في يونيو/ حزيران 2011، بدأت الأخبار تتسرب من سوريا عن بدء حرب المعارضة المسلحة ضد النظام البعثي للرئيس بشار الأسد. وقتها، لم يكن بوسع القليل أن يتنبأ بمستوى الاضطراب الذي سوف يحدث في النظام العالمي بسبب ما يمكن أن يذهب إليه الصراع في سوريا.
وبعد أشهر من العنف الوحشي ضد المتظاهرين الذي مارسه نظام الأسد. استولى السكان المحليون في محيط بلدة جسر الشغور بمحافظة إدلب الشمالية على مركز للشرطة. مما أدى إلى تحول كبير لم يفهم تداعياته إلا القليل من المراقبين. بعد يومين، كانت المقاومة المسلحة، بقيادة ضباط الشرطة -الذين انشقوا عن النظام ثم المعارضة- تقف في مواجهة اقتراب الوحدات العسكرية السورية. كان هذا بمثابة بداية لصراع من شأنه أن يعيد تشكيل سياسات الشرق الأوسط وأوروبا.
على مدار الأشهر التالية، تفاقمت الخسائر الفادحة بسبب فظائع النظام -بما في ذلك استخدام الغازات السامة- فضلاً عن الدمار الذي أحدثه تنظيم الدولة الإسلامية. وكذلك ضاعف من تفاقم الوضع الاقتتال بين الفصائل، حيث حركات المعارضة الممزقة. ومحاولات الميليشيات الكردية- السورية لتشكيل شبه دولة خاصة بهم.
أدى هذا التمزق إلى معاناة إنسانية في المجتمع السوري، لا يبدو أنه سيتم حلها في أي وقت قريب. كما أدت الموجات الهائلة من الهجرة السورية، التي أججها القتال اللامتناهي والانهيار الاقتصادي. إلى إنشاء شبكة تضم ما يصل إلى 11 مليون لاجئ منتشرين في لبنان وتركيا وألمانيا، والعديد من الدول الأخرى، التي ترتبط الآن بسياسات البلدان التي استقروا فيها مع التطورات في المجتمعات التي فروا منها.
اقرأ أيضا: محاكمات ضباط النظام السوري.. هل تطول العدالة الدولية “الأسد” ورجاله؟
التدخلات المتعددة في سوريا
بعد أن وصلت الحرب على ما يبدو إلى ذروتها في عامي 2016 و2017. تحول انتباه صانعي السياسة الغربيين، والكثير من مؤسسات الفكر والرأي الإعلامي -الذي يشكل النقاش حول السياسة الخارجية- إلى تحديات جيوسياسية أخرى. ومع ذلك، فإن التوازن الظاهر الذي دفع سوريا عن صدارة جداول الأعمال السياسية وعناوين وسائل الإعلام. كان نتيجة قوى خارجية مختلفة، عمقت تعرضها طويل الأمد للتطورات في سوريا، بطرق تعني أنها لا تستطيع الهروب من تأثير التغييرات على الأرض هناك.
كان التدخل العسكري الأمريكي إلى جانب “قوات سوريا الديمقراطية”، أمرًا حاسمًا لإخراج جهاديي الدولة الإسلامية من المدن الكبرى. ودفعهم في الظل في الأجزاء النائية من وسط سوريا بحلول أغسطس/ آب 2017. كما أدت سيطرت قوات المعارضة على أجزاء من مدينة حلب في أواخر عام 2016 إلى هجوم عسكري سوري. تم بدعم من المدفعية والضربات الجوية الروسية، جنبًا إلى جنب مع الآلاف من المقاتلين بقيادة الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني. لتشتد قبضة الأسد على المدن الرئيسية في البلاد.
بالتوازي مع ذلك، ضمن التدخل التركي في المناطق الشمالية من محافظتي حلب وإدلب. بقيت المجموعة الأخيرة من المعارضين تحت حماية أنقرة العسكرية. لتضاعف حكومة الرئيس أردوغان منذ ذلك الحين هذا المشروع الإمبريالي الجديد في سوريا.
