في هذا الطرح سيرى القارئ معي أن هناك علما نتحدث عنه كثيرا، بل نجعله أحيانا مثار جلسات مؤتمرات برعاية الدولة على غرار ما قام به الرئيس جمال عبد الناصر حين رعى تدشين المركز القومي للبحوث الاجتماعية بمؤتمر عن ابن خلدون بوصفه مؤسس علم العمران، بل توالت المؤتمرات في كل الدول العربية وحتى الإسلامية بما فيها تركيا، والكل بعيدون هنا عن هذا العلم بعدا كليا بل لم يجر الاستفادة منه وهو ما كان سيحد من صعود تيارات الإسلام السياسي، كما كنا سنتفادى حدة الاستقطاب العلماني، وحدة الصراع حول العلمانية وطبيعتها.

علم العمران، ستقول لي إن ابن خلدون سبق وكتب فيه “المقدمة” هذا الكتاب الشهير الذي شغل الكثيرين، لكني أقول لك إن ابن خلدون كتب في علم العمران جانبًا منه، لكنه لم يكتب هذا العلم مفردًا له ومعرفًا به باستفاضة، إذ إن ابن خلدون حار في أمره وأمر مقدمته الكثيرون، فمن قال إنها فلسفة التاريخ، وذهب آخرون إلى أنها مؤسسة لعلم الاجتماع، وآخرون إلى أن بها بذور الاقتصاد السياسي، لنرى البعض يقول إن بها لمحة عن الأديان، بل نرى من يذكر أن ما جاء به في اللسانيات يتطابق مع الجديد في هذا العلم، فما هي إذا مقدمة ابن خلدون؟

إن ابن خلدون كان متجاوزا لعصره، إذ إنه مؤسس الدراسات البينية الإنسانية، وبالتالي جاء كل ما سبق داخل المقدمة بما فيها تعرضه لعلم العمران من منظور محدود هو الاجتماع الإنساني، وهذه عبقريته إدراكه مع نضج العلوم في عصره. إن هناك شيئا ما يجمع هذه العلوم، وحين يجتمع أكثر من علم فيتلاقى أو يتلاقوا فينتج لنا نتائج جديدة تقود إلى تقدم علمي.

هذا ليس موضوعنا، إذ إنني سأقدم وجهة النظر هذه في بحث مستقل، إذ إن كثيرًا ما شغل ابن خلدون الناس والباحثين فلم يتم تجاوزه إلى ما بعده.

موضوعنا إذن هو علم العمران، وهو علم الحياة الدنيا في الحضارة الإسلامية، فالله سبحانه وتعالى سخر للإنسان الأرض وما عليها لعمارة الأرض، وهيأ الله سبحانه وتعالى الأرض بكل متطلبات هذه الحياة: “وبارك فيها وقدر فيها أقواتها” سورة فصلت آية 10، “وجعلنا لكم فيها معايش” سورة الأعراف آية 10، وغاية علم العمران سعادة الإنسان في الحياة الدنيا.

إن علم العمران هنا مفارق لنماذج الدراسات الإسلامية التقليدية، نشأ في هذه الحضارة منذ القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي، نشأ بالممارسة وسطرته أقلام في بطون الكتب التراثية، فاستخرجنا ما في بطون هذه الكتب ليكون عونًا لبناء هذا العلم، فأساسات هذا العلم راسخة لكنها مغطاة فلم ترها البصائر، هنا نرى الإنسان هو محور الكون، الذي عليه أن يقوم بخلافة الله في الأرض بعمارتها “هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها” سورة هود آية 61. أي أن الخلافة هنا هي عمارة الأرض وليست ممارسة سلطة من بعض البشر على الآخرين. من هنا فهذا الإنسان يملك القوة المفكرة التي تجعله يقوم بهذه الوظيفة هذا ما نراه لدى فلاسفة المسلمين فكتب سعيد بن داده هرمز “رسالة في فضل الحياة الدنيا” يفصل فيها هذا الأمر: “وللروح قوى كثيرة له بها أفعال عجيبة وأمور عظيمة وقد يفعل الإنسان بهذا الروح العلمي أفعالًا كريمة لأنه بالتفكر يستخرج غوامض العلوم وبالروية يدبر أمر الملك والسياسة بالاعتبار يعرف الأمور الماضية مع الزمان وبالتصور يدرك حقائق الأشياء ويعرف المبادئ والجواهر البسيطة وبالتركيب والتدبير يستخرج الصناعات وبالجمع يعرف الأجناس والأنواع وبالقياس والفراسة يدرك الأمور الغامضة ويعرف ما في الطباع وبالزجر والفال ينظر في الحوادث وبالمنامات وتأويلها يعرف كثيرًا من البشارات والإنذارات وبقبول الوحي والإلهام يقوى على وضع السنن وإقامة الشرائع العائدة لمصالح الدين والدنيا”.

