يعتمد النظام الرأسمالي للتنمية الاقتصادية على التحول الكامل للاقتصاد نحو القطاع الخاص، دون تدخل من القطاع العام. وهي الطريقة التي تعتبرها المؤسسات الدولية خريطة الطريق للدول الناشئة للانطلاق وحل تشوهات الاقتصاد. باعتبارها فلسفة اجتماعية وسياسية. تقوم على أساس تنمية الملكية الفردية، والمحافظة عليها، وتقليص الملكية العامة، وقصر دورها في سوق العمل على الرقابة فقط.
تنطلق دراسة جديدة للبنك الدولي، بعنوان “وظائف لم تتحقق.. إعادة تشكيل دور الحكومات تجاه الأسواق والعمالة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”. من ذلك المبدأ مؤكدة أن غياب الديناميكية في اقتصاديات الشرق الأوسط سببها انتشار الشركات المملوكة للدولة. التي تتمتع بمعاملة تفضيلية، لا يحصل عليها القطاع الخاص. وتستهين بمبادئ الحياد التنافسي، وتعمل بقطاعات لا يوجد لها مبررات اقتصادية.
تنتقد الدراسة، التي أعدها عاطف إسلام ودلال موسى الخبيران المصريان بالبنك الدولي. وفيديريكا ساليولا كبيرة خبراء بقطاع الممارسات العالمية للحماية الاجتماعية بالمؤسسة ذاتها. غياب تنافسية السوق في الدول المذكورة، فالشركات الحكومية تلقى معاملة تفضيلية وتعفى من قوانين المنافسة التي تنظم الشركات الخاصة. كما تتمتع -على الأرجح- بروابط سياسية أقوى كثيرًا مما هو عليه الحال بالبلدان ذات مستويات الدخل المماثلة. بجانب استثناءات ضريبية لصالح الشركات المملوكة للدولة، وتفضيل في الحصول على التمويل والدعم.
تماشت نتائج تلك الدراسة مع مطالبات رجال الأعمال بمصر للدولة بالتوقف عن المزاحمة في النشاط الاقتصادي. وهو ما استجابت له الحكومة أخيًرا بوثيقة ملكية، تخارجت فيها من 63 نشاطًا صناعيًا في 10 قطاعات صناعية. وهي الصناعات الهندسية، والغذائية، والجلود، والكيماويات، والصناعات التحويلية والدوائية، ومستحضرات التجميل، والمستلزمات الطبية. والطباعة، والتغليف، والصناعات المعدنية، والنسيجية، والأخشاب والأثاث.
نموذج فشل في بعض الدول.. لماذا يصمم البنك الدولي عليه؟
للدكتور مصطفى شتيوي، مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، رأي مغاير. فيقول إن النموذج الليبرالي الاقتصادي فشل في إحداث التنمية الاقتصادية المنشودة في الأردن -على سبيل المثال- فارتفعت نسب البطالة والفقر. وتعاظم العجز التجاري، وازداد حجم الديون، وازدادت الفجوة التنموية بين المحافظات وغيرها من المؤشرات.
يؤكد شتيوي أن فشل النموذج الاقتصادي الليبرالي لم يكن أردنيا فقط. لا بل طال أغلب دول العالم الثالث والدول الاشتراكية سابقا وبعض الدول الصناعية. كان من أهم ضحايا الليبرالية الاقتصادية هو خروج الدولة من العملية الاقتصادية، وغياب التخطيط الاقتصادي، وضعف الدولة أمام المجتمع، وذلك بسبب تراجع مصادرها المالية.
في العراق، تذهب الدراسات الأكاديمية إلى ضرورة وجود قطاع عام وقوي لقيادة عملية التنمية الاقتصادية وتوجيهها في ظل التحولات العالمية من ناحية، والتطورات الداخلية من أجل تعزيز التنمية المستدامة حاليًا، والتشغيل الشامل للموارد بالاتجاه التنموي، الذي يعظم العائد الاقتصادي والاجتماعي أولا.
تواجد دور للدولة في الاقتصاد لا يعني أن تكون اللاعب الوحيد لأن قيامها بذلك الدول باء بالفشل وحولها لجهاز بيروقراطي غير فاعل حيث ينتشر الفساد وتغيب آليات المساءلة والمحاسبة على حساب المحسوبيات، كما أن نموذج الاقتصاد الحر الصرف يؤدي لإضعاف دور الدولة من خلال هيمنة الشركات الخاصة على آليات صنع القرار وتنفيذه، ما أدى لتطويع السلطات الدستورية، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وحوّلها لأدوات تعمل لحماية مصالحه على حساب حقوق ومصالح المواطنين. وبالتالي لا يؤدِّ إلى النتائج المرجوة.
لكن دراسة البنك الدولي تقول إن جميع اقتصاديات المنطقة التي خضعت للتحليل تتحكم في أسعار المواد الغذائية الأساسية كالحليب والخبز والغاز، وكلها تقريبًا تتحكم في أسعار البنزين والأدوية وهذا أعلى بكثير من نسبة البلدان التي تفعل ذلك بين الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل بنسبة 40% والبلدان المرتفعة الدخل 10%، وغالبًا ما ينظر لهذه الضوابط على أنها ركيزة من ركائز دولة الرفاهة، وهي تحد من الحوافز المشجعة على زيادة الإنتاجية والكفاءة.
