استقبل الرئيس اللبناني ميشال عون اليوم الثلاثاء فى بيروت، المبعوث الأمريكي “أموس هوكشتاين”، ضمن المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل، حول ترسيم الحدود البحرية. وهي مفاوضات تستهدف الوصول إلى اتفاق ينهى النزاع على مناطق الغاز، ويقلل فرص نشوب صراع عسكري بين الطرفين.
المفاوضات تأتي في توقيت حساس. إذ تعقب تنقيب إسرائيل عن الغاز في حقل كاريش، في خطوة وصفتها الحكومة اللبنانية بـ”العمل الاستفزازي والعدائي”. الأمر الذي يأتي ضمن سياق إقليمي يتسم بالتنافس على غاز البحر المتوسط، ويتزامن مع أزمة إمدادات الطاقة بعد الحرب الأوكرانية. وكلها أمور تفسر الاهتمام الأمريكي الحالي بالوساطة في هذا الملف.
خلفية النزاع الحدودي بين لبنان وإسرائيل
تشكل مسألة ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان أزمة عميقة، بما تتضمنه من أبعاد صراع متعددة، سياسيًا واقتصاديًا، أدت خلفياتها إلى استمرار المفاوضات لأكثر من عقد دون التوصل لاتفاقية ترسيم حدود تنهي الأزمة. فإسرائيل تسعى للاستحواذ على النصيب الأكبر من الحدود، بينما تفتقد لبنان لقرار سياسي موحد. وقد أدى اكتشاف حقل غاز كاريش (2013) -ويحوي احتياطات تقدر بـ 1.4 تريليون قدم مكعب- إلى تصاعد هذا الصراع. فمسألة الغاز تُمثل ضرورة كبيرة في الفترة الحالية. خاصة مع ما تعانيه لبنان من أزمة طاقة وعجز عن تأمين احتياجاتها من الكهرباء.
أيضًا، تريد إسرائيل ممارسة دور إقليمي في مد أوروبا بالغاز. ونظرًا لعدم الوصول إلى اتفاق بشأن الحدود البحرية بينها وبين لبنان، توقفت عمليات التنقيب عن الطاقة التي تجريها في الحدود المتنازع عليها.
تقف عديد من العوامل وراء صعوبة الوصول إلى حل بين لبنان وإسرائيل في مسألة ترسيم الحدود، تتبدى في تضاعيف حلقات النزاع بينهما منذ تفجره، إذ بدأت المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل بشأن الحدود من خلال تقديم لبنان المرسوم رقم 6433 للأمم المتحدة في عام 2011، للمطالبة بالأراضي البحرية في البحر الأبيض المتوسط. وذلك على مساحة بحرية تقدر بنحو 860 كيلومترًا مربعًا، ويطلق عليها الخط 23، والتي لا تتقاطع مع حقل كاريش.
وبعد مراجعات جغرافية دقيقة من قبل المكتب الهيدروجرافي البريطاني ثم الجيش اللبناني، تبين أحقية لبنان في مساحة إضافية تبلغ 1430 كيلومترًا مربعًا، بما يتقاطع مع حقل كاريش. وهو يشار إليه باسم الخط 29.
في إبريل/ نيسان 2021، وافق رئيس الوزراء المؤقت -آنذاك- “حسان دياب” على مشروع مرسوم لتعديل المرسوم 6433، الذي من شأنه توسيع مطالب لبنان إلى الخط 29 بما يشمل حقل كاريش. ثم أحيل إلى رئاسة الجمهورية للمصادقة عليه.
لم يوقع الرئيس ميشال عون على الوثيقة المطالبة بحقل كاريش ضمن الحق اللبناني بعد، واستمر الوضع هكذا طوال 5 جولات من المفاوضات لم يطالب الوفد اللبناني خلالها بالحق في الخط 29. إلا أنه تقدم مؤخرًا برسالة رسمية إلى الأمم المتحدة يطالب بهذا الحق. وهو الأمر الذي لم يتم اعتماده رسميًا من قبل الحكومة اللبنانية. وهو ما يعكس تخبطًا واضحًا في الإدارة اللبنانية لهذه المفاوضات، وضعف حوكمي وعدم قدرة على وضع استراتيجية واضحة.
