انطلقت في أكثر من عاصمة عربية في توقيت متقارب أكثر من دعوة “للحوار الوطني” بين الأطراف السياسية المختلفة، بعضها بدأ بالفعل مثل السودان وتونس، وبعضها الآخر قيد الانطلاق مثل مصر والجزائر، وهناك “الحوار المعلق” الذي بدأ ثم توقف في موريتانيا.
الحوارات الكاملة
لم تكن رحلة الحوارات العربية كلها صورية من أجل اللقطة والشكل كما يروج البعض، إنما في بعض الأحيان أسفرت عن تحولات كبيرة كما جري في الجزائر في عهد الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة حين أجرى مفاوضات مطولة داخل البلاد وخارجها أسفرت عن التوقيع على اتفاق “السلم والمصالحة” ثم قام بعرضه في استفتاء عام أسفر عن موافقة غالبية الشعب عليه وأنهى بذلك الحرب الأهلية التي دامت 10 سنوات فيما عرف “بالعشرية السوداء”.
كما عرفت تونس في أكتوبر/ تشرين الأول 2013 حوارا وطنيا برعاية “الرباعي” الذي حاز في 2015 على جائزة نوبل للسلام وهو: الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين، وأسفر عن خارطة طريق أخرجت البلاد من مخاطر الإنزلاق في عنف واسع النطاق ومواجهات أهلية، ولكنها سكنت الوضع السياسي القائم وأكملت المسيرة بمنظومة المواءمات التي ثبت عجزها عقب انتخابات 2019 التي أسفرت عن برلمان منقسم ورئيس منتخب بنسبة 76% وغير قادر على تغيير وزير، ولديه صلاحيات محدودة ومتنازع عليها مع رئيس الحكومة، فأنتجت في النهاية نظاما سياسيا مشلولا وعاجزا عن الإنجاز الاقتصادي والسياسي.
الحوارات المنقوصة
دخلت بعض البلاد العربية في الأسابيع الأخيرة تجارب حوار وطني لم يشارك فيها كل الأطراف السياسية، إنما جانب منها، فقد مثلت تجربتا تونس والسودان نموذجين لهذه الخبرات، ففي الأولى دعا الرئيس قيس سعيد إلى حوار وطني بدأت أولى جلساته يوم السبت الماضي وبمشاركة عدد من القوى والأحزاب السياسية مثل حركة الشعب “التيار الشعبي”، “تونس إلى الأمام”، “حركة النضال الوطني”، مقابل مقاطعة أحزاب أخرى منها “المسار” و”آفاق تونس” في حين لم تدع حركة النهضة من الأصل للحوار واعتبرها كثيرون (وليس فقط الرئيس) هي المسئول الأول عما وصلت إليه البلاد من أزمات.
وقد انطلق الحوار عقب إعلان قيس سعيد تشكيل “اللجنة الاقتصادية الاجتماعية” التي يرأسها عميد المحامين الأسبق وتضم 4 ممثلين لمنظمات عمالية وطنية (اتحاد الشغل، اتحاد الصناعة والتجارة، اتحاد المرأة، اتحاد الفلاحين)، وممثل خامس عن “الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان”، ومعها شكلت اللجنة الاستشارية القانونية، ليشكلا معا قوام “لجنة الحوار الوطني” التي تضم أساسا أعضاء اللجنتين الاستشاريتين.
وتبقي أزمة الحوار الوطني التونسي في قرار الاتحاد العام التونسي للشغل بعدم المشاركة فيه خاصة بعد أن صرح أمينه العام نور الدين الطبوبي، أن “الاتحاد لن يكون حاضرا في الحوار الوطني طالما لم توجد مراجعات قادرة على إنجاح هذا النقاش السياسي”.
والمعروف أن الاتحاد التونسي أيد قرارات الرئيس الاستثنائية في 25 يوليو/تموز، وظل يدافع عنها طوال الأشهر الماضية وقدم نموذج “المساندة المشروطة” له، ولذا فإن عدم مشاركته تفقد الحوار جانبا كبيرا من مصداقيته وتأثيره وتختلف عن عدم مشاركة حركة النهضة التي استبعدت من الأصل من الحوار بعد أن اعتبرته صوريا.
أما في السودان فقد انطلقت جلسات الحوار الوطني يوم الأربعاء الماضي بتسهيل من الآلية الثلاثية التي تضم الاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيجاد والبعثة الأممية، وبمشاركة اللجنة العسكرية الثلاثية برئاسة دقلو، وعضوية اثنين من مجلس السيادة السوداني، وذلك بغرض إيجاد حلول للأزمة السودانية والتوافق على كيفية إدارة الفترة الانتقالية.
وقد شاركت كثير من القوى والأحزاب السياسية في هذا الحوار كما قاطعة ائتلاف قوى الحرية والتغيير الذي لعب دورا رئيسيا في قيادة الثورة السودانية وكان هو الطرف المقابل وفي نفس الوقت الشريك للمكون العسكري في حكم البلاد، وهذا ما جعل أعرق الأحزاب السودانية وهو حزب الأمة يقول: “إن الحوار الحالي لا يمثل السودانيين بالكامل”.
وفي نفس الوقت تستعد مصر لإطلاق حوارها الوطني بدايات شهر يوليو/تموز المقبل، والذي ستشارك فيه القوى والأحزاب المدنية وبمشاركة حزب النور السلفي، في حين من المتوقع أن تغيب بعض الأحزاب السياسية القانونية ذات المرجعية الإسلامية مثل مصر القوية والوسط في حين إنه لم توجه الدعوة من الأصل لجماعة الإخوان السلمين التي تعتبر المسئول الأول عن تعثر مسار الانتقال الديمقراطي في البلاد عقب ثورة يناير.
فرص النجاح
لا يجب رفض المشاركة في أي حوار من حيث المبدأ ولا يجب القول إن شرط نجاحه هو مشاركة الجميع فيه، فالاتفاق الذي رعته الرباعية في تونس في 2013 نجح في “لم شمل” القوى المختلفة من أجل الاستمرار في “المسار المأزوم”، حتى وصل لنهايته في انتخابات 2019 ثم قرارات الرئيس قيس سعيد العام الماضي.
مشاركة الجميع في الحوار الوطني ليست دليل نجاح واستبعاد البعض لا يعني فشل الحوار، إنما المطلوب أن يسفر هذا الحوار عن حل ولو جانب من أزمات المسار القديم ووضع مسار سياسي جديد يستوعب الجميع بالشروط الجديدة، ويستبعد فقط القوى التي مارست أو حرضت على العنف.
وفي حالة تونس غير وارد إقصاء حركة النهضة حتى لو استبعدت من الحوار إنما إلزامها بالقواعد الدستورية والقانونية الجديدة، وأبرزها انتقال البلاد الراجح إلى النظام الرئاسي الديمقراطي الذي ترفضه النهضة في تونس وترحب به في تركيا.
أما السودان فالقضية الأساسية التي يجب أن تحضر في الحوار الوطني هي الانتهاء قريبا من المرحلة الانتقالية والذهاب إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية وإن مد الفترة الانتقالية ليس في صالح السودان أولا ولا أي مكون ثانيا.
وتبقي التجربة المصرية مهمة في توقيتها حيث جاءت الدعوى للحوار بعد نجاح الدولة في كسر شوكة الإرهاب والتطرف، ومع ذلك ظلت هناك قيود كثيرة على المجال العام والسياسي وحرية الرأي والتعبير، وإن النجاح في إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية بشكل عملي على الأرض سيكون هو معيار الحكم الحقيقي على نجاح مخرجات الحوار الوطني.