ملكية الدولة متهمة بإحداث تشوهات في سوق العمل
تؤكد الدراسة أيضًا أن مساهمة القطاع العام ضخمة في تراكم رأس المال واللوائح التنظيمية للعمل التي وضعتها الدولة مقيدة نسبيًا، وتعوق انتقال العمال إلى وظائف أفضل وكانت سببًا في أن نحو شاب واحد من بين كل ثلاثة (32٪) في الفئة العمرية 15-24 عامًا بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يقع خارج دائرة العمل أو التعليم أو التدريب، ما يجعل البطالة بين الشباب في المنطقة الأعلى في العالم بنحو 26%، وهو مستمر على ذلك طوال العقدين الماضيين، كما لا تزال العمالة غير الرسمية سمة واضحة في المنطقة.
تتباين نتائج الدراسة مع تراث من الدراسات الأكاديمية بالمنطقة العربية يربط بين تخارج الدولة من الاقتصاد بارتفاع البطالة، ففي الجزائر على سبيل المثال تؤكد دراسة أن انسحاب الدولة من الحقل الاقتصادي في بداية الإصلاحات التي انتهجتها البلاد في أواخر الألفية الماضية إلى خلق مناخ اجتماعي يقترب من حالة انفجار اجتماعي نتيجة السياسات القاسية لأسلوب التعديل الهيكلي والتي كلفت عالم الشغل تسريح ما يزيد عن 450 ألف عامل وحل أكثر من 1200 مؤسسة عمومية.
يتكرر الأمر ذاته بمصر، فبعض الدراسات تؤكد عدم التزام المستثمرين بحقوق العمال واستعمال جميع الطـرق لإجبـارهم على المعاش، كما انحاز قانون العمل ١٢ لـسنة ٢٠٠٣ لأصحاب الأعمال على حساب العمال وسهل التخلص منهم وفصلهم وتخفيض أجورهم، في الوقـت الذي أصدرت فيه قانون ضمانات وحوافز الاستثمار الذي يعطي امتيازات غير محدودة للمستثمرين، بالتالي فإن الخصخصة كما طبقت في غالبية الدول النامية يكون من الملائم تفسيرها في إطار نظريات التبعية وجماعات المصالح.
انكماش القطاع الخاص للشهر الـ 16
لا يمكن التعويل في دولة مثل مصر على القطاع الخاص، إذ سجل نشاط القطاع الخاص غير النفطي بمصر في مارس انكماشا بأسرع وتيرة له منذ الأشهر الأولى لجائحة فيروس كورونا وانخفض مؤشر مديري المشتريات بمصر الذي تصدره ستاندرد أند بورز جلوبال، إلى46.5 من 48.1 في فبراير، ليظل دون مستوى الخمسين الفاصل بين النمو والانكماش للشهر السادس عشر على التوالي.
فيما يتعلق بحقوق العمال، تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن نسبة العمالة غير الرسمية تصل إلى 77 % من إجمالي العمالة في المغرب، و69% في مصر، و64% في الضفة الغربية وقطاع غزة، وحوالي 16% في البحرين، كما أن القيود المفروضة على النساء في سوق العمل مازالت قائمة، فمشاركتهن في المتوسط تبلغ نحو 20% وهي الأدنى على مستوى العالم، لكن الدراسة لم تحدد هل هذه الأرقام في القطاع الحكومي أم الخاص.
تؤكد أيضًا أن الوظائف المتاحة ليست وظائف المستقبل بشكل قاطع ففي بلدان المنطقة ومنها مصر والأردن وتونس، يؤدون مهام قليلة للغاية تتطلب مهارات غير روتينية للتعامل مع الآخرين ومهارات تحليلية، وهذه هي وظائف المستقبل سواء بالقطاع العام أو الخاص، فعدد الوظائف وجودتها يتوقفان على سهولة دخول الشركات إلى الاقتصاد ونموها وخروجها منها.
وتشتكي الحكومة بمصر باستمرار من تضخم هيكلها الإداري الذي يزيد بنسبة70% عن حجم الاحتياج الفعلي، بينما تشير إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء تراجع عدد العاملين المدنيين بالقطاع العام/ الأعمال العام إلى 760.7ألف فرد في عام 2020، مقابل 791.2 ألف فرد عام 2019 بنسبة انخفاض قدرها 3.9 % .
وتشير دراسة للجامعة الأمريكية أن جودة العمل بمصر انخفضت بشكل ملحوظ خلال 12 عامًا (2006/2018)، وانعكس ذلك في ارتفاع نسبة العمال الذين يعانون من حالات حرمان شديد في سوق العمل من 71٪ في 2006 إلى 90٪ في 2018، وكان التراجع الأكبر من نصيب مستوى الدخل وتغطية الضمان الاجتماعي.