كثيرة هي الانتقادات التي توجه لرئيس تونس قيس سعيد، وكثيرة الانتقادات التي توجه لعشرية حركة النهضة، وكثيرة أيضًا الانتقادات التي توجه للأحزاب والنخب السياسية. كل هذا النقد مشروع وله ما يبرره ولا يمثل مهما كانت حدته خطرًا حقيقيًا على تجربة الانتقال الديمقراطي التي عرفتها البلاد عقب ثورتها.
والحقيقة أن الخبرة التونسية انقسمت لمرحلتين: الأولي أعقبت الثورة في 2010، وشهدت سيطرة لحركة النهضة وحلفائها على المسار السياسي، وكانت نتيجتها شديدة السلبية على التجربة الديمقراطية الوليدة، والثانية بدأت في العام الماضي مع قرارات الرئيس قيس سعيد الاستثنائية، والتي أثارت جدلًا واسعًا داخل تونس وخارجها، وبمقتضاها جمد عمل البرلمان ثم حله، وأعلن عن البدء في حوار وطني لإجراء تعديلات على الدستور التونسي، لم يشارك فيه الجميع.
والحقيقة أنه لا يمكن فصل المرحلتين عن بعضهما البعض. فلولا أداء النهضة وحلفائها لما أقدم الرئيس سعيد على قرارات استثنائية و”غير الديمقراطية” حتى لو حمل البعض مسئولية أكبر لطرف على حساب آخر.
حركة النهضة
مثلت ممارسات حركة النهضة أحد الأسباب الرئيسية وراء الأزمة التي شهدتها تونس ودفعت الرئيس قيس سعيد إلى تجميد عمل البرلمان وإعفاء رئيس الحكومة من منصبه. فقد انشغلت الحركة منذ الانتخابات البرلمانية في 2019 (حصلت على 54 من أصل 217 مقعدًا) ومعها حلفائها داخل البرلمان بتعزيز صلاحيات رئيس الحكومة على حساب رئيس الجمهورية فاقترحوا قبل أقل من شهرين من قرارات الرئيس تحويل صلاحية الدعوة للانتخابات أو الاستفتاء، من رئيس الجمهورية إلى رئيس الحكومة، في محاولة لإضعاف صلاحيات رئيس الجمهورية المحدودة أصلًا.
كما نازع زعيم حركة النهضة ورئيس البرلمان راشد الغنوشي رئيس الجمهورية في صلاحياته في مجال السياسة الخارجية، وتنقل في مختلف عواصم العالم يقابل زعماء الدول، ودفع بلاده إلى الاصطفاف في محور “الإسلام السياسي” حتى لو كان على حساب “حياد تونس” ومصالحها العليا وأيضًا خارج صلاحيات رئيس البرلمان الدستورية.
واللافت أن حركة النهضة ظلت على موقفها الرافض لإجراء أي تعديلات على الدستور التونسي تعزز من صلاحيات رئيس الجمهورية وتمسكت بالنظام البرلماني أو المختلط. في حين أنها دعمت تحول تركيا إلى النظام الرئاسي في مفارقة لافتة.
ويمكن القول إجمالًا أن حركة النهضة مثلت عبئًا على عملية الانتقال الديمقراطي في تونس. إلا أنها أبدت في لحظات الأزمات الكبرى تراجعًا وقدرة على المناورة، يضمن لها الاستمرار. فقد قبلت في 2013 بضغوط الشارع التونسي لتشكيل حكومة محايدة من خارج الأحزاب. كما أنها لم تمارس العنف طوال العام الماضي، رغم وصفها إجراءات سعيد بالانقلاب وتحريض الرأي العام ضدها بشكل سلمي.
وقد ساعدت بنية حركة النهضة كحزب سياسي وليس كتنظيم أو جماعة دينية على القبول بإجراء تفاهمات مع خصومها السياسيين ولو تحت ضغط، أو تقديم تنازلات، ولو مضطرة، دون أن يعني ذلك أنها لم تعد تمثل عقبة أمام عملية الانتقال الديمقراطي بمحاولتها الدائمة احتكار السلطة وتحويل أغلبيتها البرلمانية غير المطلقة إلى مشروع للتمكين.
أداء الرئيس
بصرف النظر عن الجدل القانوني المشروع حول صحة السند الدستوري لإجراءات قيس سعيد الاستثنائية. إلا أنها نالت دعم غالبية أبناء الشعب التونسي وقطاع واسع من النخب السياسية والحزبية، واعتبروها جميعًا خطوة لابد منها للوصول لهدف بناء منظومة سياسية جديدة تتجاوز مثالب النظام القديم. في حين رفضها قطاع واسع من النخب السياسية والحزبية وعلى رأسها حركة النهضة.
