خلال الأشهر الماضية صدرت الدعوات إلى “حوار وطني” من قبل عدة دول عربية هي مصر وتونس والجزائر والسودان وموريتانيا. ورغم تزامن تلك الدعوات إلا أنها جرت وفق سياقات داخلية مختلفة من دولة لأخرى. ولكنها جميعا توحدت تحت راية “التأزم” في إطار الخلافات السياسية الداخلية وانسداد أفق الحل السياسي، والضغوط الخارجية وتبعات التدهور الاقتصادي.
رغم ذلك بدا وكأن شروط الحوار في كل تلك الدول لم تنضج بعد. تأجل الحوار السياسي في موريتانيا والسودان. قاطعت أحزاب سياسية مختلفة ونقابات ونشطاء الحوار السياسي في كل من الجزائر وتونس. وفي مصر لم تتضح ملامح المشهد -الضبابية بالأساس- بعد في غياب اتفاق واضح على المعايير وإجراءات بناء ثقة حقيقية تُثبت حسن النوايا.
ومما يمكن استنتاجه من التقارير المختلفة؛ فإن الحكومات العربية لا يتوافر لديها بعد إرادة حقيقية لخوض حوارات جادة. تُسهم في فتح الأفق المسدود وتتمسك بسرديتها ورؤيتها التي يعني النكوص عنها أنها ارتكبت خطأ وتتراجع عنه -وهو ما لم يحدث بالطبع وفقا لمنظورها. وأما أحزاب المعارضة فقد جرى لها ما جرى من تجريف وضعف وتشرذم سواء بفعل الضربات الأمنية المتلاحقة أو نتيجة اختلالات داخلية تآكلت معها منظومتها القيمية والسياسية.
اقرأ أيضًا: حوار الجزائر: “لم الشمل” أم “حوار الذئب مع ذيله”؟
موريتانيا: ارتداد للخلف
لأكثر من عام جرى التنسيق بين النظام السياسي برئاسة محمد ولد الشيخ الغزواني، وأحزاب المعارضة المختلفة، ومن بينها أكبر أحزاب المعارضة حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية “تواصل” (مرجعية إسلامية) لعقد حوارًا وطنيًا. ولكن بجرة قلم وفي الثاني من يونيو/حزيران الجاري علّقت السلطة الحوار ما اعتبرته الأحزاب المعارضة “طعنة في الظهر”.
لم تكن هذه الدعوة الأولى إلى الحوار التي تفشل ففي عام 2015 تكرر الأمر أيضا. لكن الفارق أن الرئيس “غزواني” الذي وصل إلى الحكم في “أول تداول سلمي للسلطة في تاريخ البلاد” (أغسطس/آب 2019) قام برنامجه على فكرة الحوار المجتمعي لحل المشاكل وأبرزها أزمة الرق. إذ ما تزال موريتانيا تعاني ظاهرة العبيد رغم النصوص القانونية التي تجرمها.
رغم ذلك ولعامين تجاهل “غزواني” فكرة إقامة الحوار. وقال في مقابلة مع “فرانس 24” العام الماضي إنه “حينما نتحدث عن الحوار الوطني فإن ذلك يعني أننا في وسط أزمة. وهذا ليس الوضع في موريتانيا”. أعقب ذلك تصعيد واضح من أحزاب المعارضة (الممثلة في البرلمان) التي كانت تقدمت بخريطة طريق لتنظيم حوار سياسي مع الحكومة قبل 7 أشهر من تصريحه.. ورضخ “غزواني” في النهاية.
تعهد الرئيس الموريتاني في سبتمبر/أيلول من العام الماضي بتنظيم حوار سياسي شامل قال حينها إنه “لن يستثني أحدا ولن يحظر فيه أي موضوع”. جرت التحضيرات والنقاشات على مدار تلك الأشهر قبل أن تعرف خلال الفترة الماضية انسحابات من عدة وجوه معارضة بارزة اعتبرت أن إرادة النظام للحوار غائبة.
ومع مطلع الشهر الجاري، أعلن الأمين العام للرئاسة الموريتانية، تعليق مسار الحوار السياسي لأن “السياق الحالي لا يخدم الأهداف التي يسعى الحوار لتحقيقها”. وأوضح أن تعليقه لا يعني إلغاءه “وإنما إعادة الكرة إلى الطيف السياسي للاتفاق على مسار شامل يشمل جميع الأطراف بدون استثناء. لتظل التهدئة السياسية قائمة بين جميع الأطراف وأن لا يتم إقصاء أي طرف”.
