سبعة أيام وتنطلق صافرة بدء اللقاء المرتقب، هكذا يكتبون، وهكذا يبدأ العد التنازلي مع كل مباراة بين طرفي الديربي المصري، اللقاء بين الأهلي والزمالك، كأن لدينا كرة قدم في مصر، نتشبه بالعالم الذي دخل إلى عصر الكرة منذ زمن طويل، وتركنا وحدنا نعاني ونتخبط ونقارن أحوالنا بأحواله.

نتصنع ونحن نحاول أن نقنع أنفسنا أننا مثلهم، لدينا دوري وكأس ومسابقات وحكام واتحاد للعبة ورابطة للأندية وديربي ومنافسات شريفة، وقنوات رياضية تحترم المهنية، ثم ما نلبث طويلًا حتى نستيقظ على كابوس مخيف، وتظهر على العيان وقائع أغرب من خيال المجانين، وأحداث وتسريبات أشد وطأةً وأكثر انحطاطًا.

**

تعيش الكرة المصرية محنتها المركبة العصية على الحل منذ فترات طويلة، تنعكس هذه المحنة وتعكس نفسها على كل مفردات اللعبة الشعبية الأولى، وعلى مكونات المنظومة الكروية كلها، وها نحن نعيش هذه الأيام واحدة من موجات المحنة التي تمسك بتلابيب كل الذين يصرون حتى اليوم على الاستمرار في كذبة أن مصر دخلت عصر كرة القدم الحديثة.

لم ندرك أننا لم ندرك بعد أن الكرة المصرية في محنة، ذلك لأن صناعة الكرة الحديثة لم تدخل مصر بعد، غابت الكرة التي يعرفها العالم بقوانينها وأديباتها وصناعتها ولوائحها وطرق تنظيمها واحترافية كل العاملين في حقلها، وتسويقها وبرامجيتها وقنوات نقل مبارياتها، كل ذلك وأكثر منه غاب عن الكرة المصرية بفعل فاعل، وبتعمد يسبقه إصرار على بقاء الحال على ما هو عليه.

ومع كل كبوة نكتشف من جديد أننا نحتاج إلى وقفة جادة مع أنفسنا، ونتحدث طويلًا عن ضرورة تصحيح المسار، ثم تعود الأمور على سيرتها المعهودة وكأن خيبة جديدة لم تحدث في وادينا الطيب.

**

تتمظهر محنة الكرة المصرية في جانب من جوانبها في محنة أصابت التشجيع التي يقع فيها الجميع، وتطال كل المشجعين على اختلاف الأندية التي يشجعونها، تجمعهم محنة تشجيع المنتخب الوطني، وتفرقهم محن التشجيع الخاصة، أما محنة الزملكاوي فهي محنة المحن، ونكبة وابتلاء يقع فيه المشجع الذي شاء حظه أن يكون زملكاويًا.

الكرة المصرية في محنة، ومحنة الزملكاوي هي الأشد، والأيام ما تزال حبلى بالكثير من الشائعات والتحضيرات والتسريبات، والزملكاوي كعادته مع موعده الذي لا يتأخر مع نكبة جديدة للنادي الذي يعشقه.

تبدأ محنته مبكرًا منذ يُبتلى بمحبة الزمالك، مثل المدمن يحاول الزملكاوي مرارًا الاقلاع عن تشجيع ناديه المحبوب، ولكنه لا يستطيع، كلما انْتَوَى أن يقلع عن تشجيعه، يفشل في كل مرة، حتى يظل في محنته تلازمه إلى أقرب الأجلين، الموت أو السقوط في وحل الوفاء الذي لا ينقضي حتى تنقضي حياته.

**

محنة الزملكاوي تتراوح بين الوفاء والخذلان، اسمع غناهم، يصعب عليك حالهم:(أي حكاية في الدنيا ولها نهاية، إلا حكايتي معاك هي البداية، دا حبي ليك قدر وشيء مكتوب، وفي كل وقت بادعي الأمجاد تعود، جمهورك كتب بإيديه معنى الوفاء، وفي كل مكان دروس الانتماء، وفي وقت الأزمة كانوا دايمًا أبطال، شكرًا ياولادنا علموتنا الإصرار، حاربنا الدنيا كلها عشان عينيك، لو تطلب عمري كله أهديه ليك، دي حكايتي معاك يحكي عليها الزمان، بطلها فارس في عشق الكيان).

