لم تكن ليلة الخميس الماضي التاسع من يونيو/حزيران ليلة عادية على جماهير كرة القدم المصرية وعلى المصريين بشكل عام؛ فقد واجه فريقنا القومي المنتخب الإثيوبي في إطار كأس الأمم الأفريقية، وتقدم فيها الإثيوبيون بهدفين مقابل لا شيء للمصريين.

والمتابع لردود فعل الجماهير على وسائل التواصل الاجتماعي لن يحتاج إلى جهد كبير ليدرك الغضب العام الذي أصاب الجماهير لهذه النتيجة؛ فلم تكن مجرد مباراة بالنسبة للمصريين الذين يخضون على امتداد عقد كامل من السنين مفاوضات لا نهاية لها مع الإثيوبيين حول سد الألفية الذي يهدد المصريين في صميم وجودهم أو على أقل تقدير سوف يصيبهم بضرر بالغ.

وفي هذا السياق الملتبس والمشحون أخذت المباراة معنى رمزيا كبيرًا، بحيث يصح القول: إنها لم تكن مجرد مباراة، ولم تكن خسارة المصريين مجرد خسارة لفريق راسخ في اللعبة وكثيرا ما انتزع اللقب الأفريقي الكبير، والعكس صحيح أيضًا؛ إذ لم تكن مجرد مباراة بالنسبة للإثيوبيين (حكومة وشعبًا) ولم يكن فوزهم مجرد فوز ..!

فكيف بات الرمز (لعبة كرة القدم هنا) بديلا عن المرموز، وهو الصّراع حول حصّة المصريين من المياة؟

علميًا، وعلى الأرض، يدرك المصريون أن فوز فريقهم القومي– إذا قُدِّر له الفوز- لن يترتب عليه أي أمر فعليّ؛ فلن تقرّ لهم أثيوبيا بحصتهم التاريخية في مياه النهر، ولن تبرم اتفاقًا ملزمًا يتناول النقاط الخلافية حول فترات الملء ولن تشركهم في تشغيل السد.. ولست في حاجة إلى من يذكرك بأننا الآن في انتظار الملء الثالث، وبعدها سيغدو السد- فيما يقول الخبراء والمتابعون- أمرًا واقعًا، وحقيقة محصنة بشكل ذاتي..!

يعرف المصريون أنها مجرد مباراة لن يترتب عليها شيء مادي أو مكاسب على الأرض، ولكنهم – على الصعيد النفسي- سوف يشعرون بالبهجة حين يهزمون خصمهم رمزيًا في المباراة؛ فأن تُسدِّد الكرة في شباك خصمك ثم تتابع مشاعر الهزيمة والضيق على وجوه اللاعبين والجماهير المناوئة هو انتصار رمزي، أو قل انتقام رمزي.

الأمر في كرة القدم هنا أقرب ما يكون إلى المغالطة المنطقية الشهيرة التي تعرف بـ”مهاجمة رَجُل القَشّ” التي يعرفها الدارسون في المغالطات المنطقية، وفيها يقوم خصمك بالاعتراض عليك، ولكنه لا يهاجم فكرتك التي تقدمها، وإنما يهاجم فكرة أخرى غير التي تقول بها، إنه يترك عامدًا ما تقوله لأنه حصين متماسك ويصعب تقويضه، ويعمد إلى فكرة أخرى هشّة أو سهلة، يمكنه دحضها أو إظهار تناقضها رغم أنك لم تقلها. إنه يفعل ذلك لأدنى شبهة بين الفكرتين، كأن تذكر مثالًا توضيحيًا فيترك الفكرة الأصلية ويتمسك بالمثال ويعترض عليه، إنه بهذا يحاول إفقار فكرتك أو امتصاص قوتها وإزاحتها إلى ركن بعيد.

وهذا الجهد العقلي العقيم -سواء حسنت النية أو ساءت- يشبه أن يكون رميًا لخصم من القشّ بدلا من الخصم الحقيقيّ، أو قصفًا لنموذج هيكلي لكتيبة عسكرية بدلا من قصف الكتيبة الحقيقية!

وإنه لأيسر كثيرًا أن تنازل رجلا “دمية” من أن تنازل رجلًا حقيقيًا، أو تنازل فريقًا لكرة القدم من أن تنازل المفاوضين العتاة أو أن تسدد إلى شباك الفريق الخصم بديلا عن التسديد إلى جسد السد..!