توسع تركي في الأراضي السورية
في عام 2018، استولت تركيا على الجانب الشمالي الشرقي لمدينة عفرين. من ميليشيا “وحدات حماية الشعب” الكردية السورية. التي كانت في السابق الشريك الأساسي لواشنطن على الأرض، ولكنها أيضًا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتمرد حزب العمال الكردستاني التركي.
بعد عام، تبع هذا التدخل انتشار عسكري تركي آخر، لمنع هجوم سوري تدعمه روسيا من التوغل بعمق في محافظة إدلب. لكن الأهم في تلك الفترة، كان استعداد ميليشيا “جبهة النصرة” الجهادية للانفصال بشكل حاسم عن تنظيم القاعدة. وإعادة تشكيل نفسها على أنها “حركة تحرير الشام”، التي تركز على سوريا بقيادة محمد الجولاني. مما سمح للجماعة ببناء دولة في إدلب تحت الدرع العسكري التركي.
اقرأ أيضا: قوات سوريا الديمقراطية.. بين مواجهة داعش وقتل ضمير العرب
الصراع بين أنقرة وقوات سوريا الديمقراطية
حتى الآن، فإن المناطق الثلاث التي تم فيها تقسيم سوريا -بحكم الأمر الواقع- تحتوي كل منها على مصادرها الداخلية والخارجية لعدم الاستقرار. والتي يمكن أن تؤدي إلى جولة أخرى من التصعيد الوحشي الممتد إلى ما وراء الحدود السورية.
ولّد التقسيم الفعلي لسوريا إلى ثلاث مساحات سياسية متميزة، قناعة راضية بين صانعي السياسات في أوروبا والولايات المتحدة. يرون أن الصراع السوري قد تم تسويته إلى حد كبير. لكن حتى مع استمرار الاهتمام العالمي، استمرت المناوشات على طول خطوط الاتصال بين الجماعات المتمردة تحت الحماية التركية وقوات نظام الأسد.
في وسط سوريا، تقوض هجمات تنظيم الدولة الإسلامية ضد القوات السورية. وكذلك البلدات التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية جهود إعادة الإعمار الاقتصادي. حيث يتسبب القصف بين قوات سوريا الديمقراطية والجماعات المدعومة من تركيا -وكذلك الاقتتال الداخلي بين الفصائل المتمردة- في بؤس آلاف المدنيين. حتى في المناطق التي استعادتها القوات السورية بالكامل في محافظة درعا الجنوبية، تشير أعمال السرقة وإطلاق النار التي يشارك فيها مقاتلون سابقون -من المفترض أنهم في مصالحة مع النظام- إلى مدى ضعف قبضة الأسد على مساحات شاسعة من الأراضي.
وعلى الرغم من أنها لا تزال محمية من قبل القوات الأمريكية، وكذلك بعض الوحدات العسكرية الروسية، الموضوعة بالقرب من بلدتي تل رفعت ومنبج. يبدو أن قوات سوريا الديمقراطية معرضة لمحاولة تركية أخرى للاستيلاء على الأراضي.
علاوة على ذلك، فإن العداء في أنقرة، تجاه علاقات قوات سوريا الديمقراطية بوحدات حماية الشعب. وأنصار الوحدوية الكردية لحزب العمال الكردستاني. يتجاوز حزب أردوغان الحاكم -حزب العدالة والتنمية- لذلك، على الرغم من ادعاء المعارضة التركية أنها تفضل الانسحاب من سوريا. فإن عدم موثوقية الأسد، إلى جانب ضغط وحدات حماية الشعب على طول حدود تركيا، ومخاطر تدفق المزيد من الهجرة. تجعل من المرجح أن تشعر أي حكومة تركية بأنها مضطرة للرد على تهديد للوضع الراهن.
