لا أعرف إلي أي عهد في القرى سنبقي مشغولين في مصر بطحن الماء وحصاد الهشيم، في حين تتغير الدنيا والإقليم من حولنا، وتتجدد القضايا، وتتوالى الأفكار والتحديات.

هل يعقل أننا في يونيو ويوليو من كل عام ننخرط في الجدال نفسه، ونوظف المقولات ذاتها، ونستعيد الدفوع القديمة عينها حول نظام يوليو 1952، وهزيمة يونيو 1967 دون أن يغير أحد من المتجادلين شيئا من آرائه، أو يقترب فريق من الآخر أو الآخرين شبرا واحدا، أو أن نحاول جميعا الاتفاق على كلمة سواء، يتخلق حولها تيار رئيسي في الوعي العام؟

 

الأدهي أن الصراع لا يزال علي أشده داخل الغارقين حتي آذانهم في مياه يوليو الراكدة فيما بين الناصريين والساداتيين والمباركيين والمبشرين بجمهورية جديدة. فالناصريون يقولون إن يوليو انتهت بوفاة جمال عبد الناصر، وإن السادات قاد ردة اجتماعية ووطنية، والساداتيون يرون أن رجلهم ثأر لهزيمة سلفه واسترد كرامة مصر، وحاول تجاوز ديكتاتورية ناصر، والمباركيين يدعون أن رئيسهم ثبت دعائم الدولة، دون مغامرات حربية ناصرية فاشلة، ودون صدمات كهربائية ساداتية مزلزلة، وكذلك دون صراعات سياسية وطبقية حادة، خاصة بعد القضاء على إرهاب الجماعات المتطرفة في التسعينيات من القرن المنصرم، في حين تبني الجمهورية الجديدة شرعيتها على استرداد الدولة من يد الجماعة الدينية، واستعادة الاستقرار، وتجديد البنية الأساسية .

 

مقتضي منطق هؤلاء جميعا كل على حدة، أن كل شيء كان أو سيكون على مايرام، وأن ليس في الإمكان أبدع مما كان، أو مما هو كائن، ومن ثم فإن مصر ليست مطالبة بأية تغييرات بنيوية في نظامها السياسي، ولا بأية إصلاحات كبرى في أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإذا كان ذلك كذلك، فلم الحديث الدائم عن عنق الزجاجة، وعن المؤامرات من الخارج وبعض الداخل، وعن الاصطفاف، والتضحيات، وشد الأحزمة أكثر وأكثر علي البطون الخاوية؟ ولم الدعوة إلى حوار لا يقصي أحدا؟ ولم تشكلت لجنة للعفو الرئاسي عن مسجونين أو محبوسين سياسيين؟ ولم نخطط لبيع أصول اقتصادية وخدمية بعضها من الصروح الكبرى؟ ولم اقترح علينا البعض -حسب تصريحات وزير المالية مؤخرا- إصدار صكوك بضمان قناة السويس والسد العالي وهما في تاريخنا واقتصادنا ماهما؟.

صحيح أننا رفضنا، وهذا الرفض يستحق الإشادة والتحية والشد على الأيادي، لكن ما دمنا وصلنا إلى حد تفكير البعض في الخارج في امتلاك حصص في السد والقناة ولو بالرهن، فسوف يكون من خداع النفس القول بأن كل شيء علي مايرام، وأن نظامنا وسياستنا هما غاية المراد من رب العباد، لاسيما إذا تذكرنا أن وزير المالية نفسه برر الرفض الواجب والمقدر بأنه ليس معقولا أن أستيقظ ذات صباح لأجد نفسي مطرودا من بيتي، وأن الوزير أشار إلى أن مسألة الصكوك قيد البحث منذ ١٨ عاما، أي قبل ثورة يناير 2011، وقبل الجمهورية الجديدة.

بغض النظر عن أية تفاصيل فرعية “فالثابت” الذي أوصلنا إلى هذه النقطة الحرجة جدا، والذي أبقانا تلك الأحقاب الطويلة في عنق الزجاجة هو نظام يوليو 1952، ولا معنى هنا للتفريق بين أطواره المختلفة المتعاقبة، إذ إن في كل نظام سياسي في كل بلاد الدنيا ما هو ثابت وما هو متغير، فالسياسات قد تتغير من النقيض إلى النقيض في الداخل وفي الخارج، فيكون ناصر أكثر اهتماما بالتحرر الوطني والدور الاقليمي، وأكثر انحيازا للتنمية وللعدل الاجتماعي، وأكثر قمعا في الوقت نفسه، ويكون السادات أكثر مهادنة للامبريالية الأمريكية والصهيونية والملكيات العربية، وأقل قمعا، وأقل اهتماما بالفقراء، في حين يختار مبارك سياسات التسكين والجمود و(خليهم يتسلوا)، ويركز السيسي علي تحديث البنية الأساسية، وتجديد الخطاب الديني، وعدم الهوادة ضد الإرهاب، والبحث عن شراكات دولية متعددة، ولكن تبقي بنية النظام واحدة، وطريقة صنع السياسة واتخاذ القرار هي هي نفسها .

قد يساعدنا مفهوم الـ “constituency” ـبمعناه السياسي، وليس بمعناه الانتخابي الجغرافي على فهم هذه الحقيقة، إذ يبقى المصدر السياسي الحقيقي للشرعية والاختيار والمساندة وأحيانا المساومة وقت الأزمات الكبرى هو نفسه المصدر الذي يحسم ويدير العملية السياسية في مصر منذ 23 يوليو 1952، أي الدولة العميقة معبرة عن نفسها في التحالف الأمني البيروقراطي، وهو ما ظل دائما مقاوما للمشاركة والمساءلة والمراجعة والتصحيح من جانب المجتمع .

هل سيكون الحوار الوطني المنتظر أول خطوة -ولو محدودة– لتغيير -ولو تجريبي- في معادلة نظام يوليو للحكم والسياسة؟

إجابتي هي الحكمة القائلة: أن تضيء شمعة خير من أن تكتفي بلعن الظلام .

وعلي ضوء هذه الشمعة يمكن أن نبدأ جميعا دولة عميقة ومجتمعا شيئا فشيئا واثقين في بعضنا البعض في “كناسة الدكان”، وفقا لعنوان جميل لكتاب أجمل لرجل هو الجمال نفسه أقصد الأستاذ العظيم يحيى حقي .