وتعود التسمية (رجل القش) –فيما يقول عادل مصطفى– إلى القرون الوسطى، حيث كان المتدربون على السيف يستخدمون دُمية محشوة بالقش تُمثّل الخصم، ويعدّ طعن الدمية طعنًا للخصم، ويمكنك بالتأكيد أن تجد تجليات هذه الفكرة في الاحتجاجات السياسية في عالمنا المعاصر، حيث يرفع المحتجون دمى رمزية لسياسيين أو غيرهم، ثم يقومون بإحراقها نهاية المظاهرة.. إلخ

وتعود هذه التصورات الرمزية لمرحلة أبعد في الفكر البدائي، حيث تتلاشى المسافة بيت الرمز والمرموز، ويقوم الجزء بوظيفة الكل، ويعامل اسم الشخص أو خصلة من شعره أو أي أثر من آثاره كأنه بديل له”.

وهذه التجليات البدائية يمكنك أن تتابعها في الثقافة المصرية القديمة، فقد كان الملوك يرسمون أعداءهم صرعى على جدران معابدهم قبل الذهاب إلى الحرب، فأن ترسم الأعداء منهزمين على جدران المعابد فهذا مؤذن بهزيمتهم في ساحات المعارك..!

وشيء من هذا هو ما جرى يوم الخميس الماضي، حيث تحولت المباراة – بالنسبة لملايين المتابعين – إلى مهاجمة رجل القش، وكان على اللاعبين أن ينالوا منه، ولأن ذلك لم يحدث أو حدث العكس تمامًا، فقد ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بالغضب، حيث خذلهم فريقهم إلى أقصى حد..!

كل هذا مقبول بالنسبة لنا ولغيرنا من الأمم، ولكن اللافت أن المناقشات التي تابعت الموقف من المباراة لم تذكر السّد، ولم تتناول خطورته من جديد، وإنما وجهت انتقادها للفريق الذي توحّدت به عبر الشاشات وأغضبها أنه لم يفلح في تسديد ضرباته في مرمى الأثيوبيين، لم تناقش أزمة السد أو مخاطرة على الحياة بما يكفي، ولكننا انشغلنا برجل القش الذي لم نتمكن من إصابته وهزيمته.

الإنسان كائن رمزي

الإنسان بطبيعته كائن رمزي، ينتج الرموز في كل مجالات الحياة، من اللغة والفنون إلى العمارة والأخلاق والدين والأساطير؛ فالرمز ليس وسيلة تعبير فحسب، وإنما هو جزء من هويته وموقفه. الرمز هو مسرح الحضور الإنساني في عالم الأشياء. الرموز تحيط بالعالم المادي، تلازمه كظله، تحاول فهمه أو تجاوزه أو السيطرة عليه.

وهنا يأخذ ملعب كرة القدم شكل ساحة النزال على مستوى التخيل والشعور، إنه يقوم بديلا عن ساحة النزال السياسي أو العسكري، خاصة حين يفشل الخيار الأخير أو يغدو أمنية يصعب تنفيذها في الواقع، وكلما بدا الواقع بعيدًا وعصيًا زاد حضور الملعب ولم تعد الكرة مجرد لعبة رياضية، وإنما ساحة نزال رمزية تختزل أبعاد النزال الطبيعية أو تقوم بديلا عنها.

والحقيقة أن كرة القدم بالذات، ونظرًا لما لها من شعبية كاسحة، قد اتخذت منذ البدايات الأولى أداة للهيمنة والاستغلال وعولمة القيم والأخلاق، ولعلك تتذكر أزمة اللاعب السنغالي إدريسا جاي ورفضه أن يكون جزءًا من العولمة الأخلاقية برفع شارة المثليين. وفيما يخص العلاقة بين كرة القدم والإمبريالية يمكنك أن تعود إلى كتاب “الإمبريالية والهوية الثقافية وكرة القدم من إعداد كريستوفر فيرارو، نشره المجلس القومي للترجمة 2006م.

لقد أخذت الملاعب اليوم بعدًا “طوطميّا” (الطوطم: كائن خرافي تدين له بعض القبائل البدائية بالعبادة والتقديس، ويكون غالبًا نباتًا أو حيوانًا، وهو الصيغة الرمزية لوجود القبيلة وهويتها، حيث تعرف بها وسط القبائل الأخرى، ويأخذ بالتأكيد بعدًا مقدسًا باعتباره مصدر الحماية.. ويمكنك إسقاط هذه الفكرة البدائية على جماعات الأولتراس وتطرفها الشديد في الولاء لأنديتها ورموزها وأعلامها وعدم تسامحها في أي انتقاد يوجه لها، ويبدو أن شعارا مثل شعار “الأهلي فوق الجميع” لا يخرج عن هذا المدار الذي غادرت فيه كرة القدم حقيقة وجودها من أنها مجرد لعبة رياضية ليس أكثر..!

لنقر إذن بأن الإنسان كائن رمزي، ولنقر أيضًا بأن بعض الرموز تسهم في تعمية الوعي والتغطية على إشكالات الواقع، شأنها شأن المغالطات المنطقية التي تعادي الحقيقة وتنتصر للزيف..!