الأنباء المتواترة عن التضخم، ارتفاع الأسعار، الغلاء الذي يبتلع الصغار والكبار، كلها ضغوط لا يمكن أن نقول إنها فوق كاهلنا. بل الأصح أنها طحنتنا، حيث فاضت الضغوط بالشكل الذي أصبح ثقلها يحفر لنا مقابر ندخلها طواعية، وسط كل ذلك تتبادر أسئلة: كيف سنواجه ليس فقط متطلبات الحياة ولكن أيضًا متطلبات القلوب والروح؟ فما يجعلنا نقاوم ونستمر هي تلك المحبة التي نعيش تفاصيلها مع شريك أيًا كانت الصفة التي تُغلف هذا الحب.

هل يتغير شكل الحب؟

ارتبط الحب دومًا في مخيلة العشاق وغير العشاق بمظاهر رومانسية، انطلقت من ثقافة العصر الذي يعيشه أبطال القصص. فكتب قيس الشعر في ليلى، وكان الشعر أغلى الهدايا التي تُمنح، قبل أن تتغير وتتنوع مع مرور الزمان وصولًا لهدايا من نوعية القصور والسيارات الفارهة والجواهر. وهذا لا يُشير إلى مادية الحب، بقدر ما يصنع دومًا مزاوجة بين الحب كإحساس وشعور وفعل مادي المفترض أن به إشارة على هذا الحب.

طقوس الحب وممارساته التي اعتادها الأحبة انطوت دومًا على مظاهر مادية متمثلة في زهور وهدايا ودعوات لدور عرض سينمائية أو مطاعم ومقاهي. وكل ذلك يتم ترجمته إلى فلوس. فماذا يفعل الأحبة أمام غلاء الأسعار؟

ولأنه جرت العادة أن يجري نهر الهدايا من الرجل نحو المرأة، فنحن أمام مشكلة حقيقية. إذ أن ندرة الهدايا والمعادل المادي ربما تم تفسيره في غير صالح الحب كعلاقة ترسم طريقًا نحو علاقة أطول وأكثر عمقًا.

كثير ما يقول أحدهم جملة “حبك اتغير”. هذا تعبير غير حقيقي، فالإحساس لا يتغير إلا بتغير ماهيته. الحب عندما يتغير يصير درجة أعلى عشقًا، هيامًا أو يقل درجة وربما عدة درجات فيصير اعتيادًا. إنما ما يتغير هو مظاهر التعبير عن الإحساس. فمنذ نصف قرن كانت الخطابات الغرامية مظهرًا أساسيًا في علاقة الحب، وظلت كذلك لفترة ليست قصيرة. ثم صارت المكالمات الهاتفية الطويلة، وأخذت أشكال التعبير تختلف باختلاف العصر، والفترة الزمنية بمتغيراتها الاجتماعية والتكنولوجية. لذا من الطبيعي الآن أن تتغير طرق التعبير عن المشاعر. أم أن الانسان يتغير على مستوى تفكيره وحياته ومجتمعه بينما يتمسك بالطرق القديمة في التعبير عن مشاعر الحب بداخله؟

الفلوس أولًا.. الحب ثانيًا

عملت الرأسمالية على إنماء الرغبة الاستهلاكية لدى الأفراد، فتنوعت المنتجات، وخلقت المناسبات، وساهم ذلك في الترويج لمناسبات أخرى. وكلها احتفالات يُصاحبها نمط استهلاكي.

المشكلة الحقيقية ليست في الاستهلاك ولا حتى في تسليع المشاعر، وإنما في اعتماد معايير الاستهلاكية مؤشرات للمشاعر، واعتمادها كمعايير أولية وذات أولوية. من تجاوزوا العقد الثالث من عمرهم سيقولون إنه في مراهقتهم وسنوات الجامعة لم يكن هناك احتفال بعيد الحب، ولم نكن نعرف سوى عيد الحب المصري، ونكتفي فيه بالتهنئة.

الآن تغير الوضع. إذ صار عيد الحب الواقع في الرابع عشر من فبراير مناسبة عالمية. في هذا اليوم يشتري كل حبيب الورود الحمراء والهدايا لحبيبته، وتصبغ هذه الاحتفالية الشوارع. ومهما كانت الإمكانات المادية للحبيب فإن هدية عيد الحب ذات أثر بعيد.

ما يفعله الرأسماليون من تسليع للمشاعر، وجعل كل شيء بمقابل مادي أمر مفهوم. إذ تذهب الأرباح مباشرة إلى حساباتهم البنكية. إنما غير المفهوم هو الإصرار على الإبقاء على مظاهر مادية مبالغ فيها في ظل أزمة اقتصادية لم تعد تقتصر على بلد بعينه.

مظاهر الحب بين الإمكانية والتقليد

ارتفعت أسعار الزهور كرد فعل طبيعي لارتفاع الأسعار ومعدلات التضخم الآخذة في النمو. وبالطبع تتزايد وتتضاعف أسعار الزهور في المناسبات، خاصة عيد الحب. وبالطبع الزهور كأهم رسول عن الحب، هي معامل هام وضروري. أتفق جدًا مع التهادي بالزهور، الفكرة ليست في الزهور أو الهدايا ولكنها في التقليد والسعي لمحاكاة آخرين لا يشبهون الفرد الذي يُفكر في اختيار هدية لحبيبته. فإذا كنت طالبًا تتلقى مصروفك من والديك هل يُعقل أن تنفقه كله لشراء باقة زهور؟ أو أن تستدين لشراء هدية؟

هناك أزمات نفتعلها حين يسعى المرء لتقليد نمط استهلاكي لا يتوافق مع إمكاناته وظروفه. يفعل ذلك فقط لاعتبارات اجتماعية مؤقتة. هذا أمر أشبه بفيلم “زوجة رجل مهم”، حين تمت إحالة البطل إلى التقاعد، فأنفق كل ما لديه حتى يحافظ على نفس الصورة التي يعيشها، في الفيلم كان البطل يعاني أزمة نفسية، لها علاقة بإحالته إلى التقاعد وعدم قدرته على التصديق، ولكن في واقعنا الفعلي لماذا يسعى البعض لتقليد نمط استهلاكي لمجرد أن الحبيبة تقتني هدايا تُشبه هدايا صديقتها؟ أو أن يلبس الشاب من نفس العلامات التجارية التي يشتري منها صديقه؟

المؤكد أن القيم الجمالية والمشاعر ثابتة في محتواها منذ خُلق الإنسان. ما يتغير فقط هو سلوكيات الأفراد ومظاهر التعبير عن تلك القيم وهذه المشاعر. فإذا كان الإنسان قفز من عصر المناجاة من خلف النافذة، وكتابة الأشعار، والخطابات الغرامية، فلماذا لا يتنصل من تلك المظاهر الاستهلاكية.

هذا لا يعني أنني أنادي بنزع الفعل من سلوك التعبير عن المشاعر، وإنما أدعو لتغيير نمط الأفعال، والتخلي عن المظاهر الاستهلاكية، هناك أفعال كثيرة تدل على الحب غير أن نشتري هدية، وإذا كنا سنشتري هدية لماذا لا تكون هدية تنفع الشريك بشكل حقيقي وتُعفيه من التزام يحتاجه؟

أعتقد أن هذا الغلاء بموجاته المتلاحقة يستلزم أن نُعيد التفكير في سياستنا الاستهلاكية. خاصة تلك المرافقة للمشاعر وبخاصة الحب.