“السلطة لم ترتب للحوار بشكل جيد”
وتُرجع الحقوقية الموريتانية، مكفولة بنت إبراهيم، الانسحابات إلى أن “السلطة الحالية منذ البداية. ربما لم ترتب للحوار بشكل جيد أو لم تتوقع حصيلة المشاورات التي توصلت لها اللجنة التحضيرية، وإلا كيف نفهم توقفه فجأة!”.
وتابعت: “كمراقبين مهتمين بتجذير الديمقراطية، نعتبر أن أحزاب المعارضة تحوّلت لما يشبه الموالاة، وباتت تُجامل الحكومة في كل شيء. الأمر الذي نسف مصداقيتها وشرعيتها لدى المراقبين، وذلك بعدما أعلنت دعمها للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني ومشاركتها في حكوماته التي لم تنجز أيّا من وعوده”.
المعارضة: توقف الحوار “طعنة في الظهر”
وفي بيان مشترك، وصفت 6 أحزاب معارضة ما جرى من قبل السلطة بأنه “طعنة في الظهر ولا أساس للحجج المبررة له”. وقال البيان، إن الأحزاب الستة “شعرت بطعنة في الظهر، جرّاء وضع حد للاستعدادات للحوار بصفة قسرية، عشية افتتاح ورشاته. مما يقضي على عامين من الجهود الحثيثة والنيات الحسنة على الجانبين”. وحملت هذه الأحزاب سلطات البلاد المسئولية الكاملة عن “انهيار الحوار والعواقب التي قد تترتب على ذلك”.
وأضاف البيان، أن موريتانيا “تحتاج أكثر من أي وقت مضى، إلى تقوية اللُحمة الوطنية وتعزيز الاستقرار. في مواجهة التهديدات النّاجمة عن المشاكل المتعددة والمرتبطة بوحدتها، وتنميتها، في سياق تطبعه تحديات كبرى على المستويين الإقليمي والعالمي”.
تقول “بنت إبراهيم”: “حسب أحزاب المعارضة، فإن أمرا صدر بإيقاف الحوار دون إخطار أعضاء من اللجنة التحضيرية محسوبين على المعارضة. وهو ما يعني أن السلطة لا يعجبها محاور وبنود هذا الحوار، وكما دأبنا، فإن الإرادة السياسية للسلطات لا تريد حوارا لا يصب في مصلحة النظام القائم أو الدولة العميقة”.
الحزب الحاكم: المعارضة تتحمل مسئولية توقف الحوار
في المقابل، اعتبر حزب “الاتحاد من أجل الجمهورية” الحاكم أن قرار تعليق الحوار “يلبي متطلبات المرحلة السياسية والوطنية”. فيما اعتبر الرئيس السابق للحزب، سيدي محمد ولد محم، أن المعارضة هي التي تتحمل مسئولية وقف الحوار “نظرا لمقاطعة العديد من أحزابها وشخصياتها للحوار دون مبرر معلن ومقبول وباقتراحهم لمواضيع لا تشكل تباينا بين القوى الوطنية في عهد التهدئة والتلاقي بغية إحداث هذا التباين وخلقه”.
ووفق المحلل السياسي أحمد سالم ولد يب خوي، في حديث لوكالة “الأناضول“، فإن “تعليق الحوار سيتسبب في توتير الأوضاع السياسية وعودة السجال بين القوى السياسية”. واعتبر المحلل الموريتاني أن “تعليق الحوار يعني نهاية أجواء التهدئة السياسية القائمة منذ أن تسلم الرئيس ولد الشيخ الغزواني الحكم”.
لكنه استبعد أن يكون للحراك المتوقع للقوى المعارضة أي تأثير على المشهد السياسي في البلد. “نظرا لأن أحزاب المعارضة غير منسجمة وتعاني التشرذم والانقسام”، وفق تقديره.
واختتم بأن “التجمع الوطني للإصلاح والتنمية (أكبر أحزاب المعارضة) سيكون مشغولا خلال الأسابيع القادمة بالتحضير لمؤتمره العام. فيما تعاني بقية أحزاب المعارضة من أزمات داخلية تجعلها غير قادرة على التصعيد ضد النظام، وستظل ردود فعلها على القرار مجرد تصريحات لا أكثر”.
