1956-1960
“لم يصبح ناصر ناصريًا إلا في عام 1956″، هكذا قال كبيرنا الذي علمنا الدكتور “سمير أمين” عليه رحمة الله. تبدأ البورجوازية المصرية حقبة أخرى في سياق تطورها التاريخي تحت ظل الدولة الجديدة التى كان التأسيس الفعلي لنظامها قد تبدت ملامحه مع إقرار دستور 1956 بعد أقل من عام واحد من ظهور الرئيس “ناصر” إلى جوار “نهرو” و”تيتو” بِبَاندونج في حدث ميلاد مجموعة عدم الانحياز بكل ملامحها السياسية والاجتماعية والاقتصادية المختلفة.
كنت قد أشرت في مقالي السابق إلى أن حكومة الثورة كانت قد رفضت مسودة دستور 1954 التي أعدتها لجنة الخمسين برئاسة “علي ماهر” باشا فألقت به في أحد مخازن مكتبة المعهد العالي للدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية إلى أن وجدها رئيسه العلامة الفذ الدكتور “أحمد يوسف أحمد” بطريق الصدفة، فتسلمها منه المرحوم الأستاذ “صلاح عيسى” ليخضعها للفحص والتدقيق بمعونة المرحوم المستشار “طارق البشري”.
لم تجد نسخة الدستور هذه طريقها للاستفتاء للأسباب التي استفضت في بيانها بمقال الأسبوع الماضي رغم ما تضمنته من مواد تقدمية في تنظيم الشأن الاقتصادي صِيغَت على نحوٍ مثير للإعجاب. ظل الصراع حتى عام 1956 بين حكومة الثورة الشابة وبين نخبة الإقطاع-بورجوازية يخفت حينًا ويعلو أحيانًا في شكل مواجهاتٍ بصور متعددة تسببت فيها محاولات تلك النخبة لاستعادة مكانتها السابقة لأجل النفاذ إلى دوائر الحكم ثانيةً في العهد الجديد لكن بنفس الآليات العتيقة. كان ذلك ما يعكس قصور فهم مُفكري تلك النخبة التقليديين لمسألة تَغَيُر موازين القوى الإقليمية والدولية بعد الحرب الكونية الثانية وأثر ذلك على الصعيد المحلي بعد حراك الجيش الذي تفككت بموجبه روابط التحالف غير المقدس الذي جمعها مع المُحتل البريطاني وسلالة الباشا “محمد علي”. أدى ذلك القصور في الفهم إلى فقدان تلك النخبة للقدرة على المناورة ونزع عنها مرونةً حركية كانت تتمتع بها فأدى إلى انكشافها ومن ثَم ترسخ انعزالها وتَجَلى انفصالها عن الجماهير للدرجة التي أضير بها المُكَوِن “الوطني” المحدود داخلها والذي كان يسعى لمجرد الإصلاح من “ملعب النظام” فوقع في شَرَك الفصل بين القضية الوطنية والقضية الاجتماعية، فلم يدرك أن الإصلاح كان قد فات أوانه.
من زاوية أخرى كان التيار الديني المتشدد يحاول السيطرة على رجال يوليو سعيًا للحكم من خلال إبراز عضلات قوته التنظيمية في الشارع الثائر حينًا -وبخاصة بين صفوف طلبة الجامعات- وبمغازلة أطراف في مجلس قيادة الثورة أحيانًا، إلا أن استعلاءه وعنف بعض تشكيلاته وخُلُو خطابه الفكري من نموذج اقتصادي اجتماعي مغاير كانت أسبابًا ساهمت في حسم صراعه مع رجال يوليو مبكرًا في 1954 بلا تعاطف جماهيري على أي نحو. ما يهمنا في سياق هذا المقال هو الإشارة إلى أن التيار الديني المتشدد لم يكن لديه أية تحفظات من أي نوع على النمط الاقتصادي القائم، بل ويمكننا القول إنه قَدْرَ ما كان متحالفًا مع أصحاب ذلك النمط سياسيًا، قَدْرَ ما كان متوائمًا وقابلًا بل ومبارِكًا له اجتماعيًا.