تضع إسرائيل هدفًا أن تصبح مركزًا إقليميًا للغاز الطبيعي في المنطقة. وهي تبحث مع الاتحاد الأوروبي إمكانية توريد الغاز عبر البحر المتوسط. لذا تبذل جهودًا حثيثة في مجال البحث والاستكشاف. وفي ظل أزمتها مع لبنان حول الحدود البحرية، تصر على الاستحواذ على حقل كاريش.
وقد أعلنت “إنرجيان”، وهي شركة يونانية بريطانية تستخدمها إسرائيل للتنقيب عن النفط والغاز في حقل “كاريش”، قبل أسبوعين، عن بدء تدفق الغاز في غضون 4 أشهر. وبذلك ينضم كاريش إلى حقلي تمار وليفياثان الإسرائيليين.
على الرغم من تعليق المفاوضات وعدم الاتفاق على حدود واضحة، تقر إسرائيل أن هذه الخطوة لا تتعدى على المياه اللبنانية، وإن منصة كاريش هي أحد أصولها الاستراتيجية. الأمر الذي ترفضه الحكومة اللبنانية، وتعتبره تعديًا على ثروة لبنان المائية، باعتماد سياسة الأمر الواقع في منطقة متنازع عليها.
حزب الله: إطالة أمد النزاع
مؤخرًا، أعلن الأمين العام لـ”حزب الله”، حسن نصر الله، أن “قضية الثروة النفطية والغازية لا تقل أهمية عن تحرير الشريط الحدودي المحتل، وهي تخص كل اللبنانين”.
هذا الموقف يشكل أرضية لزيادة نفوذ حزب الله، وموقعه عسكريًا. وقد سبق ورفض الحزب لفترة طويلة التفاوض مع إسرائيل، بوصفه، اعترافًا بدولة الاحتلال، ويدخل ضمن محاولات للتطبيع.
ويبدو أن هذه المفاوضات ومآلاتها الحالية تمثل فرصة جيدة لشرعنة وجود “حزب الله” كمجموعة مقاومة لمحاولة إسرائيل تحويل أزمة الحدود إلى “شبعا جديدة“، وتأكيد تأثيره (حزب الله) فى عملية التفاوض.
خلال السنوات القليلة الماضية، تمكنت الولايات المتحدة من إقناع الجانبين بالمشاركة في مفاوضات غير مباشرة لتعيين الحدود، وقد طالب كل طرف بمساحة 860 كيلومترًا مربعًا. بينما في وقت لاحق سحب اللبنانيون اقتراحهم وقدموا مطلبًا موسعًا، وكذلك وسعت إسرائيل مطالبها. هنا، تحول الصراع إلى حقل كاريش باعتباره جزءًا من المنطقة المتنازع عليها.
وبعد 5 جولات من المحادثات تحت الرعاية الأممية وبوساطة أمريكية، تجمدت المفاوضات وتم تأجيل الجولة السادسة إلى أجل غير مسمى.
وفي لقائهما الأخير، نقل الوسيط الأميركي، هوكشتاين، إلى الرئيس اللبناني ميشال عون آمال إدارة الرئيس جو بايدن في توصل لبنان إلى اتفاق مع إسرائيل، ما يسمح باستخراج الغاز. بينما أعلن عون تمسك بلاده بالحقوق السياديّة للبنان في المياه والثروات الطبيعية.
وأمام هذا المشهد ورغم الوساطة الأمريكية، هناك احتمالات لنشوب مناوشات عسكرية بين لبنان وإسرائيل بسبب ترسيم الحدود، لا تريدها الولايات المتحدة ولا الغرب. وهذا هو التفسير الأقرب منطقيًا للاهتمام الأمريكي الحالي المتزايد بهذه القضية. فقد أصبح بيد لبنان أداة تعرقل أحلام إسرائيل الطاقوية وعطش أوروبا للغاز في ظل تأثيرات الحرب في أوكرانيا على هذا الملف الشديد الحيوية والأهمية للغرب.