هذه ليست كلمات أغنيه، أو مفردات هتاف حماسي يردده الزملكاوي، بل هل على الحقيقة كلمات “عدودة” مصرية كتبتها قلوب مفعمة بالحزن، هي حالة من العديد على طريقة نساء الصعيد، تقول المعددة: (قالوا حزينة، أنا قلت من يومي، قسموا النوايب، طلع الكبير كومي)، هذا حال الزملكاوي، وهو يشجع بكل كيانه، ومن عميق وجدانه، ناديه الذي لا يتقن غير فن أن يخذلهم كثيرًا، رافضين التخلي عن ناديهم مهما تأخرت الانتصارات، ومهما حفًّلت عليهم جماهير الأندية المنافسة، أوفياء على الدوام لناديهم “الخاذل” لهم: (تفضل أمجادك قدام عيني، تفضل عالي في السما، وانا كل محنة في حبك بتقويني، ولآخر عمري زملكاوي أنا)، تلازمهم المحنة في غناويهم، لا تفارقهم في واقعهم: (راية ناديا رفعتها، كل الظروف وهزمتها، ومع كل محنة بحبه أكتر بعدها،) وفي أغنية أخرى يردد الزملكاوي: (أنا قولت كتير، من غير تفكير، عندي الزمالك قبل الدنيا دي كلها).

**

محنة الزملكاوي لا يعانيها إلا من ذاق مرارتها، وتجرع من توابعها، تستمر معه المحنة رغم أنفه من المهد حين يبدأ مشواره التشجيعي وحتى يوم وفاته، وتتمظهر تلك المحنة لدى البعض ـ وهم الكثرة الغالبة ـ في أمراضٍ تصيبهم، أكثرها شيوعًا: أمراض ارتفاع الضغط وزيادة نسبة السكر في الدم والاحتباس البولي وما إلى ذلك من أعراض وأمراض الشيخوخة المبكرة.

علاقة حب من طرف واحد، تبدأ بالخذلان وتدور بين الحب والوفاء، والإخلاص، والصبر، والتضحية والدعم وقت المحن، وتعود مرة أخرى إلى الخذلان من جديد.

**

الشعار المفضل لديهم “سنظل أوفياء” أتعب قلوب الزملكاوية، تجد فيه اعترافًا بخيبة الأمل، قبل أن يكون اعترافًا بالحب، هو على الحقيقة نوع من الحب الذي يقتل، وهي علاقة متعبة جدا بين الزملكاوي وناديه العريق، الذي يتقن فنون خذلان عشاقه، كما لم يتقنها معشوق من قبل.

أدمن عشاق الزمالك تلك الحالة من الاقبال والفتور، من الصد والنفور، من المحبة المفرطة إلى كره الذات وتمني الموت لكي يتخلص الزملكاوي من هذا الشيء الذي يتلبس بروحه ويمنعه من أن ينفك بعيدا عن تلك العلاقة المجنونة التي لا تنتهي إلا لتبدأ مرة أخرى أكثر شراسة وأكبر حرصا على الخذلان المتكرر.

**

مرة كتبت بوست على “الفيس بوك” علَّق عليه أحد الأصدقاء وقد انتابته نوبة من الإشفاق وهو يسألني واللوعة على حالي بادية من كلماته: معقولة حضرتك زملكاوي؟، طيب إيه اللي عمل فيك كده؟

هذا الموقف حصل مع كل زملكاوي بدون استثناء، في كثير من المواقف التي يصعب فيها الزملكاوي حتى على الكافر، ولا يصعب فيها على الأهلاوي أن يبتز زملكاوية كل فرد منا نحن المشجعين الغلابة للنادي الكبير والعريق.

**

من منا اختار زملكاويته بمحض إرادته الحرة، خاصة في جيلنا، حين كان الزمالك مدرسة الفن والهندسة، وحين كانت البطولات الكبيرة تدخل من باب النادي فلا تخرج منه مواسم عدة، وحيث كان ناشئ الفتيان منا ينشأ وأبواه يزملكانه أو يأهلوانه، فينشأ الولد على تشجيع فريق آبائه.

أعترف أن ذنبي لا يقع على عاتق أهلي، فقد بدأت حب الزمالك مع اللحظة نفسها التي تعلمت فيها حبي لمصر، وكنا نقف صغارا في طابور الصباح نهتف من أعماق قلوبنا: “عاشت الجمهورية العربية المتحدة”، وكانت أصواتنا المسرسعة تنطلق إلى عنان السماء ونحن نتسابق في رفع الصوت حين نهتف: “عاش جمال عبد الناصر”.

كانت “أبله نوال” هي المُدرسة التي زرعت فينا الحبين معا، حب الوطن وحب الزمالك، وسقتهما لنا مع دروس الفرقة الأولى في المدرسة الابتدائية.

كانت “أبله نوال” هي مُدرسة الفصل الذي استمتعت فيه بفترة التعليم الأولى، ولا زلت أتذكرها وهي تتحمس معنا وتحمسنا وهي تقرأ علينا وتُسمِّع لنا أناشيد من نوعية: دع سمائي فسمائي محرقة، والله أكبر فوق كيد المعتدي، وكنت أشعر نحوها بمشاعر محبة غير تلك التي عهدتها في حياتي في تلك الفترة، ومن ناحيتها كانت توليني اهتماما خاصا، وأذكر أني ذهبت معها في مرة إلى بيتها، ولست أذكر ملابسات تلك الزيارة المنزلية، غير الراحة التي شعرت بها في كنف أسرتها الصغيرة.