وعلى الرغم من أن خطاب التيار الديني المُتشدد كان موجهًا بالأساس لقطاع عريض من الفقراء، إلا أنه كان طوباويًا تغييبيًا ولم يكن واقعيًا تثويريًا فلم يقدم برامج ذات ملامح اجتماعية مختلفة كما كان الحال مثلا مع تيار لاهوت التحرير بأمريكا اللاتينية الذي جاء متأخرًا عنه بعض الشيء والذي كان أصحابه يرون أن الفقر هو مَبعث الخطيئة، وبالتالي فلابد من القضاء عليه لتحقيق العدالة اليسوعية.
كان خطاب التيار الديني المتشدد مبنيٌ -كَحَالِه دائمًا- على جانب “الكُمُون” في الفكر الديني من زاوية تشجيع مريديه على قبول -ومن ثَمَ التعايش مع- الظلم الاجتماعي والصبر عليه في الدنيا مقابل الفوز بالجنة في الآخرة، وإن كان في نفس الوقت يحرص بكل قواه على حشد مريديه لأجل الاستفادة من أدوات نظام يرفض “جَوهره” بينما يَقْبَل “شَكله” في مفارقة تاريخية مازالت تنطلى أبعاد خدعتها على كثيرين.
جاء الاستفتاء على الدستور الجديد في يونيو 1956 متواكبًا مع انتخاب “جمال عبد الناصر” رئيسًا للجمهورية، فكانت نسبة الموافقة على الدستور هي 99.8% وكان انتخاب الرئيس “جمال عبد الناصر” بنسبة 99.9% في أول تأسيس للتماهي بين الرجل والدولة.
حَوى الدستور المُستَفتَى عليه في مقدمته على إشاراتٍ مهمة تضمنت القضاء على الإقطاع وعلى الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم، وكذا إقامة عدالة اجتماعية، وكلها أمور ذات صلةٍ وثيقة بملامح الشكل الاقتصادي للدولة الجديدة كأهدافٍ عامة تمت ترجمتها بشيء من التوسع بدءًا من المادة السابعة وحتى المادة السابعة عشر وذلك بشكلٍ مباشر فيما يتعلق بتنظيم الاقتصاد القومي وفقا لخطط مرسومة تراعى فيها مبادئ العدالة الاجتماعية وتهدف إلى تنمية الإنتاج ورفع مستوى المعيشة، وأن النشاط الاقتصادي الخاص حر، وصون الملكية الخاصة مع تنظيم القانون لأداء وظيفتها الاجتماعية وعدم نزع الملكية إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل وفقا للقانون، وأن يكون استخدام رأس المال فى خدمة الاقتصاد القومى، وكفالة القانون للتوافق بين النشاط الاقتصادى العام والنشاط الاقتصادى الخاص تحقيقا للأهداف الاجتماعية ورخاء الشعب، وعلى التزام من الدولة الدولة بتيسير مستوى لائق من المعيشة أساسه تهيئة الغذاء والمسكن والخدمات الصحية والثقافية والاجتماعية للمواطنين جميعا، مع تشجيع الدولة للادخار والتعاون، كما تمت الإشارة إلى أن القانون يعين الحد الأقصى للملكية الزراعية بما لايسمح بقيام الإقطاع وعدم جواز تملك الأراضى الزراعية لغير المصريين إلا فى الأحوال التى يبينها القانون، ووسائل حماية الملكية الزراعية الصغير، والعلاقة بين ملاك العقارات ومستأجريها، كما أشار الدستور كذلك في المادة 22 إلى أن العدالة الاجتماعية هي أساس الضرائب والتكاليف العامة.