القوة المفكرة هنا كما أسماها إخوان الصفا هي أداة الإنسان في الحياة، وهي التي تقوده نحو المستقبل: بالتفكر، الروية، التدبر، الاعتبار، التصور، الإدراك، التركيب، الجمع، القياس، الفراسة، الزجر، التأويل، القبول، الإلهام. انظر كم الألفاظ المستخدمة في نص سعيد بن داده هرمز الآتية من اللغة العربية والتي تعبر عن حاجة الإنسان لاستخدام كل هذا ليصل للسعادة في الحياة الدنيا، بل تؤكد أن أدوات إعمال الفكر لازمة للإنسان بمستواياتها، أي أنه إذا كان ذا عقل خامل فلن يكون له دور في عمران الأرض.

الإنسان الفرد لن يقوم بعمران الأرض كفرد، بل لا بد له من الاجتماع، هذا ما أدركه الجاحظ أحد كبار المفكرين في الحضارة الإسلامية (ق: 2هـ/ 8م – 3هـ/ 9م) حيث يذكر لنا: “كون الاجتماع ضروريًا: ثم اعلم، رحمك الله تعالى، أن حاجة بعض الناس إلى بعض، صفة لازمة في طبائعهم، وخلقة قائمة في جواهرهم، وثابتة لا تزايلهم، ومحيطة بجماعتهم، ومشتملة على أدناهم وأقصاهم، وحاجتهم إلى ما غاب عنهم، مما يعيشهم ويحيهم، ويمسك بأرقامهم، ويصلح بالهم، ويجمع شملهم، وإلى التعاون على معرفة ما يضرهم، والتوازر على ما يحتاجون من الارتفاق بأمورهم التي لم تغب عنهم، فحاجة الغائب موصولة بحاجة الشاهد، لاحتياج الأدنى إلى معرفة الأقصى، واحتياج الأقصى إلى معرفة الأدنى، معان متضمنة وأسباب متصلة، وحبال منعقدة. وجعل حاجتنا إلى معرفة أخبار من كان قبلنا، كحاجة من كان قبلنا إلى معرفة أخبار من قبلهم وحاجة من يكون بعدنا إلى أخبارنا.. لم يخلق الله تعالى أحدًا يستطيع بلوغ حاجته بنفسه، دون الاستعانة ببعض من سخر له، فأدناهم مسخر لأقصاهم، وأجعلهم ميسر لأدقهم، وعلى ذلك أحوج الملوك إلى السوقة في باب، وأحوج السوقة إلى الملوك في باب، وكذلك الغني والفقير، والعبد وسيده…”.

هذا نص الجاحظ الذي به أبعاد اجتماعية نراه كابن خلدون الذي أتى بعده بقرون يدخل إلى التاريخ كحاجة إنسانية لمعرفة أخبار السابقين، وفي حقيقة الأمر، إن كلاهما الجاحظ وابن خلدون من بعده، أدركوا أن المجتمعات في حاجة إلى خبرات الأجيال السابقة لإدارة منظومة الحياة، سواء خبرات سلبية أو إيجابية، من هنا نرى ربط الجاحظ باحتياج المجتمعات لتواريخ الأمم السابقة، ونرى الحاجة إلى الاجتماع البشري عند الجاحظ متعددة الأبعاد، مما يعكس فهما معمقا للمجتمعات واحتياجاتها.

