كانت أيام السجن الأولى هي الأصعب بالتأكيد، تسمى هناك فترة “الإيراد”، وغرفة “الإيراد” هي غرفة احتجاز مخصوصة يتم استقبال المساجين الجدد فيها، لحين تحديد الغرف المناسبة لهم وتسكينهم فيها بعد مضي أسبوعين على الأقل، في عرف السجون فإن غرفة “الإيراد” يجب أن تكون غرفة سيئة، فأيامك الأولى تحرص إدارة السجن أن تكون الأصعب، لتكون غرفة “الإيراد” هي فاصل بين حياة “المدني” و”الميري”، ويرى عرف السجون أن “الإيراد” هدفه أن تستوعب أنك في السجن، وأن لا شيء يمكن أن يغير ذلك، يجب أن تعتاد وجودك فيه، يجب أن تتعلم أن تتعامل كـ”مسجون”.

أصعب ما مررت به خلال فترة “الإيراد” هو مرور الوقت، الدقائق بطيئة لا تتحرك، الزمن ثقيل ثقل الكون، تحمله على قلبك، لا شيء تفعله قد يحرك الساعة بأسرع مما هي عليه، تتفاجأ بأن كل ما تمارسه من أنشطة داخل تلك الغرفة، يمكن جمعه في ساعة، لازال هناك 23 ساعة أخرى.

بعد مدة من بقائي في السجن، كنت قد اعتدت الإيقاع البطيء للحياة داخل السجن، فهمت الدرس وتعلمت الوسائل الأفضل لمواجهة الزمن، إذا كانت ديناميكية القلب والعقل والعضلات قد اعتادت إيقاع حياة السجن البطيء الممل، ستجد أن يومك مليء بالأحداث، أنا شخصيا كنت أقسم وجبات الطعام إلى 5 وجبات يومية، تستغرق كل منهم أقصى مدة ممكنة في تجهيزها وتناولها، خذ كل ما تحتاجه من الوقت، ليس لدينا هنا أرخص من الزمن، يمكنك الآن أن تقرأ قراءة متأنية، يمكن أن تستمع الى أغنيات “أسمهان” دون أن يضيق صدرك.

مرت الآن حوالي 6 أسابيع منذ توديعي لحياة السجن الرتيبة البطيئة، إلى صخب الشارع وتلاحق الأحداث، تلك الأسابيع هي مدة قرارات تجديد حبسنا الاحتياطي، 45 يوما في صيغة أخرى، لدينا طريقة مضمونة لتمضية الأسابيع خلف القضبان، الأسبوع الأول تنتظر قرار الجلسة، يأتيك خبر التجديد، تغضب ثم تحزن ثم تعود إلى روتينك اليومي، الآن قد مضى أسبوع بين الغضب والحزن والعودة إلى الروتين – ألم أخبركم أن لدينا رحابة من الوقت تسمح بأن تأخذ وقتك للغضب والحزن؟.. تقضي 4 أسابيع أخرى متابعا لجلسات الآخرين وقراراتهم وغضبهم وحزنهم، ثم تعود لتنتظر موعد جلستك ثم قرارك يتبعه الغضب والحزن.

عادة ما تتخلل تلك الأسابيع زيارتان للأهل، الأولى تعلم فيها قرار الجلسة وما يحمله خبر التجديد من هم، الزيارة الثانية يتم إعلامك بموعد جلستك القادمة وتجدد الأمل، الأهل يدورون في دائرة أخرى بين الهم والأمل والتجهيز للزيارة.

قضيت الآن أول مدة تجديد لقرار الإفراج عني، خلال هذه الـ45 يوما الأولى، قابلت العشرات من الأصدقاء والمقربين، حضرت 4 حفلات ونظمت واحدة، تحركت في 6 رحلات جوية، تقبلت التهاني وأرسلت التهاني والتعازي، نشرت 5 مقالات، لدي عشرات الصور في مواقف وأماكن مختلفة، تناولت أغلب الأطعمة التي أفضلها، زرت أغلب الأماكن التي أميل اليها، أجريت مئات المحادثات التليفونية والمكتوبة.

رغم كل ذلك، لازال الوقت غير مفهوم، كثيرا ما أنظر إلى الساعة لأحدد الوقت والتاريخ، لكني لا أفهم كيف وصلنا إلى هنا، لازال عقلي يتمسك بايقاعه البطيء، يرفض جنون السرعة، لازالت العضلات تتحرك بتؤدة والقلب يخفق بهدوء، الجسد يرفض الانتقال المفاجئ من السكون إلى السرعة القصوى.

نتيجة للسرعة المفاجئة، تتطاير الأفكار وتتساقط الذكريات، تضطرب المواعيد وتختلط الوجوه، الكل يخبرني أن النسيان عرض طبيعي بعد السجن، لكن المشكلة أكبر من النسيان، ما يسقط من الذاكرة بسبب جنون السرعة، لن تجده أبدا، ليس منسيا ولكنه لم يسجل من الأساس.

في أيام السجن الأولى بذلت جهودا كبيرا، لصنع روتين يومي يستهلك الوقت، واعتدت أن أضاعف الوقت المطلوب لتنفيذ أي مهمة، فما قد يحدث في دقائق قليلة، يمكن أن يتم خلال ساعة، ولكني الآن مضطر إلى عكس عجلة الزمن، فما كنت أتمه خلال ساعة في السجن، يجب أن يحدث خلال دقائق.

أتساءل الآن: هل الزمن طيع سهل، وإننا كبشر لدينا القدرة على تشكيله وفقا لاحياجاتنا، فنمده ونجعله فضفاضا نتحرك بأريحية بين جنباته، أم أن الزمن ثابت وأننا كبشر نتكيف مع رغباته، ونتحرك وفق ما يقتضيه، فلا نملك إلا أن نجري وقتما يحب، ونحبو إذا أراد؟