وقد مثل إعلان أهم حركة نقابية واجتماعية، وهي الاتحاد التونسي للشغل، رفضها المشاركة في الحوار الوطني الذي دعا إليه أخيرًا الرئيس سعيد أحد أكبر أزمات الوضع الحالي. فالاتحاد كما هو معروف رفع شعار الدعم المشروط للرئيس. وأيد قراراته الاستثنائية ودافع عنها على مدار عام ومثلت قوته وتنظميه وانتشاره الطرف المقابل القادر على أن يواجه حركة النهضة إذا خرجت عن الدستور والقانون وهددت مدنية الدولة.
وظل الاتحاد منذ الثورة التونسية كيانًا وطنيًا ونقابيًا كبيرًا، وحجر زاوية رئيسي في تفاهمات كثيرة شهدتها البلاد. فكان أحد مكونات رباعي الحوار الوطني الذي حصل على جائزة نوبل للسلام في 2015. حيث نجح في إخراج تونس من أزمتها السياسية عبر الحوار الوطني والتوصل للمصادقة على دستور 2014 وتنظيم الانتخابات التشريعية والرئاسية.
ولذا فقد خسر الرئيس سعيد كثيرًا برفض الاتحاد التونسي للشغل المشاركة في الحوار الوطني. ثم جاءت دعوته لإضراب عام منتصف هذا الشهر لتضعف من قوة الرئيس في الاستفتاء الذي ينوي إجرائه على التعديلات الدستورية في شهر يوليو/ تموز المقبل.
الخطر الحقيقي
في تونس أداء الرئيس قيس سعيد وقراراته محل خلاف، والأوصاف التي يطلقها على بعض المعارضين محل نقد، وطريقته في الخطابة والتلقين محل رفض من كثيرين. ومع ذلك ظلت تونس محظوظة بتنوع نخبتها وسلمية أدائها، وتعدد الفاعلين السياسيين والنقابيين. فيكفي أن هناك منظمة مدنية عملاقة مثل الاتحاد التونسي للشغل لديها هذا الهامش من حرية الحركة تجاه سلطة رئيس الجمهورية، فأيدته في كثير من قراراته وعارضته في بعضها. وهو مشهد لا يمكن مقارنته بوضع اتحادات نقابات العمال في كثير من البلاد العربية.
تيار واسع من النخب السياسية وخاصة حزب حركة الشعب (لديه 15 نائبًا في البرلمان) أيدوا إجراءات الرئيس وطالبوه في نفس الوقت بالحفاظ على مسار الانتقال الديمقراطي وحقوق المواطنين الاجتماعية. كما دعوا مع الاتحاد التونسي للشعل إلى “حوار تشاركي” من أجل المستقبل. كما لا يزال هناك حوار لم ينقطع بين أطياف النخب السياسية التونسية بين مؤيد ومعارض لقرارات الرئيس في مشهد لا يزال مقبولًا وحضاريًا رغم عمق الخلاف.
إن المشهد التونسي الحالي بعيد كل البعد عن تجارب الاستبداد والإغلاق الكامل للمجال العام. ولا يزال أمامه فرصة بناء عملية انتقال ديمقراطي ودولة قانون. وهو لن يتحقق إلا بانتقال البلاد من نظام شبه برلماني “برأسين” تتنازع فيه السلطات وتغيب عنه القدرة على الإنجاز والبناء إلى نظام رئاسي ديمقراطي يعمل.
لا قرارات سعيد ولا حركة النهضة يمثلان الخطر الأكبر أو الداهم على التجربة التونسية، إنما الخطر الحقيقي سيأتي إذا أغلق المجال العام، وإذا غاب هذا الجدل الحي الذي تشهده تونس، وإذا اعتقل آلاف المعارضين ولم يسمع إلا صوت واحد وصداه.
نعم من حق البعض أن يعترض على طرف أكثر من الآخر. لكن يحب على الجميع التمسك بأهم إنجاز صنعته الثورة التونسية وهو “فضاء عام” حر يشهد نقاشا مجتمعيا وسياسيا حقيقيا. وإن الانتقال إلى نظام رئاسي لم يكن في ذاته تهديدًا أو خطرًا على الديمقراطية.