بالأمس كنت أجلس إلى جانب الأستاذ سعيد شيمي -مدير التصوير المعروف بإنجاز عدد ليس قليلا من تحف السينما المصرية على مدار خمسين سنة- كنّا نتحدث في موضوعات شتى عندما جاء الحديث عن فيلم “الصعاليك” الذي بدأ المخرج داوود عبد السيد مسيرته به.
أثنى بالطبع على الفكرة التي كانت مقتبسة أيضًا. والتي سبقت حتى “سلام يا صاحبي” الذي قدم التيمة ذاتها. لكن داوود عبد السيد فيلسوف “لا ندري لماذا تقل أعماله” وكانت الجملة الأخيرة صالحة للبدء فيما نريد قوله.
ثمة خطر علينا التنبه إليه قبل الانخراط بشكل أكبر مما نحن فيه: إذا غرق العالم أكثر فأكثر في حرب الأيدولوجيات المختلفة والانتماءات المتعددة سيتوقف الاهتمام بالتاريخ ومن صنعه. من خلدهم وأعطاهم الجوائز مقابل من سلبهم حياتهم الحقيقية وفنهم الملهم والمخلص الذي كان هدفه من الأساس هو إسقاط الأفكار المختلفة داخله ودراستها. إذا ماذا يعني ذلك؟ ببساطة إننا في هذه اللحظة الاستثنائية التي نعيشها في العالم العربي عمومًا ومصر خصوصًا علينا أن ننظر أبعد قليلًا من تقليد الجوائز لما تعنيه على أرض الواقع وما يمكنها التأثير فيه.
داوود وجائزة دولته في الفنون
حصد المخرج داوود عبد السيد جائزة النيل في مجال الفنون. والروائي إبراهيم عبد المجيد حصل على الجائزة في مجال الأدب. وكذلك المحامي الراحل رجائي عطائي في مجال العلوم الاجتماعية. وقال “داوود” إن حصوله على جائزة النيل للمبدعين المصريين في مجال الفنون نوع من التقدير على كل ما قدمه. الجائزة ليست تقديرا شخصيا ولكن تقدير في مجال معين.
تسعة أفلام استحق عنها جائزة الدولة عن صورة تغلب عليها الشعر وأفكار تملؤها الفلسفة. وكلمات تتحاشى أن تخرج من أفواه أبطالها تاركة للصمت التعبير عن كل شيء. منذ “البحث عن سيد مرزوق” إلى آخر أفلامخ. نبحث عن سيد مرزوق الذي بداخلنا بكامل صفاته وصفاتنا.
سخرية القدر تجعلنا أمام مثال شديد الأهمية على سياقاته كافة. يمكننا من خلاله إيضاح ما نريده أكثر بالطبع في شخص داوود عبد السيد الذي كرمته الدولة. بينما هو المخرج ذاته حسن السمعة الذي تعطل إنتاج فيلمه الأخير لسنوات نتيجة غياب ممول وتجاهل الدولة ذاتها مساعدته. ما دعا البعض لرثاء هذه الحال في واحد من أهم وأشهر مخرجي جيله والأجيال التي تليه. وربما يترك ذلك صورة أكثر عما تلاقيه الأجيال التالية من صعوبات إنتاج فيلم.
تلفزيون الدولة لا يعرض أفلام داوود عبد السيد
داوود ذاته أكّد أن مشكلته ليست مع الأجيال الجديدة التي تصل إلى أفلامه مقارنة بالأجيال القديمة التي ليس لها مساحة تشاهد فيها أفلامه إلا التليفزيون.
لقد انتقد التلفزيون المصري لعدم عرضه أفلامه قائلا: “التلفزيون المصري تقريبا مش بيحب يعرض أفلامي”. لتقاطعه لميس الحديدي: “يمكن معندوش الحقوق الخاصة بالملكية. ليرد: “شغلتهم يجيبوا الحقوق ويبحثوا عنها وأنا مش بتكلم عن أفلامي بس لكن بوجه عام كان عندنا برامج زمان زي نادي السينما عاوزين هذه النوعية من البرامج عشان تعمل فرشة ثقافية للجمهور العادي غير القادر على التعامل مع الإنرنت”.
قال أيضًا إنه يرى أن السينما في مأزق لأن الإنتاج يعتمد على رأس مال تجاري شديد التكلفة. ويعرض في صالات عرض باهظة الثمن في أماكن بعيدة عن الطبقة الوسطى والعادية.