أما ما يتعلق بالشأن الاقتصادي بشكل غير مباشر، فقد نصت مواد أخرى بالدستور على أن يكون التعليم مجانيًا في مدارس الدولة، وعلى كفالة الدولة لتحديد ساعات العمل والأجور والتأمين والعلاج، وإعفاء أصحاب الدخول الصغيرة من الضرائب بما يكفل عدم المساس بالحد الأدنى اللازم للمعيشة. كما نص الدستور على عدم جواز الاقتراض أو الارتباط بمشروعات يترتب عليها إنفاق من خزانة الدولة إلا بعد موافقة مجلس الأمة، وكذا ما يتعلق بإعداد الموازنة العامة واعتمادها. يلحظ القارئ الكريم كما أشرت بمقالي السابق تماثُل بل وتطابق بعض المصطلحات التقدمية مع مسودة دستور 1954 التى تم إيداعها بالمخازن. وربما يمكننا في هذا السياق أن نطرح استنتاجًا آخر: أن مسودة دستور 1954 كانت بمثابة الوثيقة الأساسية التي بَنَى عليها رجال يوليو دستور 1956 بعدما تم تفريغها من المواد الخلافية مع الإبقاء على المواد التقدمية بها وتدعيمها بمواد أخرى تعزز شكل الدولة الجديدة التي خاضت معركتها الأهم وما تلاها من تبعات حُسمَت لصالحها لأسباب متعددة تتعلق بأوضاع محلية وإقليمية ودولية.
كان حسم معركة السد العالي وتأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي هو بداية التجلي الفعلي للدولة الجديدة وما دعاها إلى ضرورة البدء بالحركة على نحو مختلف بعدما خذل رموز نخبة الإقطاع-بورجوازية حكومة الثورة التى منحتهم من المزايا ما يفوق التصور لحثهم على المساهمة في أعمال التنمية إلا أن اختياراتهم السياسية ومن ثَمَ ردود أفعالهم فيما يتعلق بالارتقاء بالنمط الاقتصادي كانت مُحبِطَةً إلى أبعد الحدود.
يقول الدكتور “رفعت سيد أحمد”: *”وما أن بدأت سنوات الستينات حتى أنهى جمال عبد الناصر الجدل الدائر حول طريق التنمية الاقتصادية، باختيار طريق التنمية المستقلة وذلك بعد سنوات من التجارب المريرة سواء مع رأس المال الأجنبي في بداية الثورة، أو مع رأس المال المحلي بعد عدوان السويس، فقد عدلت حكومة الثورة القانون لترفع نسبة مساهمة رأس المال الأجنبي في المشروعات إلى 51% ورغم ذلك لك يزد ما دخل مصر من استثمارات أجنبية خلال عامي 1952-1961عن 8.7 مليون جنيه فقط. وأغدقت حكومة الثورة على الرأسماليين امتيازات لم يحلموا بها مثل خفض الرسوم الجمركية على استيراد الآلات الزراعية ومستلزمات الإنتاج الصناعي، وإعفاءات ضريبية وتسهيلات ائتمانية وضمان حد أدنى من الإنتاج وتقديم الأراضي مجانًا أو بتسهيلات وعمل مجلس الإنتاج القومي مستشارًا فنيًا للرأسماليين، يدرس لهم المشروعات ويقدمها صالحة للتنفيذ، ومع ذلك عزفت الرأسمالية عن المشاركة في المشروعات الجديدة. وظلت تركز اهتمامًا على الاستثمار في الصناعات الخفيفة والمباني السكنية، وكانت النتيجة هبوطًا في الإنتاج الصناعي بمعدل 4% عام 1954م، بينما كان قد وصل إلى 6% عامي 1949. ومن هناك آن للثورة أن تبحث عن سبيل آخر للتنمية لا يعتمد على رأس المال الأجنبي ولا على رأس المال المحلي الخاص، بعد أن خذلها الرأسماليون الأجانب والمصريون، وبعد أن تعرضت جهودها للتصنيع والتنمية للمضايقات والمتاعب منهم، مثل رفض البنك الأهلي تمويل تجارة القطن والمضاربة على سعر الجنيه المصري في الخارج وتهريب الأموال أيضًا”.
للحديث بقية، إن كان في العمر بقية.
*انظر صفحتي 468 و469 من كتاب “ثورة الجنرال” للدكتور رفعت سيد أحمد طبعة 1993 من دار الجيل-بيروت ودار الهدى-القاهرة.