحركات المسلحة وقوات الدعم السريع في القوات المسلحة. مع الأخذ في الاعتبار إقامة علاقات خارجية متوازنة تراعي مصالح البلاد العليا وتجميد خطوات التطبيع مع إسرائيل.
استمرار ظهور الإسلاميين وحلفاء “البشير”
لعل من اللافت في أولى جلسات الحوار الوطني السوداني ظهور جماعات الإسلاميين الذين كانوا حلفاء حكومة الرئيس السابق عمر البشير. إذ امتلأت صفحات السودانيين على السوشيال ميديا بكثير من الانتقادات لمشاركتهم في جلسات التفاوض. وكان أبرزهم رئيس حزب الأمة – الإصلاح والتجديد- والوزير في النظام السابق الدكتور الصادق الهادي المهدي. فضلا عن حاكم دارفور سابقا التجاني السيسي ورئيسة الحزب الليبرالي ميادة سوار الذهب.
وشبّه سودانيون مشاركة هذه الشخصيات في الحوار القائم حاليا بما كان يدور في جلسات الحوار الوطني في عهد الرئيس المعزول عمر البشير. والتي كانت محاولة سياسية منه لإظهار قدر من التوافق الوطني لاستمراره في السلطة. فيما عرف في السودان بـ”الوثبة”. إلا أن مثل هذه المحاولات قادت إلى انفجار الشارع واندلاع الثورة التي أسقطت النظام.
ويبقى انعقاد أي حوار وطني دون تحقيق شرط الشمول منقوصاً ولا يتصور أن يحقق الهدف الأساسي بحلحلة الأزمة السياسية وأزمة الثقة المتفاقمة من مكونات وأطراف العملية الساسية. بين من يرى فيما يجري تصحيحا للمسار. وبين ما يراه انقلابا وبين من يدعو لتحقيق شعارات الاستقرار والدولة المدنية الديمقراطية وتخطي أي تجاوزات تمت خلال المرحلة الانتقالية حتى بناء الدولة.
وتظل الأزمة السياسية في تعقد مستمر أمام تهديد بات واضحا من قبل مجلس الأمن الدولي الذي حذر بشكل مباشر في اجتماع قبل أسبوعين من “إضاعة فرصة تخفيف الديون والدعم الدولي” إذا لم يتم التوصل بنهاية يونيو/ حزيران الجاري إلى حل للأزمة السياسية في السودان.