ستة عشر عامًا مرت على الصباح الذي غادر فيه متى المسكين ديره في الأرض متجهًا نحو السماء. مكتفيًا بذلك الصليب الخشبي الذي ينتصب في الصحراء، وحوله شاهد قبر يحمل اسم الرجل الذي تغيرت على يديه الكنيسة القبطية المعاصرة.

سار المسكين محمولًا على أعناق تلاميذه. لا يعلم أن رحيله هذا سيفتح أبوابًا ظن أنها قد أغلقت قبل وفاته. أبواب الحرب التي يخلفها العلم حين يضيء بنوره، فيكشف ما استغرق فيه الناس من ظلام مبين. دخلته الكنيسة عمدًا على يد من أسسوا لعقلية قبطية مشبعة بالغرائبيات والمعجزات والأوهام.

سردية يتم تغذيتها يومًا بعد يوم على مئات المنابر وتحت قباب الكنائس وفي ظلال الأديرة، أيدولوجية تمت زراعتها وسقيها طوال أربعين عامًا فنمت كشجر عجوز لا يستظل به أحدًا بعد أن تعاقب على قطفه الجهلة والمتآمرين.

متى المسكين وأعداؤه.. كيف صنع الصراع عقلية قبطية جديدة؟

هي صناعة كاملة لواقع جديد يستبعد المسكين وتلاميذه. ولا يرى في سحق مدرسة الإسكندرية للدراسات اللاهوتية أزمة، طالما ستؤسس لوعي جديد يغيب الذهن. ويجعل من الكنيسة القبطية صاحبة الإيمان الوحيد المستقيم بين كنائس العالم، وصاحبة الحق الأزلي في لاهوت المسيح. فهي التي ورثت مارمرقس الإنجيلي البشير، ووهبت العالم المسيحي الرهبنة كفكرة انطلقت من جبال مصر وصحاريها. كنيسة عظمى تتصدى للهرطقات في الداخل، فتكفر البروتستانت والكاثوليك، وتبني أسوارًا عالية تحفظ بها شعبها من عنف إسلامي محيط.

هذا الوعي الذي تأسس وظن أصحابه إنهم فوق اللاهوت وفوق الزمن وفوق التاريخ. قد انهزم أمام متى المسكين وتلاميذه، فمازال الرجل بعد مرور ما يقرب من عقدين على وفاته يتحكم في الواقع الكنسي. وكأنه ملك فرعوني يدير المشهد من وادي الملوك.

دير الأنبا مقار.. إرث المسكين الأبدي

لم يعرف أعداء المسكين قيمة العلم، ولم يدركوا يومًا أن العلم لا يموت كميراث أبدي فوق أرفف المكتبات وفي الأذهان والعقول. فلم تنجح حملات حرق كتب المسكين أو منعها من المكتبات في حياته كما فشلت تمامًا سلاسل الرد على هرطقاته بعد وفاته.

كل هذه الحروب التي استهدفت المسكين وديره “الأنبا مقار بوادي النطرون”. عملت كنيران صديقة فتت في عضد الكنيسة المعاصرة. فتركتها تنزف دمًا حتى إذا ما جاء اليوم الذي وقف فيه راهب مقاري -إشعياء المقاري- أمام مقصلة الإعدام يسلم رقبته للعدالة. بعد أن جاء متهمًا بقتل أستاذه ورئيس ديره.

لم تكن تلك لعنة فرعونية أصابت الدير كما يروج من تربوا على الخرافات. ولكنها حصاد زرعه أعداء المسكين بعد وفاته، حين ظنوا أن تفتيت الدير وضربه من الداخل بضم غير الرهبان إلى سلك الرهبنة سيجعل من مدرسته الرهبانية أضحوكة. وسيقضي على مشروعه اللاهوتي المعادي للسلطة الكنسية من ناحية، ولعلاقة الدولة والكنيسة المتوترة من ناحية أخرى.

مخططات التفكيك

بمجرد أن غادر المسكين بجسده ساحة الدير في رحلته إلى السماء، بدأت مخططات التفكيك فانتقلت من دير الأنبا مكاريوس بوادي الريان إلى دير الأنبا مقار الذي غاب عرابه. فقد تأسس دير الأنبا مكاريوس بوادي الريان على يد راهب مقاري -إليشع المقاري- برعاية السلطة الكنسية كطريقة لتفتيت دير الأنبا مقار. ثم ما لبثت وفاة متي المسكين أن تغير المخطط، فانتقلت المعركة إلى وادي النطرون، حيث الدير الذي ظن سكانه إنهم سينعمون بالعلم وبهدوء الرهبنة وبجمال المعرفة تحت شمس الله الوارفة.

ثم تحرك المخططون وأدخلوا دفعة جديدة من الرهبان الشباب لتجديد دماء الدير فكان من بينها اثنين من القتلة “إشعياء وفلتاؤس المقاري” وثالث “يعقوب المقاري” الذي تورط في جمع تبرعات برعاية السلطة الكنسية السابقة. فأسس ديرا مستقلًا رفض منحه للكنيسة، حتى أعادوه إلى اسمه العلماني فلم يعد راهبًا. ورابع قيل إنه انتحر “زينون المقاري” في أعقاب التحقيقات بجريمة مقتل الأنبا ابيفانيوس.

متى المسكين وإشعياء المقاري والأنبا إبيفانيوس

لقد تغير الزمن، وتبدلت الكنيسة بهذا الحادث الضخم. وظلت روح المسكين ترفرف فوق الدير، فيمجده تلاميذه ويلعنه أعداؤه. حتى إذا جاء يوم كانت الخرافة قد تمكنت تمامًا من الذهنية القبطية، فجعلوا من القاتل قديسًا ومن العالم مهرطقًا.

مر عام على إعدام إشعياء المقاري، وكأنه يلتقي للمرة الأولى مع متى المسكين في ذكرى وفاته. في حوار متخيل بين قاتل جعله الناس قديسًا، وبين عالم جعلته الخرافة مهرطقًا.

سيقف المسكين حائرًا لا يعرف إشعياء المقاري، بينما يظهر الأنبا إبيفانيوس برأس نازفة منحنيًا أمام أستاذه المسكين، مدققًا النظر في إشعياء الذي اغتاله بضربة قاتلة من الخلف. لا يجيد الأنبا إبيفانيوس العتاب، ولكن رأسه النازفة تفعل. فها هو يدفع بدمه ثمن المعارك التي فرضت على أستاذه المسكين، فأنتجت راهبًا قاتلًا في نفس الموضع الذي عاش فيه القديسيون الأوائل نسور البرية.

بينما المسكين ينظر لكليهما حائرًا، لا يصدق أن تركة العلم والنور تقايض بالدم. ولا يعرف أن ديره الذي بناه على كتفيه بالصبر والعرق والزهد. مازال يهدد بالعلم والدأب هؤلاء الذين يعادون المعرفة وقيم الرهبنة معًا. في هذا الحوار بين القاتل والقديس والمعلم ستصمت الألسنة إلى الأبد لتحتكم إلى الله الديان العادل الذي جرت كل تلك المقادير في محاولة للوصول إليه فعرفه من وصل وضل من باعه مشتهيًا الدنيا.