من هنا نفهم تشبيه الراغب الأصفهاني الذات الإنسانية بالعالم حتى فصل ذلك على النحو التالي: “قد ذكر الحكماء لذات الإنسان وقواها مثلًا صوروها بها، فيتمثل كل ما لا يدرك إلا بالعقل بتصور الحسن ليقرب من الفهم، فقالوا: ذات الإنسان لما كان عالمًا صغيرًا كما تقدم جرى مجرى بلد احكم بناؤه، وشيد بنيانه، وحصن سوره، وخطت شوارعه، وتسمت محاله وعمرت بالسكان ودوره، وجعل فيه ملك مدبر، وملك ووزير وصاحب بريد وأصحاب أخبار وخازن وترجمان وكاتب وفي البلد أخيار وأشرار. فصناعها هي القوى السبعة التي يقال لها الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والنامية والغازية والمصورة والملك العقل منبعه من القلب. والوزير القوة المفكرة ومسكنها الدماغ. وصاحب البريد القوة المتخيلة ومسكنها مقدم الدماغ. وأصحاب الأخبار الحواس الخمس ومسكنها الأعضاء الخمسة. والخازن القوة الحافظة ومسكنها خلف الدماغ. والترجمان القوة الناطقة وآلتها باللسان. والكاتب القوة الكاتبة وآلتها اليد، وسكانها الأخيار والأشرار هي القوى التي منها الأخلاق الجميلة والأخلاق القبيحة… كذلك متى جعل العقل سائسًا وجب على سائر قوى النفس أن تطيعه. وكما أن الله تعالى جعل الناس متفاوتين كما نبه الله تعالى عليه بقوله: “ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضًا سخريا”، كذلك جعل قوى النفس متفاوته وجعل من حق كل واحدة، أن تكون داخلة في سلطان ما فوقها ومتآمرة على ما دونها. فحق القوة الشهوانية أن تكون مؤتمرة للقوة العاقلة، وحق القوة العاقلة مستضيئة بنور الشرع ومؤتمرة لمراسمه، حتى تصير هذه القوى متظاهرة غير متعادية كما قال الله تعالى: “ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانًا على سرر متقابلين” سورة الحجر     آية    47 ، وكما لا ينفك أشرار العالم من أن يطلبوا في العالم الفساد ويعادوا الأخيار كما قال تعالى: “وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها” سورة الانعام آية 123 كذلك في نفس الإنسان قوى رديئة من الهوى والشهوة والحسد تطلب الفساد وتعادى العقل والفكر، وكما نبه أنه يجب للوالي أن يتبع الحق ولا يصغي إلى الأشرار ولا يعتمدهم كما قال تعالى: “يا آيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم …”     سورة آل عمران آية 118  كذلك يجب للعقل والفكر أن لا يعتمد القوى الذميمة”.

هذا النص يكشف عن تفكير في حيوية العلاقة بين الفرد وذاته، أو بين الفرد والمجتمع أو بين المجتمع والسلطة أو بين السلطة والإنسان، فذات الإنسان تمثل هذا وتهضمه بل نرى تراتبية المجتمع والسلطة واضحة لدى الأصفهاني، لكنها تراتبية متفاعلة، الأهم في هذا النص هو بشرية هذه العلاقات، القابلة للوصول للحق وضده، والأخلاق الحميدة وضدها، الفساد وضده.

لذا فإن هؤلاء أدركوا أن المثالية المطلقة غير موجودة في الحياة الدنيا، لكنه هنا يعلي من قيمة العقل في سياسة الإنسان والمجتمع والدولة.

يعود الراغب الأصفهاني في كتابه مرة أخرى ليعطي لنا مدلولًا واضحًا في أن الإنسان مدني بطبعه واجتماعي وأنه ابن بيئته فهو يطرح ما يلي: “تأليف البنية الإنسانية من روح وجسد، ومن عقل وهوى، وأن للإنسان احتياجاته الضرورية المادية والمعنوية، وقد تمت تسوية نفسه على القابلية للتحرك باتجاه الفجور أو التقوى، والغواية أو الرشاد، وأنه سوي في أصله على الفطرة السوية العارفة بالله تعالى والمقبلة على أمره، وأنه محمل في باطنه بإرادة واختيار، وتتنازعه عوامل من داخله: ذاتية، وعوامل أخرى من خارجه من دوائر البيئة المؤثرة فيه، وأنه مدني أي اجتماعي بطبعه”.