خيارات صعبة للشمال السوري
تتفاقم نقاط ضعف قوات سوريا الديمقراطية بسبب الإحباط الذي عبر عنه قطاع كبير من السكان العرب السوريين، وكذلك الجماعات الكردية المنافسة في أراضيها. من كيفية سيطرة الشبكات المتحالفة مع حزب العمال الكردستاني على حكم شمال شرق سوريا. يجعل هذا الغضب أولئك الذين يشعرون بأنهم بعيدون عن النظام السياسي لقوات سوريا الديمقراطية، أهدافًا محتملة لتنظيم الدولة الإسلامية. أو عقد الصفقات التركية، أو رشوة نظام الأسد. التي يمكن أن تغذي المزيد من الصراع في الأراضي التي تنتشر فيها القوات الأمريكية.
تتعرض المقاطعات الخاضعة للحماية التركية أيضًا لضغوط اجتماعية خطيرة. أدى الارتفاع العالمي في أسعار السلع والطاقة إلى ارتفاع أسعار الكهرباء والغاز، مما أثار أعمال شغب واسعة النطاق ضد الحكومات المحلية في عفرين. أدى الانهيار في قيمة الليرة التركية -وهي العملة الأساسية في المناطق التي تسيطر عليها أنقرة- إلى تفاقم دوامات أسعار السلع المستوردة. مما زاد من حالة الاستياء. وجعل من الصعب على تركيا أن تحكم عبر وكلاء محليين.
في الفترة الحالية، تواجه أنقرة -سواء تحت حكم حزب العدالة والتنمية الحاكم بزعامة أردوغان أو من يخلفه- خيارا صعبا. إما تسليم عفرين إلى نظام الأسد، الذي لا يمكن الوثوق به لإبعاد وحدات حماية الشعب. أو مضاعفة استيعابها الفعلي للأراضي التي تسيطر عليها داخل سوريا. من خلال التعليم والرعاية الصحية والمرافق والنقل. فيما يفتح كفاح تركيا لتطوير حكم فعال في إدلب –أيضًا- مساحة إضافية لهيئة تحرير الشام لمتابعة طموحاتها الأوسع في شمال سوريا.
إعادة التساؤل حول مستقبل سوريا
يرى ألكسندر كلاركسون، المحاضر في جامعة الملك بالعاصمة البريطانية لندن. أن الاضطرابات في الاقتصاد العالمي تضع نظام الأسد تحت الضغط. نظرًا لعدم قدرته على السيطرة على الفساد المستشري، والذي يعد أمرًا حاسمًا في قبضته على السلطة. يقول: “لا يزال نظام الأسد يعتمد على الموارد العسكرية الإيرانية والروسية للحفاظ على موقعه. في الآونة الأخيرة، تشير علامات الاستثمار من قبل الإمارات إلى أن مصدر آخر للتمويل اللازم لدرء الانهيار الاقتصادي قد يصبح متاحًا”.
لكن كلاركسون -يلفت في الوقت نفسه- إلى أن ارتفاع أسعار السلع الأساسية، مثل الخبز وغاز الطهي. أدى إلى إحباط بين أنصار النظام العلوي. كما أدى الانهيار الكارثي للقطاع المالي اللبناني إلى إلحاق الضرر بالمركز المالي للموالين للنظام الذين ينقلون رؤوس الأموال ويهربون البضائع عبر بيروت.
يضيف: مع الغارات المنتظمة التي تشنها خلايا داعش الإرهابية على المناطق التي يسيطر عليها النظام. فإن السيناريو الذي يقيد فيه الاضطراب الداخلي، أو التوسع الإمبراطوري من قبل إيران أو روسيا، قدرتها على دعم نظام الأسد. يمكن أن يقلب بسرعة ميزان القوى في سوريا. وهذا بدوره يمكن أن يعيد فتح الأسئلة حول مستقبل البلاد، التي اعتقد صانعو السياسة الغربيون أنه تم حلها في عام 2017.
ويؤكد المحاضر في الشؤون الأوروبية بجامعة الملك أنه “إذا أخذ المرء في الاعتبار جميع المصادر المحتملة للكوارث في سوريا، التي أصبحت مستوطنة في كل منطقة من مناطقها الثلاث. فإن الميل بين العديد من صانعي السياسة الأوروبيين والأمريكيين، لافتراض أن الحرب الأهلية في سوريا قد انتهى أمرًا وهميًا تمامًا”.