**

“أبلة نوال” هي السبب الأول وراء تشجيعي لنادي الزمالك الذي تحول من بعد إلى إدمان حاولت مرارا التخلص منه فلم أنجح إلا لبعض الوقت لأعاوده مجددًا مع كل أمل جديد لإصلاح ما أفسده الدهر في نادي الزمالك.

طلبت منا إحضار “لبس الألعاب”، وحددته فقالت: مطلوب فانلة بيضاء بخطين حمر، وشورت أبيض و”كاوتش” أبيض، وكان الأبيض أعلى سعرا من مثيله البني من ماركة باتا، وكان الفرق قرشين ونصف، وتوفيرا لهذا المبلغ الكبير قرر الأهل شراء الكاوتش البني، فرفضت لبسه بعض الوقت، ولما استيئستُ من إمكانية أن يبدلوه بآخر أبيض اضطررت إلى لبسه، ولم يطل عمره أكثر من عدة أسابيع تقطعت بعدها أوصاله من كل جانب بفعل فاعل، ورضخ الأهل في النهاية واشتروا لي الكاوتش الأبيض الذي طلبته “أبله نوال” تلك التي كنت مستعدا لأن أرمي نفسي في الترعة لو أنها أمرتني بذلك.

جماهير الزمالك - أرشيفية
جماهير الزمالك – أرشيفية

من يومها صرت زملكاويا، تخمد زملكاويتي بعض الوقت ولكنها تعود فتتجدد رغما عني، ساعدني على إبقاء جذوة تشجيع الزمالك داخلي أن أغلبية أصدقائي المقربين زملكاوية، والقليل منهم أهلاوية، وهؤلاء يدفعونك دفعا للإمساك بزملكاويتك عندا فيهم، والبعض الثالث يترفع عن مثل هذه الصغائر الشعبوية، لكن بقيت الأغلبية الغالبة منهم يحبون الزمالك، ويعشقون فيروز، وفصيلة دمهم كلهم 5، وهي مصادفة لا أتصور أنها يمكن أن تتكرر مع رهط من الأصدقاء المقربين.

**

قد لا أكون موضوعيا إذا قلت أنني أؤمن بنظرية من اختراعي تقول بأن حال الزمالك من حال مصر، فقد شهدت الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي أكبر حركة تحول سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي في تاريخها المعاصر، ونالت مصر مكانة إقليمية ودولية كبيرة، وجرى توزيع العائد الوطني بطريقة أكثر عدلا مما سبقها ومما تلاها من عقود، وكان حال الزمالك من حال مصر في هذه الفترة، شهد خلالها حضورا جماهيريا كبيرا، ونال فيها العديد من البطولات، وكان النادي يزخر بالكثير من الأسماء اللامعة في المجتمع وفي السياسة وفي عالم الكرة أيضا.

التاريخ يقدم “شهادة” تؤيد نظريتي، فإذا راجعت سنوات ازدهار مدرسة الفن والهندسة، ستجد أن الزمالك حصل على بطوله الكأس سبع مرات في عقدي الخمسينيات والستينيات، وحصل على بطولة الدوري ثلاث مرات في السنوات الست من عقد الستينيات التي جرى فيها إجراء مسابقة الدوري التي توقفت في العام 1967.

انتكست مصر في السبعينيات وما بعدها، وتدهورت أحوال الزمالك، إلا بعض الوقت، في بداية الألفية الثالثة، وكلي أمل في أننا مقبلون على مرحلة ازدهار مزدوجة، لمصر وللزمالك معا، مرحلة تقوم فيها مصر من كبوتها، ويعود فيها الزمالك من غيبته، فانتظرونا قريبا جدا.

**

أكاد أسمع الأهلاوية يهتفون باستهزاء: ابقي تعالى قابلنا، ولذلك أقول: من فضلكم، الأهلاوية يمتنعون.

أما أنت صديقي وأخي في الزملكاوية، حديثي هذا موجه إليك وحدك، أعرف أنك حاولت كثيرا أن تقهر إدمانك، فإذا أردت أن تتخلص من زملكاويتك فعليك بثلاث خطوات، أولا تخلص من ذكرياتك المحببة التي تعيدك كل مرة لممارسة الإدمان، وعليك ثانيا أن تتخلص من رفقاء السوء من الزملكاوية الذين لا ينفكون يعطونك الأمل في أن ينصلح حال الزمالك، أو يفلسفون الأمور ويربطون بين إمكانية ازدهار مصر ورجوع الزمالك إلى عصر البطولات، وعليك ثالثا أن تعيد قراءة هذا المقال لتعرف كم يعاني الزملكاوي من إدمانه لنادٍ مهارته الوحيدة تتجسد في التفنن في أن يُكرّه مشجعيه في حياتهم وينكد عليهم عيشتهم.