هل كان رأي مدنية الإنسان مقصورًا على عدد محدود من العلماء أم كان وجهة نظر استقرت في كتابات الأقدمين، في حقيقة الأمر إنها استقرت لديهم وجهة، فنجد ابن تيمية يعبر عن ذلك بقوله: “إن بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون، التعاون على جلب منافعهم والتناصر لدفع مضارهم” وينهي كلامه بقوله: “ولهذا يقال أن الإنسان مدني”.

هذا ما سوف يبلوره ابن خلدون لاحقًا فيما عرف في مقدمته بجلب المنافع ودفع المضار، إن احتياج الإنسان إلى الاجتماع أمر له مسببات واضحة، كذلك لدى ابن أبي الربيع في “سلوك المالك في تدبير الممالك” ق 3هـ/ 9م، على النحو التالي:

  • الغذاء: ليجعله خلفًا لما يتحلل من بدنه بالحركة والرياضة.
  • اللباس: ليدفع به عن نفسه ألم الحر والبرد والرياح.
  • المسكن: ليصون نفسه ويحرسها من تطرق الآفات.
  • الجماع: ليبقى به النوع، إذ لا سبيل إلى بقاء شخص.
  • العلاج: لتغيير الكيفيات التي فيه، ولما يناله من تفرق الاتصال.

لهذه الأسباب في رأي ابن أبي الربيع احتياج الإنسان: “حينئذ إلى الصنائع والعلوم التي تعمل بها هذه الأشياء. ولما كان الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعمل الصنائع كلها، افتقر بعض الناس إلى بعض، وبحاجة بعضهم إلى بعض في المعاملات والإعطاء، فاتخذوا المدن، لينال بعضهم من بعض المنافع من قرب، لأن الله عز وجل خلق الإنسان يميل إلى الاجتماع والأنس، إذ لا يكتفي الواحد من الناس بنفسه في الأشياء، ولما اجتمع الناس في المدن وتعاملوا، وكانت مذاهبهم في التناصف والتظالم مختلفة، وضع الله لهم سننًا وفرائض يرجعون إليها ويقفون عندها، ونصب لهم حكامًا يحفظون السنن ويأخذونهم باستعمالها لتنظيم أمورهم ويجتمع شملهم ويزول عنهم التظالم والتعدي، الذي يبدد شملهم ويفسد أحوالهم.

المجتمع والسلطة هنا حاضران في هذا النص والظلم والعدل، فهل معنى ذلك، أن هناك قيمة عليا ضابطة لهذا كله، في حقيقة الأمر إن أساس العمران هو العدل، لذا كان ابن خلدون واضحًا حين قال: “الظلم مؤذن بزوال العمران”.

إن أكثر تجليات الفكر العمراني هو وضوح تراتيبه العمران طبقًا للاحتياجات، والتي تؤدي إلى نسق عمراني واضح، إن الحوادث التي مرت بالمسلمين خلال القرن الأول الهجري والتي أدت لمقتل علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين، أدت إلى تقسيم السلطة إلى ثلاث سلطات، سلطة الدولة وهي تتولي الأمن والمرافق العامة، وسلطة المجتمع التي تتولى التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية ومساجد الأحياء ويجري تمويل ذلك عبر مؤسسة الوقف، لذا لم تكن المجتمعات الإسلامية معنية بمن يحكم طالما أن هذه الوظائف جارية ومستمرة، وسلطة الفرد التي تقف عند حدود الآخرين من الجيران أو الرفقاء في الحياة.

إن الفجوة في الدراسات الإنسانية كانت في عدم فهم طبيعة علم العمران وبالتالي ترك الأمر لكي نظل ندور في دائرة ابن خلدون الذي كان التعبير الأخير عن هذا العلم في كتابه المقدمة، على جانب آخر كانت الدرسات الإسلامية تدور في فلك التقليد المستمر دون الوعي بأن لعلوم الحياة الدنيا علم يعبر عنها هو علم العمران، وأخيرا من قال إن الحياة الدنيا ليس بها سعادة يجب أن يدركها الإنسان وأننا نعيش لكي نجني في الآخرة فقط؟ لذا أحسن جلال الدين السيوطي حينما عنون مذكراته “التحدث بنعمة الله” نعمة الله في الحياة الدنيا.