إن أي محاولات تحليلية لواقع العمل الأهلي في مصر خلال السنوات الماضية لا يمكن بحال من الأحوال أن يتجاهل تعقد العلاقة بين هذا القطاع والدولة، وكأنه يُمثل مصدرًا أساسيًا للخطر ويعوق احتمال بناء أي نوع من الشراكات. ومما لا شك فيه أن البيئة القانونية التي تنظم آليات عمل المجتمع الأهلي هي العنصر الأكثر بروزًا في هذا الشأن.
ومع صدور دستور 2014 وما ورد فيه من مواد لتنظيم المجتمع المدني، راعت بدرجة وافية المعايير الدولية، لاحت فرصة في الأفق لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، سرعان ما تم فقد هذه الفرصة بصدور القانون 70 لسنة 2017، وبصدور القانون 149 لسنة 2019 عادت الفرصة للظهور مما يقتضي البناء عليها، وتجاوز مجرد وجود إطارًا قانونيًا مواتيًا إلى تأسيس علاقة قائمة على الثقة بين الدولة والجمعيات الأهلية، وما يعنيه ذلك من تأسيس الإطار القيمي والأخلاقي للشراكة المؤسسية، ولكن هل كانت التعديلات التي أوردها القانون الأخير شافعة لضمان حرية ممارسة العمل الأهلي في مص، أو ضامنة لحقوق العاملين في المجتمع المدني في ممارسة أعمالهم دونما مضايقات تمنعهم عن الوصول لذلك، مع إقرار الجميع بضرورة اتساق تلك التعديلات مع علاقة شراكة حقيقية تتجاوز الخبرة القديمة الداعمة لدور متعاظم للدولة في تحديد النمط التنموي والأدوار وتوجيهها إلى علاقة جديدة قوامها توزيع الأدوار بين الشركاء (تخطيطًا – تنفيذًا – متابعة) والتوازن اللازم بين حرية العمل الأهلي المسئول وحق الدولة في الرقابة والمتابعة وممارسة سيادتها في إطار ديمقراطي رشيد.
ففي الوقت الذي مددت فيه السلطة فترة تقنين أوضاع الكيانات العاملة في العمل الأهلي وفقا لأحكام قانون الجمعيات الجديد لمدة عام آخر، لم يزل بعض العاملين بالمجال الحقوقي رهن الحبس الاحتياطي لمدد طويلة، وهو الأمر الذي يعد بمثابة المعوقات التي تعوق ممارسة العمل الأهلي بحسبه شريك للدولة في السلطة ساعياً لتنمية المجتمع.
وبحسب كون حرية تكوين الجمعيات الأهلية هي من صميم الحق في التنظيم وممارسته على أرض الواقع، فيجب أن تتوافق التعديلات القانونية اتساق التعديلات مع التزامات مصر الدولية خصوصا مع ما انضمت إليه من اتفاقيات ومواثيق تضمن ممارسة العمل الأهلي، وأهمها العهد الدولي الخاص بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وكذلك أمام آلية المراجعة الدورية لحقوق الإنسان والتي تعهدت خلالها بإدخال تعديلات على القانون توفر بيئة داعمة للعمل الأهلي دون الإخلال بحق الدولة في ممارسة السيادة الوطنية.
ولكون الدستور المصري في نسخته الأخيرة لسنة 2014 يضمن حرية العمل الأهلي والجمعيات الأهلية على نحو كبير، وذلك بنصه في مادته (75) على أن للمواطنين حق تكوين الجمعيات والمؤسسات الأهلية على أساس ديمقراطي وتكون لها الشخصية الاعتبارية بمجرد الإخطار، وتمارس نشاطها بحرية ولا يجوز للجهات الادارية التدخل في شئونها أو حلها أو حل مجالس إدارتها إلا بحكم قضائي، ويحظر إنشاء أو استمرار جمعيات أو مؤسسات أهلية يكون نظامها أو نشاطها سريا أو ذي طابع عسكري أو شبه عسكري، إلا أن هنالك العديد من القيود والتعقيدات سواء كانت من ناحية التشريع القانوني المنظم للعمل الأهلي، أو اللوائح والقرارات الإدارية المطبقة على رقابة الجمعيات والمؤسسات الأهلية.
وبالتالي فإن هناك ضرورة لإلغاء كل القيود والمعوقات الواردة على تشكيل وأنشطة مؤسسات المجتمع المدني، فاللبنة الأولى في وجود أي نظام ديمقراطي في أي بلد من عدمه هي توافر أو عدم توافر حق الأفراد في تكوين الجمعيات على تعدد أنشطتها، فعادة ما ينصرف الانتباه إلى الحديث عن الحرية والديمقراطية إلى مسألة حق تكوين الأحزاب وحرية الانتخابات ودور البرلمان في التشريع وفي الرقابة على الحكومة دون إمعان النظر في التكوين الأساسي المكون لهذه العملية والذي بدونه لا تصبح للأحزاب وأنشطتها والبرلمان وانتخاباته أي فعالية أساسية في حياة جموع الأفراد.
كما أنه كلما زادت المعوقات، فإن فرصة العمل الأهلي في التقدم وتقديم الخدمات لا تجد لها سبيلاً للوجود، وهو الأمر الذي يجعل من إقرار ذلك الحق في النصوص الدستورية مجرد ألفاظ لا مدلول لها في الحياة الواقعية. حيث يمثل العمل الأهلي مدى إمكانية تنظيم الأفراد لأنفسهم وبأنفسهم لممارسة حقوقهم؛ لمواجهة مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية؛ كي يتمكنوا من إدارة المجتمع ككل بما يحفظ لهم حقوقهم في مراقبة أعمال مؤسسات الدولة من أجل حماية حقوق الأفراد والجماعات.
وهذا العمل بهذا المفهوم يخص المجتمع بأسره، سواء بالنسبة للقرارات التي تؤثر في حياة مختلف الفئات بصفة عامة، أو الموجهة بشكل خاص لبعض هذه الفئات وهو عمل ذو طابع سياسي غير حزبي، لأنه يعتمد في المقام الأول على تنظيم الفئات الاجتماعية المختلفة تنظيمًا ذاتيًّا مستقلاً عن الدولة، وإن كان يسهم بأدائه الواسع والفعال في خلق مناخ أفضل؛ لقيام حكومة أقرب إلى تمثيل هؤلاء الناس، حكومة تحاول أن تلبي احتياجاتهم، ومشاكلهم، ومن خلال إقرار ذلك نستطيع بشكل جيد أن نقول إن لدينا حرية في تكوين الجمعيات، وممارسة تلك الجمعيات والمؤسسات العاملة في قطاع العمل الأهلي لأعمالها كشريك حقيقي للسلطة في المجتمع، نحو دفع قاطرة المجتمع المحلي للتقدم والرقي.