والشق الثاني من المنتجين هم شباب باحثون عن التمويل. وهو ليس عيبا لكنه يضع الكتاب تحت مقصلة إرضاء الممول. “كنت أعرف أني مرشح وبعد ذلك يكون هناك انتخاب بعد الترشيح. واللجنة التي ترشح تختار قامات مهمة وكبيرة ولا نعرف من سيأخذ الجائزة. وتشرفت أنه تم ترشيحي للجائزة. فأي حد يتم ترشيحه لجائزة سواء فاز أم لا هو شرف كبير”.
إعلان الاعتزال والتوقف: هل أنا مطلوب؟
قبل وقت ليس بقليل أعلن داوود عبد السيد توقفه عن العمل.
برر ذلك بأن المسألة ليست قراره تمامًا. ثم ترك أكثر تساؤل فلسفي وجوهري في تلك الحالة: “ما نوع السينما التي يتم إنتاجها الآن في مصر؟. وهل النوع الذي أخرجه يمكن أن يتم طلبه؟ وهل له جمهور ومن ثم هل له منتج؟ فالقضية ليست رأيا بالتوقف عن إخراج أعمال ولكن القضية أكبر من ذلك”.
تمامًا كأبطال أفلامه يبدو بكامل انفعالاته وبراءته. يرتكب أخطاء كما يسعى للتطهر. يتساءل ويخبط الدنيا بكلتا يديه أحيانًا.
بعد الجائزة مارس ألاعيب مجازاته المتعددة في عدم اتهام جهة بعينها في تعطل أعماله. وحمّل بطء المناخ السينمائي العام لـ”السلفية” وربما لم يفهم أحد سياق حديثه الغريب نوعًا ما. وما دخل السلفية بما يحدث؟ لكن الأمر بدا بشكل عام مع آخر لقاء له أنه اقترب من حافة اليأس بسبب تجاهله من الدولة وغيرها.
بين تلقي جائزة الدولة وبين “صهينة” الإنتاج السينمائي على العمل مع رجل يطرح أفكاره بحرية وتجرد أكبر من شباك التذاكر. رغم كونه لا يقصيه تمامًا. حتى يجعله يعلن توقفه عن العمل من شدة الملل. يبقى المعنى الحقيقي أو ربما انعدام المعنى فيما حدث مؤخرًا.
حصد المخرج الكبير جائزة دولته. فماذا يعني ذلك للسينما فعلًا؟
جائزة لا تستحق الاحتفال
لا يعني أي شيء. ببساطة لو لم تتحرك جهات الإنتاج داخل الدولة تحديدًا باعتبارها مسئولة أكثر من القطاع الخاص عن تقديم أفكار وموضوعات عن طريق أمثال داوود عبد السيد. الذي تشهد “بجائزتها” أنه يستحق ويستأهل العمل لإنتاج سينما يتتلمذ عليها جيل كما يتعلم منها شعب كامل كيف يفكر ويتساءل ويعيش.
الظرف التاريخي الذي نعيشه يحتاج إلى أفلام داوود عبد السيد وأفكاره فعلًا. يحتاج الناس إلى أن يروها كمقابل للقبح اليومي الذي يجبرون على مشاهدته. بدلًا من تخليد وهمي وجائزة تصلح كملهاة طفولية لا تعني شيئا. علينا أن نهتم بتقديمه وتجاوز ذلك لتقديم تلامذته من بعده. إذ يمكن أن تتوقع شعورهم سيدي القارئ وهم يرون أستاذهم نفسه لا يمكنه العمل وفق معاييره وفلسفته الخاصة.
استنكار الأستاذ سعيد شيمي لقلة إنتاجات مفكر وفيلسوف سينمائي مثل داوود عبد السيد يبدو وجيها في إطار النموذج المضحك المبكي ذلك. جهة ثقافية تهتم بالصراخ الإعلامي والصحافي على حساب ممارسة الفن بالفعل وتنجح فعلًا في خلق حوار وتكريمات.
لا أعلم لماذا حدثت. ما المفيد في حصول رجل لا يمكنه العمل على جائزة أساسًا؟ لا شيء. وربما لا أتجاوز إذا قلت إن ضحكي الشديد وقت قراءة الخبر لم تكن مبالغة. نمنح جائزة الدولة لرجل نتجاهل عرض أعماله كما نتجاهل إنتاج غيرها بالطبع. ألا يدعو ذلك للسخرية والبكاء أكثر من الاحتفال والتهنئة؟