السودان: حوار ولد ميتًا
لم تمر أيام قليلة على انطلاق الحوار السياسي في السودان حتى أعلن متحدث باسم الأمم المتحدة (في الثاني عشر من يونيو/حزيران الجاري) أن الجولة الثانية من الحوار لحل الأزمة السياسية هناك. قد أرجئت إلى أجل غير مسمى بسبب تواصل غياب كافة القوى الأساسية الفاعلة في الشارع، مثل لجان المقاومة وتجمع المهنيين وقوى الحرية والتغيير.
وانحصر حضور جلسة الحوار الأولى، في المكون العسكري والمجموعات المؤيدة للإجراءات التي اتخذها قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان. وقال ممثل الاتحاد الإفريقي، محمد الحسن ولد لبات، إنه “لا يمكن الوصول إلى حل للأزمة، دون مشاركة الفاعلين الأساسيين المعتذرين عن الحضور”.
أتى هذا في الوقت الذي تتواصل دعاوى إسقاط النظام والاحتجاجات الشعبية في معظم المدن السودانية. للمطالبة بالحكم المدني الكامل وتحقيق أهداف الثورة بعدما انقلب عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي. في 25 أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2021، على الشراكة المدنية.
وقد وجدت الدعوة للحوار تأييدا ودعما دوليا وإقليميا كبيرين في محاولة للتوصل إلى أفق سياسي يعيد مسار الانتخابات. وتمت الدعوة للحوار من قبل الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي ومنظمة دول شرق ووسط إفريقيا للتنمية “إيجاد”.
ومع انطلاق الحوار انتعشت الآمال لدى البعض بأن يفضي لحل أزمة البلاد، باعتبار أنه سيجمع الأطراف السودانية من مدنيين وعسكريين. للعمل على إيجاد حلول للفترة الانتقالية وصولا للانتخابات، بحسب “بي بي سي“.
اللاءات الثلاثة حاضرة رغم الحوار
ورغم ذلك تمسكت قوى المعارضة المدنية والشعبية بشعار “اللاءات الثلاثة الجديدة”: لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية. إلا أن بعض القوى دفعت بمطالب لتهيئة الأجواء قبل الدخول في أي حوار وعلى رأسها “إعلان الحرية والتغيير المجلس المركزي” (الائتلاف الحاكم سابقا). التي اعتبرت أن تهيئة الأجواء للحوار تتطلب إلغاء حالة الطوارئ، وإطلاق سراح المعتقلين ووقف العنف ضد المتظاهرين.
وقد ألغت السلطات حالة الطوارئ في أواخر مايو/أيار الماضي. كما شرعت في إطلاق سراح عدد من المعتقلين السياسيين، إلا أنها ما زالت تعتقل آخرين، بحسب الهيئات الحقوقية. وقد شكك عدد من المراقبين في صدق نوايا من في السلطة فيما يتعلق بإلغاء حالة الطوارئ. واعتبروا الخطوة مجرد مناورة سياسية لكسب ود المجتمع الدولي من أجل انفراجة تتيح لهم كسب الوقت للخروج من عنق الزجاجة بتسوية تضمن وجودهم في المرحلة المقبلة.
وأجرى وفد من قوى الحرية والتغيير مقابلة “غير رسمية” مع مسئولين عسكريين في محاولة للخروج من المأزق. لكن التحالف المدني اعتبر لاحقًا في بيان أن الحوار “حل سياسي زائف” و”يشرعن” الانقلاب.
وقال عضو المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، شريف عثمان، لموقع “سكاي نيوز عربية“، إن رفضهم المشاركة جاء بسبب “عدم تنفيذ الكثير من مطالب الجلوس للحوار”، مشيرا إلى “استمرار العنف ضد المتظاهرين، وعمليات الاعتقال حتى الآن”.
بدوره، أبدى الخبير الاقتصادي والسياسي، صدقي كبلو، استغرابه من الإعلان عن بدء الحوار، دون برنامج واضح أو تحديد للأطراف المشاركة. وأضاف “أي حوار لا يحظى بمشاركة قوى الثورة الحقيقية، لن يغير في الواقع السياسي الحالي، إذ ستستمر الاحتجاجات ويتعقد المشهد أكثر”.